السبت 9 آب (أغسطس) 2014

عودة العرب إلى العرب

السبت 9 آب (أغسطس) 2014 par نسيم الخوري

يتبعثر الدم والحبر مثل التبن في الريح فوق بيادر العرب . منذ الصفعة التي سقطت فوق خدّ محمد البوعزيزي في تونس انقلب المشهد . التبن يحترق في الجهات كلّها ويستمرّ صعود الدخان من مقبرة البائع الجوّال . تتجوّل الحروب والأهوال والصور المرعبة في أرجاء البيوت العربية المسكونة بالعصاب والقلق والعجز عن الحلّ أو العجز عن الفرار . الفرار إلى أين؟ إلى الكتابة؟ ربّما، لكنها أفرغت من معانيها في تفصيلات الجهاد وتعقيداته، وهي كتابة في كلّ الأحوال، لا يقرأها إلاّ أصحابها بعدما باتت الأجيال تسبح في العبثية والإبهامات المرفوعة فوق صفحات التواصل الاجتماعي . بدونا عند نبش الصور والتعليق عليها بالإبهامات كأننا كما قال فلوبير نعيش في صحراء لا أحد يرى أحداً . كنت أبحث عن فلسطين في ركام العواصم العربيّة، ونشرت في هذه الصفحة النظيفة مقالاً عنوانه: “تعميم فلسطين”، وها إنّي أعدّله فأكاد أقول: الحلّ في عودة فلسطين إلى فلسطين؟ ولربّما عودة العرب إلى العرب؟ محتفظاً بحق الابتعاد عن الشطط في مقالتي التي تبغي مجاراة الحوارية المستوردة في الشاشات أو منافستها . لماذا؟
المسألة الأولى أنّنا نقف جميعاً ونتطلّع مجدداً إلى الخلف، أي إلى غزّة المشتعلة تقودنا عنوة بكوارثها المتجددة نحو الموقد الفلسطيني الأوّل والصفعة الأساس لكنّنا لا نستطيع ألاّ نتطلّع إلى ما حولنا . الهدف الظاهر يبدو كأنّه “حماس” وليس غزّة وقد يكون الفصل بينهما من أهم النقاط التي أدمنت عليها استراتيجية “إسرائيل” العسكرية والإعلامية في تثبيت سياسة تجعلها هدفاً أساسياً تتبعه منذ حروبها المتكررة، وكلّما عظمت الحاجات والمصالح الإقليمية والدولية . تظهر “حماس” هي الهدف بالتزامن مع قصف المستشفيات والمدارس والجامعات والبنى التحتية من ماء وكهرباء وأطفال ونساء وشوارع ضيقة غزّاوية، وكلّها تستبطن جهوداً استراتيجية تنصبّ حول هدف واحد هو “حماس” . كنا وما زلنا نتعثّر بالجثث والركام ونتخم بتسميات تعمّمت في الآذان مثل: مسلحو “حماس”، مخربو “حماس”، ميليشيا “حماس”، عناصر “حماس”، الإرهابيون . وتكفي قراءة سريعة للتصريحات الرسمية العالمية و“الإسرائيلية” التي كانت وما زالت تصاحب حملات الغزو هناك لتركيب جملة استراتيجية تضليلية لم تتغيّر مفادها: نحن لا نحارب الشعب الفلسطيني، نحن نحارب حماس وصواريخ حماس التي بلغت قلب “إسرائيل” . هناك إنكار استراتيجي دعائي وتعمية مقصودة لأي مبالغة أو تفصيل أو تسمية متقدّمة للفصائل الفلسطينية الأخرى التي تطمس كأنها غير موجودة أصلاً في قلب الصراع المزمن الدائر . ليس سوى حماس هي الهدف الأول الماثل الذي يبدو نافراً على مستوى بعض السياسات والشاشات الإخوانية التي تتربّص بالعرب كلّ العرب، فتقصف ذات اليمين وذات اليسار ويفوتها أنّ الجماهير الفلسطينية والعربية المشغولة بغزّة كما بفلسطين المعمّمة على العواصم الأخرى باتت لا تراها فقط، وحتّى مواطني دول تلك الشاشات صاروا في مكانٍ آخر عندما أسقطت الأقنعة المستوردة . قد ينسحب هذا الأمر نفسه أيضاً حتّى على حماس نفسها التي انفردت أحياناً بالقرارات، وتغاضت بدورها عن التشاور مع هذه الفصائل المذكورة، بصرف النظر عن كلّ مبادرات ومناشدات وقف المجازر، خاصة إذا تذكّرنا إعلان وقف إطلاق النار من قبل المقاومة في ،2008 وفي هذا نوع من حذف الصمود الجماعي الفلسطيني والجهد الوطني العام الذي شاركت فيه غزّة مع الشيوخ والأطفال والنساء إلى جانب صمود المقاتلين .
إنّ التركيز أو التضخيم “الإسرائيلي” والعالمي لصورة مقاومة حماس وقوتها الصاروخية وصمودها وقصفها لمناطق حيوية متقدّمة في عمق “إسرائيل” وإشاعة معلومات عن أنّها مخزن هائل لنسخ معدّلة من صواريخ فجر3 وفجر،5 وربّما صواريخ سام المضادة للطائرات، ومصانع تركيب وصناعة صاروخية، قد يمكن وضعه كلّه في استراتيجيات تبرير جرائمها ومجازرها الفظيعة ضد المدنيين الفلسطينيين وتجاه العالم العربي بوضعه الراهن . تستفيد “إسرائيل” من هذه المسائل بربطها بإيران التي هي وراء ترسانة صواريخ حماس، وهي التي تستقبل المقاتلين بعد نقلهم من غزّة إلى مصر فطهران حيث يخضعون لتدريبات عسكرية على يد الحرس الثوري الإيراني . وكان من اللافت البارز جدّاً، في هذا المجال أيضاً، أن تدعو حماس المقاومة في لبنان إلى فتح جبهة الجنوب اللبناني، وهي تعرف كما إيران والمقاومة في لبنان المحاذير والتداعيات والوقع العام المعقد لدعوات من هذا النوع الذي لاحت بواكيره ببضعة صواريخ أفلتت من العرقوب في لبنان، لكن لا يمكن التغاضي عن حجم الدماء التي لم تيبس بعد في جسد الرأي العام اللبناني في ال 2006 والنزيف اللبناني المستمر عل إيقاعات سوريا والعراق .
المسألة الثانية اللافتة هي تخبّط الصورة بعد انفلاتها وتحررها من العتمة التي كانت تفرضها عليها “إسرائيل” في أثناء حروبها العدوانية، خصوصاً تلك المستمرّة في غزّة . هذا التحرر للمشهد قد يتجاوز في قوته الأعمال العدوانية عينها، لولا أنّ العين العربية والعالمية قد أتخمت وأعمت بصرها مشاهد التنكيل والذبح وغيرها من المشاهد الإرهابية المتنقّلة بين الديار العربية . هناك نوع من الاختلاط والتشابه المفروض في المشاهد في زمن عربي بائس أسقط قوّة الصورة كمسألة قيادة مثل قيادة الحروب . لماذا؟ لأن الصور فقدت قدرتها على تحويل الشاشات وخاصة الملتبسة منها إلى وسائل قتالية، فما عادت كما قدّمت صورتها إلى الناس بأنّها جواهر ذهبية قابلة للإشعاع المستمر . وأنّ إمكانات الحجب والتعتيم والمحاصرة والتركيب التي يحسنها العدو “الإسرائيلي” ويقلّدها بعض العرب باتت مكشوفة لكنها مدانة ومرفوضة عندما تمت هندستها بأنامل وعقول مستوردة، تعرض الوقائع المقننة بعد تصفيتها وتقدّمها صوراً باهتة وقد فقدت قيمها وقيمتها . هذه المتغيرات والتحولات الجديدة التي أفرزها ما سمّي “ثورات” الربيع على مستوى الرأي العام وتتابع الصور والمصطلحات لم يتنبّه إليها الكثير من قادة الشاشات في فرز الصور والتعليقات عليها، وبثها كما في استضافة المحللين والخبراء العسكريين إلى درجة يمكننا اختصارها بأن الأخبار والوقائع صارت مثل الآراء والتعليقات والمقالات والتوقعات وجهات نظر مختلفة متشظية بين وسيلة وأخرى، وتفتقر إلى الموضوعية، الأمر الذي ولّد اختلاطاً لدى المشاهدين من دون الأخذ في الاعتبار ذكاء هؤلاء وفطنتهم .
المهم بكلمتين: وعي استراتيجيات العدو “إسرائيلياً” وغربياً وإقليمياً كي تعود فلسطين إلى فلسطين والعرب إلى العرب والمذهبيين إلى قيم الأديان التوحيدية ولو بكلماتها الثلاث .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2180839

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2180839 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40