الأربعاء 6 آب (أغسطس) 2014

تنتصر الهمجية لحين والحضارة في كل حين

الأربعاء 6 آب (أغسطس) 2014 par فيصل جلول

الهمجي بالتعريف المشترك بين الحضارات القديمة والحديثة، هو المتوحش وغير الأليف وغير المتمدن والذي يعتمد في حياته على شريعة الغاب . ولعل هذا التعريف أشمل وأهم من الوصف التبسيطي والعدائي الذي كانت تطلقه الحضارتان الإغريقية والرومانية على البربري، إذ كان الناس في روما وأثينا يعتبرون كل امرئ بربرياً لمجرد جهله باللغتين الإغريقية والرومانية من دون الأخذ في الاعتبار انتماءه لحضارة مختلفة ولغة مختلفة لها شريعتها وقوانينها وطرق تمدنها .
في ذاكرتنا العربية صور متعددة عن الهمجية، من أبرزها هجوم المغول على بغداد بقيادة هولاكو، وقتلهم الناس جماعات، ورميهم من أعالي الأبراج، وإلقاء بعضهم في النهر، وحرق وتدمير وإغراق مكتبة بغداد والعبث بشوارعها وحدائقها إلى غير ذلك من مظاهر التوحش . وكان البغداديون على علم بتوحش المغول . وتكاد تكون صور الهمجية لدى المغول واحدة فهم يبادرون باقتحام قرية أو بلدة أو مدينة ويرتكبون الفظائع فيها ويتعمدون نقل أخبارها إلى القرى والبلدات والمدن الأخرى التي تخاف من مصير مشابه فتستسلم من دون قتال . لا يختلف همجيو عصرنا المنحط عن همجيي المغول والقرون الوسطى، فهم أيضاً يناهضون التقدم والتمدن والشرائع الحقوقية ويعتبرون كل من ليس مثلهم جديراً بالموت أو الخضوع . ولعل الصور التي ينشرها الهمجيون على مواقع التواصل الاجتماعي تشي باستراتيجيتهم، فهم يتقصدون تصوير الرؤوس المقطوعة حتى لا يجرؤ أحد على اعتراضهم ومقاومتهم، ولا يحاكمون ضحاياهم لأن العدالة تفترض أن المذنب ارتكب ذنباً يوجب عقاباً متناسباً، في حين نراهم يعتبرون أن وجود الآخر بكليته وهويته وبأثره وأثر أجداده هو وجود مذنب، وبالتالي لا حاجة لبقائه على قيد الحياة، ولا حاجة إلى بقاء أثره وأثر من سبقه .
وبما أن الحضارة بكافة أشكالها عدو الهمجيين، فقد جمعوا كل الوسائل التي يستخدمها الناس كالموسيقى والشعر والكتب الحديثة وأحرقوها في الساحات العامة . وبما أنهم لا يؤمنون بأي دين أو مذهب سابق عليهم، فقد دمروا أضرحة الأنبياء القدامى والأولياء وكل أثر للتعبد، لا فرق في ذلك بين مقام النبي يونس والنبي شيت في العراق أو تمثال الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري في بلاد الشام .
إن مقارنة بين حال الرقة في القرون الوسطى وحالها اليوم، تظهر الفارق بين الهمجية والحضارة عند المسلمين . فالرقة كانت عاصمة عالم الفضاء العربي الشهير أبو عبدالله البتاني الذي وصفته “ناسا” الأمريكية ببطليموس العرب نظراً للاكتشافات العلمية الهائلة التي توصل إليها في القرن العاشر ومن بينها أيام السنة الشمسية وحركات القمر والأرض والشمس . وقد رسمت “ناسا” الأمريكية اسمه وأسماء علماء عرب آخرين على سطح القمر .
في الرقة اليوم سيطرة همجية لجماعات تعتقد أن الله لم يهد أحداً سواها، وأن على خلقه أن يلتزموا شريعتها تحت طائلة الموت وتقطيع الأوصال . في الرقة حيث كان البتاني يثبت مناظيرها لرصد القمر والنجوم، يهدد همجيو المكان بتدمير سد الفرات وإغراق الحرث والزرع .
ومن خصائص الهمجية أنها لا تهتم بالتصنيفات السابقة على ظهورها، وبالتالي لا تعتبر القتال ضد الصهاينة أولوية، وعليه نفهم لماذا دان الداعية اليمني البتاري الريمي قتال المقاومة الفلسطينية لحماس، مفترضاً أنه قتال جاهلي “يهبط القاتل والمقتول فيه إلى النار” بحسب محطة سي إن إن العربية .
بعبارة مختصرة يمكن القول: إن الهمجي هو الذي يقصي كل مختلف عنه بالحديد والنار، ويسعى إلى إقامة عالم متوحش يبنى وجود المرء فيه على الخوف والخضوع .
وهرمية الطغيان نتبين ملامحها من الإجراءات التالية في مواقع الهمجيين:
اعتماد قراءة دينية واحدة متزمتة وكل ما عداها يجب أن يندثر، إلغاء أي من ظواهر الحداثة في هذا المحيط، وتفقد المرأة كل حق وينحصردورها في الجنس والإنجاب والأغراض المنزلية، والتربية المدرسية محصورة بعلوم الدين وفق ايديولوجيا الجماعة واستبعاد الكتب الحديثة، وتكفير كل مختلف بغض النظر عن اختلافه، وبالتالي جعله هدفاً لكل أنواع القتل الفردي أو الجماعي .
يفصح تاريخ الهمجيات المعروفة عن أنها كانت تظهر على الدوام في المجتمعات التي يسودها الانحطاط ويكثر فيها التفكك الطائفي، وتضعف في مواجهة أعدائها الخارجيين لذا يتقدم الهمجيون بوصفهم مخلّصين يجلبون الأمن والاستقرار ويعتمدون قراءة دينية أحادية فتتبعهم فئة ساذجة، وتساعدهم على ضرب خصومهم فيفعلون ويرتدون نحو الداخل ومن ثم يعملون على قلب المجتمعات التي دانت لهم رأساً على عقب .
ويفصح تاريخها أيضاً عن أنها لم تعمر طويلاً في كل الأمكنة التي سيطرت عليها ولنا في مثال المغول حجة قوية . فقد انتهت دولتهم الوثنية إلى تبني إسلام المناطق التي احتلوها فنقلهم الإسلام من الهمجية إلى الحضارة وساعدهم على تعمير مدنهم في آسيا الوسطى، بعد أن قهرهم المماليك في معركتي عين جالوت وبيسان . وتشير الآثار الإسلامية الباقية حتى يومنا هذا في سمرقند المغولية إلى انتصار حضاري مدوّ للإسلام المتسامح على التوحش المغولي، ومنه نخلص إلى القول: إن الهمجية قد تنتصر إلى حين، ولكن الحضارة تنتصر في كل حين .
قصارى القول: إن مصير الهمجيين في أيامنا لا يمكن أن يكون مختلفاً عن مصير التتار والمغول، فقد بدأت مؤشرات هزيمتهم بالظهور مبكراً، فهم نجحوا في وقت قياسي في عزل أنفسهم عن العالمين القريب والبعيد، وصار كل الناس يطلبون دحرهم ولعلهم مندحرون لأسباب عديدة من أهمها عدم قابلية مشروعهم للحياة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2177661

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

32 من الزوار الآن

2177661 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40