الجمعة 23 تموز (يوليو) 2010

فلسطين خازن الوجود العربي وهويته

الجمعة 23 تموز (يوليو) 2010 par د. فؤاد خليل

عرف الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين جرياناً قوياً للأفكار القومية. فتصدرت الساحة الفكرية مفاهيم الفكر القومي العربي ومقولاته. وقد أعاد هذا الجريان إحياء العروبة هوية جامعة للأمة العربية. وكان فعل الإحياء يقتصر في لحظات دفقه الأولى على بــلاد المشرق العربي. ثم توسع دفقه واشتـمل على مصــر وبلاد المغرب العربي الكبير. بمعنى آخر، لقد أعاد إحياء هوية جامعة للوجود العربي على امتداد جغرافيته التاريخية المعروفة. وأصبح هذا الوجود الهوياتي يتميز عن سواه في نظرته إلى ذاته الجمعية وفي علاقته بالآخر المختلف. ذلك أن الهوية هي الحد الوجودي الذي تتمايز به الذات الفردية أو الجمعية عن ذات فردية أو جمعية أخرى.

تلك اللحظة من إعادة إحياء الوجود الهوياتي للعرب، تزامنت مع نشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. وكان التزامن يقع في باب التاريخ القصدي لا في باب الزمن الصدفوي، إذ جاء يعبر عن مشروع كولونيالي غربي ذي أهداف استراتيجية كبرى. فكان المشروع منذ بواكيره الأول ولمّا يزل، يُسند إلى الكيان «الإسرائيلي» مهمة الحاجز الدولي في الفصل بين شطري الوجود العربي، أي القيام بالوظيفة الاستعمارية التقليدية وهي حراسة التجزئة وتعميقها من أجل أن تتحقق الشروط المثالية لنهب ثروات البلدان العربية الباطنية منها والسطحية على السواء...

لقد نهب الغرب الاستعماري فلسطين حالما قطع التواصل في الجغرافيا العربية وأنشأ على أرضها الكيان «الإسرائيلي». وربما دار في خلده أن انقضاء الزمن على المنهوب يدخله طيّ الهدر والفوات التاريخي...

لكن سيرورة النهب والاستيطان والتهديد لم تفلح طيلة قرن من الزمن في إسقاط فلسطين والوحدة بوصفهما حدّين من حدود الوجود الهوياتي العربي. ومعنى الحـد هنا، أنه لازمة هذا الوجود، وأن الأمة تتشبّع من هويتها به. وحين يتحقق الإشباع الهــوياتي، يرتقي الحد إلى منـزلة الجوهـر في الوجــود العــربي ويغدو روحه التاريخي المتجسد في حاضر الأمة، أو في وجود عربي فاعل في المدارين الإقليمي والدولي...

على هذا شهدت السياسة العربية المعاصرة على كل من وعى حقيقة هذين الحدين، كما على كل من رفضها أو أهدرها تحت عناوين شتى.

إن النظام العربي الذي جعل فلسطين جزءاً من بنية فكره السياسي، ورأى إليها قضية تلازم الوجود العربي؛ حصل على شرعية وطنية موصوفة، وحفظ كيانه المجتمعي من مغبة التشظي أو التفكك، وأبقى جذوة الحياة حارّة في هوية الأمة. والرئيس الذي صيّر فلسطين والوحدة، استراتيجية عربية تطبع نهجه السياسي وترسم أفق علاقاته العربية الدولية، استقر في ذاكرة العرب على صورة قائد أو بطل أو زعيم...

وفي هذا المساق، قدم المشروع الناصري مثالاً نموذجياً في بابه. فعبد الناصر حاز مكانته المعهودة عندما بنى مكانةً للوجــود الــعربي. لقد أقام العدل بين الناس (سياسات التأميم). فتحول إلى قائد وطني؛ وغلبت الوحــدة الداخلية في بلاده على قواعد انقسامها. وعندما انتمى إلى فلسطين وقاتل الاستعمار، أصبح بطلاً قومياً. وحينما أقام الوحدة بين مصر وسوريا وتجاوز الحاجـز الدولي الكولونــيالي، صار زعيماً عربياً. إذ ذاك تشبعت الأمة من هويتها الجامعة. وأحرز الوجود العربي مكانة غير مسبوقة. وغدت فلسطين جوهره أو روحه التاريخي. فكان أن تراجعت مشكلة الأقليات وانتظم المشهد العربي على قواعد الانقسام السياسي، لا وفاق أعراف الما قبل سياسي وتقاليده. إنه زمن الزهو القومي والفعل الأنطولوجي. وقد استحق هذا الزمن أن يتحول إلى زمن نوستالجي في المخيال الشعبي في طول البلاد العربية وعرضها.

والنظام العربي الذي همّش فلسطين في فكره السياسي وحصرها في الدائرة الفلسطينية، تخفف من هوية الأمة بعدما تـثاقل منها. وذهب إلى أولويات كيانية ضيقة، فأضعف شرعيته الوطنية وعرّض كيانه المجتمعي إلى خطر الاختلال البنيوي أو التشظي إلى مكونات طائفية أو قبلية متنابذة، والرئيس الذي جعل فلسطين بنداً ثانوياً على جدول أعماله وتخلى عن أي استراتيجية قومية، تحول إلى حاكم تابع لا همّ حقيقياً له سوى أن يكرّس اعتراف متبوعه به؛ أو إلى شيخ صلح يعمل في خيمته الحضارية أو في قصره الصحراوي على مسخ القضايا المصيرية إلى منازعات بين أطراف متخاصمة.

وها هو المسمى نظام الاعتــدال العـربي يعرض مثاله الصارخ في هذا المضمار. لقد وقّع بعضه معاهدات الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني. وراح يشرّع صلــحه باسم البراغماتية الخلاقة ويعد الملأ في بلاده بما سوف تأتيهم به هذه البراغماتية من تنمية وازدهار «فائقين»! أو بما سوف يجنون من «مردود تحديثــي» عـلى صعيد حياتهم المعاصرة. كما راح يوظفــها في تبخيس مرحلة الزهو القومي، وينـزلها منـزلة المرحلة «الكارثية»، أو في أحسن الأحــوال في طور الماضي السقيم. وبكلام آخر، لقد حاول هذا النظام أن يسحب فلسطين من الوجود الهوياتي العربي، وأن يطوقها في معزل كيــاني ضيق أو أن ينهبها بغزوة عربية لكي يستدر عطف إسرائيل ويسوّغ سياسة متبوعه الإمبراطوري.

وتابع النظام «البراغــماتي» أو مـا قد يسمى في قاموس غرائب المصطلحات النــظام اللـيبرالي القبلي أو الديمــوقراطي السلالي، سيــاسته في «الاعتدال الواقعي» و«العــقلانية الرشيدة». ولم يلبث رشده العقلاني أن جعله يقلب مكامن أو مصادر الخطر على هوية الأمة. وهكذا، استبعد الخطر «الإسرائيلي» على الوجود العربي وأحلّ مكانه الخطر الإيـراني. وكان برهانه «الواقعيّ» على ذلك أن إيـران تهدد العرب بقنبلة نووية ما زالت مفترضة، بينما «إسرائيل» تحمي أمنهم بمئتي قنبلة نووية حقيقية!

ثم تفتق «منطقه المعتدل» عن مقولة «البلد أولاً». وهي مقولة تحيل في قياسه الشكلي إلى مزاعم الدفاع عن الدولة وحفظ السيادة الوطنية والأمن الوطني. بيد أن القياس الجدلي استصرح الواقع وسأل : إذا كان نظام الاعتدال العربي قد طبّع علاقاته مع «إسرائيل» بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فمن يهدد سيادة بلده وأمنه الوطني؟ الجواب عنده جاهز وهو : إن التهديد يتأتى من تدخل إيران في الداخل العربي ومن المقاومة في فلسطين ولبنان... ولكن حين تتدخل إيران من بوابة فلسطين وتدعم المقاومة ضد الكيان الصهيوني؛ تنكشف مزاعم هذا النظام على مستورها الحقيقي، إذ تصبح مقولته الفعلية ذات معادلة واضحة هي : ضد المقاومة أولاً وفلسطين تأتي أخيراً.

وتُظهر المعادلة هنا أن أصل الاعتدال ينبع من رفض خيار المقاومة أو فكرة المقاومة بغض النظر عمّن يجسدها. فهل كان لنظام الاعتدال العربي أن يدعم مقاومة تجسدها تشكيلات مجتمعية وسياسية غير «حماس» وحزب الله؟ بالطبع لا. ذلك أن هذا النظام يتوسل الصلح مع «إسرائيل» وليس لديه إلا «مبادرة سلام وطاولة»!، ويدعم السلطة الفلسطينية التي لا تملك من السياسة سوى عنوان وحيد هو : حدثني التفاوض قال...

أما وعوده، فقد انقلبت إلى نقائضها. فالتنمية تعادلت مع التهميش المتمادي للخلق. والازدهار تنامى مع أسطورة الأمية! والدولة استحالت سلطة سلالية لأن السماء خصت الحكام العرب بالسلطة، ولا مردّ لأحكام السماء. والوحدة الوطنية تجبّبت إلى أفخاذ وبطون قبلية وطائفية. وهذه مواد أولية للفتنة التي تهدد الوجود العربي.

وفي خضم ذلك كله، كان الاعتدال العربي يستثمر الانقسام الفلسطــيني، لكي يبتــعد عن فلسطين وعن روحها التــاريخي. لكن مجريات الواقع منذ غزو العراق حتى اليوم أثبتت، أن العرب من دون هوية جامعة، يتحولون إلى طوائف ومذاهب لا تتعارف إلا على الفتنة الأهلية المدمرة. كما أثبتت في الوقت عينه أن جريان الأفكار التي تنشد إعادة بناء هذه الهوية لم ينقطع، وأن فلسطين ما زالت رغم كل شيء خازن الوجود العربي من تهافت مصيره وإفلاسه...



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 39 / 2165820

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165820 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010