الجمعة 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2014

اللاسامية بحاجة إلى عقار أوروبي وليس عربياً

الجمعة 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 par رغيد الصلح

إذا صح ما تداولته بعض وسائل الإعلام ومراكز البحوث في الغرب حول ارتفاع استثنائي في نسبة الاعتداءات ضد اليهود، في أوروبا، فإنها تكون أنباء جديرة باهتمام عربي يضاف إلى شتى الاهتمامات الأخرى بقضايا الأمن والعلاقات الخارجية والصراع العربي - “الإسرائيلي” . هذا لا يعني بالضرورة أن هذه الأعمال هي من صنع العرب، فلا تزال أوروبا تحتل المرتبة الأولى بين القارات في سلم العداء لليهود . ورغم ذلك، وبالنظر إلى مضاعفات العدوان “الإسرائيلي” الدائم على العرب ومظاهره الأخيرة المتمثلة بالاعتداء على غزة ومشاريع الاستيطان المستمرة، فإنه من غير المستبعد أن يكون بعض الأفراد العرب قد ساهموا في هذه الأعمال . ولكن سواء ساهم عرب أوروبيون في هذه الظاهرة أو لا، فإنه من المهم أن نعي مضاعفاتها، وأن ننتبه إلى أضرارها وأخطارها، وتأتي في مقدمها الأضرار التالية:
* أولاً، إن في أوروبا حماسة للمشروع الصهيوني قد يتجاوز أحياناً حماسة اليهود و“الإسرائيليين” والصهاينة أنفسهم لهذا المشروع . ألم يكن ادوين متونتيغيو، الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية الذي عارض إعطاء وعد بلفور إلى اليهود؟ ألم تكن أكثرية اليهود في أوروبا غير مؤيدة ولا متعاطفة مع المشروع الصهيوني الذي أراد اقتلاعها من “أوطانها” ونقلها إلى المجهول؟ ألم تتعاون الصهيونية الأوروبية على ترحيل اليهود الأوروبيين من القارة وهو ما قدم إلى العنصريين الأوروبيين حلاً لمشكلة التطهير الديني الذي كان يراود مخيلتهم ويتماشى مع تطلعاتهم؟
إن هذه النزعة المستترة غالباً تعبّر عن نفسها بنهج لا تخفى حوافزه . يتمثل هذا النهج في السعي إلى إيجاد حل تاريخي للعقدة اليهودية، ولكن خارج أوروبا . فعندما فكر الأوروبيون في إيجاد حل للمشكلة اليهودية لم يقرروا إعطاءهم قطعة أرض أوروبية يقيمون عليها وطناً قومياً لليهود، تعويضاً عن كل ما لحق بهم من مصائب . الوحيد الذي فكر في تنفيذ مثل هذا المشروع كان ستالين في جمهورية بيروبيجان اليهودية، ولكن هذا المشروع لم يكتب له النجاح . وعندما دفع الأوروبيون التعويضات إلى اليهود تكفيراً عما عانوه عبر التاريخ، لم يقدموا هذه التعويضات إلى المنظمات اليهودية الأوروبية، ولا اتحادات يهودية أوروبية أو عالمية مستحدثة، بل أعطيت إلى كيان موجود خارج أوروبا، وفي البلاد العربية تحديداً، وعلى حساب الشعب الفلسطيني . لذلك، علينا أن نتوقع أنه إذا تعرض اليهود الأوروبيون إلى الأضرار وإذا تفاقمت هذه الأضرار، فإن الأوروبيين سوف يعوضون هؤلاء بزيادة دعمهم إلى “إسرائيل” ومساندتهم لها . وإذا ثبت أن للعرب يداً في الاعتداء على اليهود الأوروبيين، فإنه من المرجح أن يؤخذ هذا الأمر في الاعتبار في تحديد حجم ونوعية الدعم الذي يقدم إلى “الإسرائيليين” .
* ثانياً، إن أعمال العنف التي تمارس ضد أهداف يهودية في أوروبا موجهة ضد أهداف مدنية، وفي أرض بعيدة عن أرض الصراع بين العرب و“الإسرائيليين” . وعندما يسلك عربي في أوروبا مثل هذا النهج، فإنه ينحدر إلى مستوى الممارسات اللاأخلاقية التي يمارسها العدو منذ أن بدأ غزو الأرض الفلسطينية . فتاريخ الغزو الصهيوني للأراضي الفلسطينية مملوء بأعمال الإبادة والتنكيل بالمدنيين . ومن الخطأ أن نقلد الصهاينة في نهجهم هذا .
إن الاعتبارات الأخلاقية لا تملي علينا الابتعاد عن استهداف المدنيين فحسب، بل تحثنا أيضاً على أن نجعل من هذه القاعدة التزاماً أخلاقيا نعمل على تعميمه في المحافل الدولية . علينا إدانة كل عمل موجه ضد المدنيين، سواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود أو غيرهم من أتباع الأديان أو العقائد المدنية كعمل تحرمه وتعاقب عليه الشرائع الدولية، وسواء قام به الأفراد أو الجماعات أو الكيانات السياسية .
تثير أعمال العنف الموجهة ضد أهداف مدنية اشمئزازاً ونقمة واسعة في أوساط الرأي العام في شتى المجتمعات الأوروبية . فالدول الأوروبية هي مجتمعات مفتوحة، ويمكن للمواطن فيها، سواء أكان يهودياً أم مسلماً، من أصل عربي أم غير عربي، أن يمارس نشاطاً على نطاق واسع من أجل الدعوة لقضيته، وأن يعمل على الترويج لها والتأثير في أصحاب القرار والشأن في البلد الأوروبي حتى يتبنوا سياسات حكومية تخدمها، فكيف يضحي العرب في أوروبا الذين يتزايد عددهم بسرعة بالفرص المتوفرة لهم للتأثير في السياسات الأوروبية؟ كيف يؤثرون استخدام العنف الفردي البائس وفي عمليات لا تمت بصلة إلى المصلحة العربية أو الفلسطينية على النشاط الهادف الذي يمكن تثميره سياسياً، وعلى نحو يخدم الموطن القديم والجديد معاً؟
* ثالثاً، إن بعض الناشطين العرب في أوروبا يحددون مواقفهم من الرموز السياسية بصورة عمياء . وعندما يحاول هؤلاء التفريق بين المستهدفين سياسياً، فإنهم يفعلون ذلك على أساس المعيار الديني . ولكن من الذي قال لهم إن المعيار الأصح هو التمييز على أساس العقيدة الدينية؟ لقد كان بيير منديس فرانس سياسياً فرنسياً ويهودياً، ولكنه كان من أوائل الذين جاهروا بضرورة الخروج من فيتنام وإعطائها استقلالها، والذين دعوا إلى استقلال تونس والمغرب، وإلى التجاوب مع مطالب الجزائريين الاستقلالية . هذه المواقف عرضته إلى نقمة المستوطنين الأوروبيين في المغرب العربي الذين كانت بينهم أقلية يهودية مؤثرة، كما عرضته مواقفه أيضاً إلى محاولة الاغتيال على يد أحد المتطرفين الأوروبيين .
وكان برونو كراسكي سياسيا نمساوياً ويهودياً، ولكنه من أكثر الشخصيات العالمية في الغرب حماساً للمقاومة الفلسطينية . تمكن كرايسكي بصفته نائباً لرئيس الاشتراكية الدولية من تغيير موقفها من الانحياز إلى “إسرائيل” إلى التعاطف مع المقاومة . بالمقابل تميزت مواقف المستشار النمساوي كورت فالدهايم تجاه الحكومات “الإسرائيلية” بالحدة إلى درجة وصفه إياها بالفاشية، واتهامه لها بأنها استغلت المأساة اليهودية في أوروبا استغلالاً بشعاً ضد العرب، ما جعل الصهاينة يصفونه بأنه كاره نفسه .
إن بين السياسيين الأوروبيين من يصرّ على التعامل مع المسألة اليهودية كأنها مشكلة عربية، وأنه من واجب العرب أن يدفعوا ثمناً ملائماً لحل هذه المشكلة مرة وإلى الأبد . القيادات “الإسرائيلية” المتعاقبة تدرك هذه اللعبة وتحاول استغلالها إلى أبعد حد ممكن . في هذا السياق تعود مسألة اللاسامية إلى الاحتدام، فتتجدد كأداة لكبح الانتقادات المتصاعدة ل“إسرائيل” ولسياسة الاستيطان، وتصلح كوسيلة للحيلولة دون استمرار ونمو حملة المقاطعة الاقتصادية للاستيطان “الإسرائيلي” . إذا نجح الفاعلون العرب في تفادي المطبات في هذا المنعطف فإنهم يساعدون على إعادة المسألة اليهودية إلى بيتها الطبيعي، وإلى بيئتها الأصلية بغرض التوصل إلى حل لمن تسبب بها ....



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2165911

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165911 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010