حرب الأنفاق

الحرب بحد ذاتها نفق مظلم طويل، خصوصاً عندما يصبح لكل طرف فيها معياره الخاص في النصر والهزيمة، لكن هناك حروباً في التاريخ حملت أسماء ذات دلالات، منها حرب الشوارع وحرب الأرض المحروقة وحرب الماء . وفي عصرنا احتشدت كل الحروب في حرب واحدة، ليس فقط بسبب التقدم التكنولوجي، وتطوير القوة الإبادية للسلاح، بل لأن ما كان يسمى الكوابح أو الروادع الأخلاقية بدأ ينقرض، شأن ظواهر عدة أفرزها التاريخ البشري بدوافع إصلاحية وتنويرية، وحين نقرأ عن تاريخ الحروب في العالم كالتاريخ الذي أوجزه ويل ديورانت فإن ما مر من فترات سلام هو مجرد هُدنة مؤقتة، يعيد فيها المهزوم حساباته ويعيد فيها المنتصر شحذ أسلحته، لهذا فالتاريخ بوجه عام كان ولا يزال حرباً لا تلوح لها نهاية . وقد يُطلق مؤرخو المستقبل على واحدة من حروب عصرنا حرب الأنفاق وهي تدور في باطن الأرض، فالجغرافيا توظف أيضاً كسلاح، هذا ما فعله الروس في الحرب العالمية الثانية عندما تحالف الجليد على بعد أميال من موسكو معهم ضد الألمان، وهذا أيضاً ما فعلته الغابات والمستنقعات في فيتنام، ولو أردنا إضافة حرب أخرى من تلك التي كانت ساحاتها الجبال فهي ما يسميها أرنست همنغواي حرب البِغال، لأن هذا الحيوان كان حامل العبء الأكبر في التسلق وقطع المسافات، ويقول همنغواي إن بعض البغال كانت تنتحر بإلقاء نفسها وحمولتها من رؤوس الجبال عندما لا تقوى على الاحتمال . وقد راهنت بعض البلدان الحارة على انتصارات تكون الشمس فيها هي الحليف، وهذا ما قاله بعض الجنرالات المتقاعدين وخبراء الهزائم أثناء حرب الخليج، فقد قال بعضهم إن شمس العرب ستذيب الجنود الأنجلو ساكسونيين كالزبدة، وتلك بالطبع حكاية أخرى .
حرب الأنفاق لها دلالات تتجاوز الجغرافيا والجيولوجيا إلى ما هو أبعد وهو إشراك الأرض ذاتها من خلال إفراغ أحشائها في الحرب، لكن النفق كالأبواب له وظيفة مزدوجة فهو يصلح للدخول والخروج، ويبقى الأمر في النهاية متعلقاً بالقدرة على التحكم في الباب .
وحين تصر حكومة نتنياهو على استكمال حربها ضد الأنفاق فذلك أمر ذو دلالات ما بعد عسكرية، ويصدر عن نزعة إسبارطية لا تقيم وزناً لأي شيء غير القوة، لكن للقوة حتى عندما تفيض نقطة ضعفها، كما أن للضعف نقطة قوته، لهذا استمر التاريخ ولم تستطع أكثر من عشرين إمبراطورية مرت على هذا الكوكب تدجينه لمصلحتها .