الاثنين 7 تموز (يوليو) 2014

آفة الطائفية والمذهبية

الاثنين 7 تموز (يوليو) 2014 par د. عبد الاله بلقزيز

لا تُولّد الطائفية إلا الطائفية . من يلعب لعبتّها مطمئناً إلى غلبة عددية - حقيقية أو متخيلة - لبني عصبيته، وإلى شوكة لديها في مواجهة سواها من العصائب، أو مطمئناً إلى دعم داعم خارجي راعٍ لمغامرته، لا يقامر بالوطن فحسب: وحدته واستقراره وسلمه الأهلية، بل يقامر برأسه أيضاً . حبْل الطائفية قصير، ومن يركب مركبها هالك لا محالة . هو اليوم قوي بتضامن أهل العصبية “الغالبة” (التي قد تكون غلبتها بفعل غزو خارجي أتى بها إلى السلطة لا بفعل اقتدار ذاتي على الغلب والاستيلاء)، لكنه ينسى أنه يؤسس - بذلك - لتوليد عصبيات طائفية نقيض تبلغ التضامنات الداخلية فيها، عند لحظة من التراكم، حداً تحصل لها بها الشوكة وأسباب المدافعة التي تصير، مع الزمن، مغالبة فغلبة وقهراً . وكما قد يصطنع “الغالب” لنفسه حلفه من المصطنعين من الخارج (المرتزقة الأجانب)، يصطنع “المغلوب” لنفسه، ومن أجل غلبه، مصطنعين من النوع نفسه، فيقذف خصمه بهم .
الطائفية، والمذهبية استطراداً، لعبة سهلة يأتيها قصيرو النظر من الفاشلين في السياسة ومعامعها، والمتحذلقون من طلاب السلطة ممن قد يظفرون بالبغية وإن “بعد خراب البصرة”! ركوبها ميسور ووسائلها في اليد واللسان، تكفيك نفرة “الأهل”، ومخاطبة غرائز النسب والانتساب (= الوهميين)، واصطناع أنا جماعية من طريق المخادعة والاستثمار في الجهل الجماعي، ودغدغة شعور القطيع (= وهو طبيعي وجبلي يتلبس الاجتماع البشري في لحظات ضياعه)، ثم لك حينها أن تبرع في تحشيد الاتباع، من الساقطين في شراك النداء العصبوي، وتجييشهم ضد خصم تصوره لهم في صورة الشر المستطير: إما لانتزاع ما بيده أو لكف خطره . ولكن، ماذا بعد هذا الركوب السهل على مشاعر القطيع؟ بل ماذا حتى بعد حيازة مغانم منه؟
إن راكب العصبية الطائفية (والمذهبية) يدعو خصمه إلى ركوب المركب عينه، للرد عليه بالوسائل عينها، أليس المغلوب بمفقد الغالب في المسلك؟ ولما كانت الأيام دولاً بين الناس والجماعات، ولما كانت أيلولة المدافعة إلى مغالبة واستيلاء، عند لحظة من انقلاب الأحوال والموازين، يكون في حكم القانون إن المغلوب يصبح غالباً والغالب تنكسر شوكته، بعد أن تضعف عصبيته ويدب إليها الوهن . فماذا يفعل الطائفي الغالب، إذاً، غير أنه يدعو المغلوب إلى التماس وسائل غلبه (غلب الغالب)؟!
تعظم المشكلة حين تقترن العصبية بالدين، وتلك حالها في الطوائف، بل هي في العصبيات الطائفية والمذهبية أشد وضوحاً، إذ العصبية التي من جنس طائفي ومذهبي قوامها -أصلاً - على الدين، وهو جامعها الأوحد وإلا انتحلت إلى عصائب عشائرية تتقاتل، أو - على الأقل - تتخاوف (تتبادل الخوف من بعضها) . لكنها إذ تقترن بالدين، تتناهبه وتتناهب النطق باسمه وتمثيله واحتكار ملكيته . كل واحدة منها، عند نفسها، على حق والأخرى على باطل، هي “الدين القويم” وغيرها محرّف في ضلال مبين . وليس بين الفريقين ما يجمع الأشتات ويرتق الفتوق: لا جامع من دين (قسموه بينهم كما تقتسم الغنائم)، ولا جامع من وطن تحالفوا عليه بأسيافهم كل منها يحسب نفسه “الطائفة - الأمة”، ولأن الواحدة منها تحسب نفسها كذلك، لا ترى في غيرها سوى خارجة من الخوارج على “سلطان” الأمة والدين الذي تمثله . وحينها لا تكتفي بما لديها من غنم غنمته من ذهاب الجامع الوطني إلى أفول، بل تمد سلطانها إلى ما بين أيدي غيرها من الخارجة كي تضويها في الجماعة - الأمة .
لم نستخدم القاموس الخلدوني عبثاً، بل حُملنا على ذلك بسبب أن الاجتماع العربي المعاصر ما زال يفاجئنا، حتى اليوم، بكونه ينتمي إلى الأنثروبولوجيا الخلدونية وعالمها الذهني - الوقائعي! أو قل إنه انحدر من العالم الأنثروبولوجي المعاصر، الذي أدخلته إليه الحقبة الكولونيالية والرسملة والتحديث، ومكتسبات الحقبة الوطنية الاستقلالية، إلى عالم أنثربولوجي تقليدي وعتيق وصفه ابن خلدون قبل ستمئة عام ونيف! لم يعد أمامنا، اليوم، مشهد الدولة الوطنية المدنية، والطبقات الاجتماعية، والأكثرية والأقلية السياسيتين، والمواطنين، والوطن الجامع، والسلم المدنية . .، وإنما بتنا أمام مشهد يحتله نظام للسلطة العصبوية، وتقوم فيه الطوائف والمذاهب والعشائر كبنى سياسية واجتماعية، وأكثريات وأقليات ملية ونحلية، ورعايا، وكانتونات عصبوية مغلقة على بعضها، وحرب أهلية مفتوحة على حروب أهلية متناسلة من بعضها . ماذا يجري في العراق، اليوم، غير هذا؟!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2178391

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبدالإله بلقزيز   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2178391 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40