الثلاثاء 9 أيلول (سبتمبر) 2014

مبادرة الرئيس ومحكمة الجنايات

الثلاثاء 9 أيلول (سبتمبر) 2014 par هاني المصري

في أواخر تمّوز الماضي، قام صائب عريقات بدعم ومباركة الرئيس بتقديم رسالة تطالب بالانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة، وطلب أن يوقّع عليها جميع أعضاء اللجنتين المركزيّة لحركة فتح والتنفيذيّة للمنظمة والأمناء العامّون للفصائل حتى يتحمّل الجميع المسؤوليّة عن الانضمام وتداعياته.
وبالفعل حمل عريقات الرسالة إلى خالد مشعل، وطالبه بالتوقيع عليها، فطلب الأخير مهلة للتشاور، وبعد تردد لأكثر من أسبوعين وميل للرفض، حسمت «حماس» أمرها ووقع موسى أبو مرزوق باسم «الحركة».
كان من المتوقع، بعد موافقة «حماس»، أن يوقع الرئيس على رسالة الانضمام ـ كما التزم - بعد عشرة أيام على وقف العدوان. بدلاً من ذلك، قال الرئيس إنه لا يعترف بتوقيع أبو مرزوق ويريد توقيع خالد مشعل لأنه صاحب القرار. وبرغم تأكيد مشعل أكثر من مرة أنه يؤيد هذه الخطوة، إلا أن أبو مازن لم يقم بها، وهو ما اعتبر رسالة مفادها أنه يفضل تأجيل الانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة حتى إشعار آخر.
سبب انتظار أبو مازن هي المفاجأة التي تحدث عنها، وتمخّضت عن مبادرة سياسيّة تقوم على عدة مراحل. تبدأ بالرهان مجددًا على الإدارة الأميركيّة من خلال مطالبتها بالدعوة إلى مفاوضات ثنائيّة تستمر تسعة أشهر على أساس مرجعيّة إقامة الدولة الفلسطينيّة على حدود 67، مع تبادل أراضٍ ضمن جدول زمني، وعلى أساس قيام إسرائيل بتجميد الاستيطان وإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى.
ويأتي الرهان على الإدارة الأميركية برغم الحصاد المرّ له على مدى السنين، لأن الموقف الأميركي معروف بانحيازه لإسرائيل، وعندما تختلف الإدارة الأميركية مع الحكومة الإسرائيلية حول بعض النقاط والتكتيكات، فإنه يكون خلافًا بين حلفاء تربطهم علاقات عضويّة إستراتيجيّة، يشبه الخلاف الدائر داخل الحكومة الإسرائيليّة نفسها.
كما يعود الانتظار إلى الخشية من المجابهة التي قد تؤدي إليها خطوة الانضمام إلى محكمة الجنايات، حيث يشكل هذا الانضمام إغلاقًا لمسار المفاوضات الثنائيّة، وتدشينًا لمسار جديد يشمل السعي لتجميع أوراق القوة والضغط على اختلاف أنواعها، بما فيها فتح الطريق لمعاقبة إسرائيل على جرائمها السابقة، واللاحقة، والمستمرة، مثل جرائم الاستيطان والتهجير والإبعاد.
بالرجوع إلى المواد (11) و(12) من نظام روما، المؤسس لمحكمة الجنايات، فإن المحكمة لا تختص بالنظر في الجرائم التي ارتكبت قبل تاريخ نفاذ نظام روما، أي قبل تاريخ 1 تموز 2002، وفي حال انضمت دولة معينة إلى نظام روما فإن اختصاص المحكمة لا يمارَس إلا على الجرائم التي ارتكبت بعد انضمام تلك الدولة للميثاق، إلا إذا أعلنت الدولة المنضمة قبول اختصاص المحكمة الجنائيّة على إقليمها قبل تاريخ انضمامها، ولكن بجميع الأحوال لا يمكن أن توسع المحكمة اختصاصها إلى ما قبل 1 تموز 2002، ونذكر هنا أن الاختصاص الشخصي للمحكمة يمارَس تبعًا لجنسيّة المتهم لا جنسيّة الضحيّة، أي أنه يمارس على الأشخاص المتهَمين من رعايا الدول الأعضاء فقط.
النتيجة الوحيدة المضمونة للمبادرة الفلسطينيّة إذا لم ترتبط بمقاربة شاملة تسلّح المفاوض الفلسطيني بأنياب، هي إضاعة وقت ثمين ومنع توظيفه في سياق البناء على ما حققه الفلسطينيون بعد العدوان من عودة القضيّة إلى الصدارة، وتحقيق احتضان شعبي غير مسبوق للمقاومة، وإظهار حدود القوة الإسرائيلية برغم تفوقها، وتحقق درجة لا بأس بها من الوحدة السياسيّة، تجلت من خلال تشكيل وفد مشترك يتبنى مطالب المقاومة. وبدلاً من ذلك، وما يتطلبه من إعطاء الأولويّة لتجسيد وحدة وطنيّة حقيقيّة على أساس شراكة كاملة وبلورة إستراتيجيات جديدة، بدأنا نشهد تحركًا متسارعًا فئويًا يهدد، إذا استمر، بالعودة إلى مربع الانقسام المدمر.
كان ولا يزال ممكنًا الشروع في حوار وطني شامل، من خلال تفعيل الإطار القيادي المؤقت للمنظمة للاتفاق على القواسم المشتركة، وإيجاد قيادة وسلطة واحدة تحكم في الضفة والقطاع، وتنظيم إدارة الخلافات، والعمل المشترك لرفع الحصار والإغاثة وإعادة الإعمار، وإطلاق سراح الأسرى، وتنظيم المقاومة بأشكالها كافة وفقًا للظروف المناسبة لكل تجمع فلسطيني، والتركيز على المقاطعة الشاملة لإسرائيل، وملاحقتها على جرائمها من خلال الإسراع في الانضمام إلى المؤسسات الدوليّة، وأولها محكمة الجنايات الدوليّة. بعد ذلك، يمكن التحرك عربياً وإقليمياً ودولياً والفلسطينيون سيكونون حينها في موقف أقوى بكثير.
إن عدم الانضمام إلى محكمة الجنايات، ووقف التنسيق الأمني، وإعادة النظر في دور السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها، ووضع الثقل اللازم لدعم المقاومة والمقاطعة، وإنجاز وحدة وطنيّة حقيقيّة، يعود إلى الضغوط والتهديدات الأميركيّة والإسرائيليّة بممارسة عقوبات سياسيّة وماليّة وغيرها، ما يمكن أن يؤدي إلى انهيار السلطة وفقدان أفراد وشرائح لنفوذها ومصالحها. علماً أن رواتب الموظفين يمكن إيجاد بدائل لدفعها من مصادر فلسطينيّة وعربيّة ودوليّة إذا اعتمدت مقاربة جديدة تكسر قيود أوسلو.
من يرد الحريّة عليه أن يستعد لدفع ثمنها، ومن يرد التوجه إلى خيار آخر بعد فشل مبادرة الرئيس، عليه أن يستعين بالوحدة، التي من دونها لا يمكن الانتصار، فلا شيء أسوأ من الاستمرار بالأمر الواقع، وعنوانه الأبرز التكيف مع الاحتلال والسعي لتحسين شروط الحياة في ظله وظل الانقسام. هذا الواقع أضاع القضيّة والأرض والروح والوحدة، وحوّل السلطة إلى وكيل أمني للاحتلال وليس كما أرادها ياسر عرفات ومن سار على دربه من أجل التخلص من الاحتلال.
إن الذهاب إلى البيت الأبيض، ثم إلى مجلس الأمن والفلسطينيون ضعفاء ومنقسمون، يمثل إضاعة للوقت وتكرارًا لما حدث في العام 2011، حين ضاع العام كله في تقديم الطلب إلى مجلس الأمن - برغم توصية مخالفة من معظم الخبراء والسياسيين الذين دعوا إلى التوجه للجمعية العامة أولاً - للحصول على عضويّة كاملة للدولة الفلسطينيّة، لأن الجميع يعرف أن الفيتو الأميركي يقف له بالمرصاد، وبلغ الوضع من السوء إلى حد لم نتمكن فيه من الحصول على الأصوات التسعة المطلوبة في مجلس الأمن للتصويت.
لقد صُوِّرَ الذهاب إلى مجلس الأمن حينها بوصفه ذروة المجابهة مع الإدارة الأميركية، في حين أنه كان فعليًّا تجنبًا للمجابهة وتأجيلاً لها لمدة عام على الأقل. كان ولا يزال من الأفضل أن نبدأ بالمواقع وبالمؤسسات والدول الصديقة لمراكمة القوة والضغوط، ثمّ الذهاب إلى مجلس الأمن والبيت الأبيض، اللذين سيضطران إلى الاستجابة للحقوق الفلسطينية، لأن عدم الاستجابة يمكن أن يؤدي إلى الأسوأ.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165911

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع هاني المصري   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165911 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010