السبت 20 أيلول (سبتمبر) 2014

رسالتان من اسكتلندا

السبت 20 أيلول (سبتمبر) 2014 par معن بشور

في زحمة العواصف الدموية المحيطة بنا، كأمة وكأقليم، وفي زحمة الانكشاف المريع والمتصاعد لدور حكومات الغرب، وفي المقدمة منها حكومة بريطانيا، في تسعير الفتن واشعال الحروب في هذه المنطقة، وفي حضور ذاكرة قومية لا تنسى للحظة دور سايكس بيكو في تقسيم بلادنا، ودور وعد بلفور (وسايكس وبلفور كانا وزيري خارجية بريطانيا في اوائل القرن الماضي) في زرع الحاجز الاستيطاني العنصري الارهابي بين المشرق العربي وبين مصر ومعها كل دول المغرب العربي، لا يمكن لعربي بسهولة ان يبدي ارتياحه لنتائج الاستفتاء التي اظهرت ان قوة الاتحاد في اسكتلندا اقوى من نزعة الانفصال المسماة استقلالاً.
ولكن مع ذلك، من أراد لبلاده الوحدة لا يمكن ان يريد لغيرها القسمة والتشرذم، حتى ولو كانت حكومات هذا الغير هي الاكثر تآمراً عليه، والاكثر تفنناً في ابتداع وسائل الاحتراب والتناحر داخل مجتمعاته .
فالوحدة، كقيمة اخلاقية وانسانية، قبلها ان تكون قيمة سياسية واقتصادية واستراتيجية، لا تتجزأ، والوحدوي العربي يحذر كل مشاريع الانفصال والتفتيت القائمة او المخطط لها في العالم، لأنه يعتبر انه مهما كان واقع الكيانات القائمة حالياً سيئاً فان تقسيمها وانفصال اجزاء عنها يبقى أسوأ على كل صعيد.
بالتأكيد لنصف الاسكتلنديبن تقريباً، وحسبما اظهرت نتائج الاستفتاء بالامس، من الاسباب ما يدفعهم الى السعي من اجل الانفصال او الاستقلال، سواء ارتبطت تلك الاسباب بواقع التهميش الذي عانوا منه على يد الانكليز على مدى ثلاثة قرون (عمر المملكة المتحدة)، أو بواقع اساءة توزيع الموارد والثروة والسلطة بين مكونات المملكة، خصوصاً اذا تذكرنا ان كل النفط البريطاني يتم استخراجه من بحر الشمال، اي من شواطئ اسكتلندا، وان اكثر من 35 مليار جنيه استرليني من الصادرات البريطانية هي بسبب الويسكي الاسكتلندي، ولكن بالتأكيد ايضا للمتمسكين بالوحدة وفي مقدمهم النائب البريطاني، المتمرد دائما على سياسات حكومته، جورج غالاواي، وجهة نظرهم التي تدفعهم بالتصويت نعم لبقاء اسكتلندا في اطار المملكة المتحدة.
فغالاواي اليساري الفكر والنشأة والالتزام، يرى مثلاً ان تقسيم بريطانيا يقود الى تقسيم الطبقة العاملة، وبالتالي الى اضعاف دورها في اسكتلندا، كما في بقية المملكة، وبالتالي فعمال بريطانيا كلهم، بما فيهم عمال اسكتلندا سيدفعون ثمن الانفصال تماماً كما دفعوا ثمن سياسات طوني بلير (رئيس حزب العمال السابق، رئيس الحكومة الاسبق) الداخلية والخارجية، لا سيمّا من خلال تشويه مسيرة حزب العمال والانقلاب على برامجه الاجتماعية والاقتصادية، وتراجع هذا الحزب في الانتخابات النيابية لا لصالح حزب المحافظين فقط، بل لصالح حزب الليبراليين الاحرار ايضا.
وفي هذا الاطار، ونتيجة معرفته بحجم التذمر الاسكتلندي من السياسات الحكومية البريطانية والتحاقها بالسياسة الامريكية، وحتى الصهيونية، فان غالاواي يعتقد ان بقاء اسكتلندا في إطار الاتحاد من شأنه ان يقوي احتمالات الاستقلال البريطاني عن الرضوخ للاملاءات الامريكية والصهيونية، ويعطي مثلاً على ذلك هو التصويت قبل عام على اشتراك بريطانيا في الحرب على سوريا، حيث كان لنواب اسكتلندا في مجلس العموم الدور الحاسم في رفض مشاركة بلادهم في تلك الحرب، وهو رفض أدى مع اسباب أخرى الى تراجع واشنطن عن تهديداتها.
في القضية الفلسطينية، يدرك كل متابع للسياسات في بريطانيا ان التعاطف مع الحق الفلسطيني في اسكتلندا يفوق بكثير تعاطف المكونات الأخرى في المجتمع البريطاني، وبالتالي فان بقاء المكوّن الاسكتلندي في الاتحاد البريطاني من شأنه ان يسهم مع تحولات أخرى متسارعة في الرأي العام الانجليزي، في تغيير الموقف البريطاني ذاته في زمن ليس ببعيد، لا سيما ان حجم المغانم التي كانت تجنيها بريطانيا في زمن المستعمرات قد تراجع الى حد كبير. ناهيك عن استيلاء واشنطن على أغلبية ما تبقى من الغنائم الاستعمارية.
من هنا فقد ارسل الاسكتلنديون عبر هذا الاستفتاء الى حكومة كاميرون، كما الى العالم بأسره، رسالتين في آن، الاولى هي انه مهما كانت المظالم وسياسات التهميش كبيرة فان الانفصال ليس حلاً، وهذا وعي كبير بحركة التاريخ وقوانينها، وبالمصالح البعيدة المدى للمجتمعات ودولها.
اما الرسالة الثانية فهي ان الفارق الضئيل بين المؤيدين للوحدة والمعارضين لها مرشح لأن يتغيّر في اي استفتاء قادم اذا لم تتغير سياسات حكومة لندن تجاه اسكتلندا سواء من جهة التهميش، او احتكار السلطة والثروة.
والرسالتان ايضا تستحقان ان يقرأهما بتعمق وتجرد كل دعاة الانفصال والتقسيم في بلادنا، وكل القيمين على مقدرات هذه البلاد من حكام متنفذين، فنرفض جميعاً نزعات الانفصال والتقسيم أياً كانت ذرائعها، ونرفض ايضا سياسات التهميش والاحتكار والاحتراب والاقصاء أياً كانت مبرراتها.
فلا شيء يوحد كالوحدة التي تحترم كل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والقومية والأثنية، ولا شيء يشرذم كالتشرذم طائفياً كان أم مذهبياً أم عرقياً أم جهوياً أم فئوياً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 28 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010