الخميس 29 تموز (يوليو) 2010

العرب ومسألة مصر

الخميس 29 تموز (يوليو) 2010 par د. بشير موسى نافع

في الذكرى الثامنة والخمسين لثورة تموز/يوليو 1952، انطلق الجدل من جديد، داخل مصر وفي المجال العربي، حول دور مصر وأوضاعها. بعض من العرب والمصريين، يرى مصر الآن صورة مشوهة لمصر عبد الناصر؛ وبعضهم الآخر يرى أنها تمر بحقبة فقدان وعي، بالمعنى المرضي، تنتظر من يوقظها من سباتها، قائداً أو حدثاً أو صدمة هائلة. قاد عبد الناصر مصر، بعد فترة اضطراب قصيرة في مطلع سنوات الثورة، نحو دور يواكب حجمها وتاريخها وموقعها الجيوبوليتيكي.

عزز هويتها العربية ودورها القيادي العربي، الذي بدأت مترددة في تعهده منذ نهاية العشرينات؛ وحاول جاهداً أن يستند إلى العمق العربي ليجعل من مصر قوة إقليمية وعالمثالثية، وقوة ذات صوت مسموع على مسرح الحرب الباردة. وقد صاحبت هذا الأفق العربي الخارجي، نهضة صناعية وتعليمية وثقافية فنية، وسياسة جذرية وواسعة النطاق لإعادة بناء الهيكلية الاجتماعية للمصريين. ولكن مصر عبد الناصر واجهت عقبات هائلة على المستويين الداخلي والخارجي. ولم تكن معارضة نظام الحكم المركزي، شديد القبضة، داخل البلاد، أقل من العداء «الإسرائيلي» الغربي، الذي استهدف تقويض المشروع الناصري، وتحجيم دور مصر وتأثيرها.

لعبت الأعباء المترتبة على هذه العقبات، والتي كانت وصلت ذروتها في الهزيمة المصرية العربية في 1967، دوراً رئيساً في التحولات التي شهدتها مصر ما بعد عبد الناصر. بغض النظر عن تكوين السادات ونوعية العلاقات التي أحاطت به، فقد استبطنت سياساته محاولة إيجاد مخرج سريع وسهل وغير مكلف من واقع الأزمة الذي واجهته مصر، سياسياً واقتصادياً. لم ير السادات أن مشاكل الدول الكبيرة والتحديات التي يفترض أن تواجهها تكون كبيرة هي الأخرى؛ ولجأ بالتالي إلى طريق التحالف مع الولايات المتحدة وعقد اتفاقية سلام دائم مع الدولة العبرية. لم يكن السادات زعيماً مبتدئاً، ولا كان قليل الخبرة بشؤون مصر ودورها وسياساتها الداخلية والخارجية؛ وكان يعرف بالتالي أن لاختياراته الاستراتيجية الجديدة ثمناً. ولكنه قدر أن هذا الثمن أقل من الفوائد والمردودات التي ستجنيها مصر من التحول الاستراتيجي الذي اختاره.

حكم عبد الناصر فعلياً ستة عشر عاماً، منذ حسم التحديات الداخلية التي واجهها نظام تموز/يوليو وأحكم قبضته على مقاليد القرار وشؤون الدولة، ويسيطر نظام ما بعد عبد الناصر على الحكم منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، على اعتبار أن قرار التحول الاستراتيجي في بنية مصر وسياستها الخارجية اتخذ في 1974 وليس مباشرة بعد تولي السادات رئاسة الجمهورية في خريف 1970؛ وهو ما يسوغ المقارنة بين إنجازات الحقبتين. وبالرغم من أن مصر تبدو اليوم أكثر حداثة، إن صح التعبير، وأكثر ثراءاً، وتعيش سلماً طويلاً مع جوارها، وأكثر تسامحاً مع قوى المعارضة السياسية، فالمقارنة ليست لصالح نظام ما بعد السبعينات. ليس هذا بالطبع مجال تناول تفاصيل هذه المقارنة، ولكن الواضح بلا شك أن ثمة تآكلاً مطرداً في حجم مصر ودورها وتأثيرها، وتناقضات لا تقل وطأة على مستوى بنية الحكم والمجتمع. وعود الحرية والديمقراطية تحولت إلى تقليص في مساحة المشاركة في الحكم والسلطة والقرار الوطني، ووعود الرفاه والنهوض الاقتصادي انقلبت إلى انهيار حثيث للمؤسسة التعليمية، سيطرة طبقة محدودة على مصادر الثروة والحقل الاقتصادي، واتساع نطاق الفوارق الاجتماعية؛ أما السلم الطويل، فقد قوض قدرة مصر على تأمين تماسكها الوطني، وبات مصدر تهديد لمقدرات البلاد الاستراتيجية، من ملف المياه والثروة النفطية إلى التفاوت المتفاقم بين إرادة مصر وإرادة الدولة العبرية.

ويمكن القول الآن إن «مسألة مصر» تشكل واحدة من أكبر هموم الرأيين العامين المصري والعربي. بانهيار المركز العثماني، وتجزئة الولايات العربية العثمانية، وبروز الدولة العربية القطرية، هيمنت على المجال العربية قوتان رئيسيتان، أخذت كل منهما تجليات وتعبيرات مختلفة بين وقت وآخر : قوة وحدوية، رأت في الهوية العربية الإسلامية إطاراً مرجعياً وحدوياً بديلاً عن الإطار السلطاني العثماني؛ وقوة رأت في الدولة الوطنية الطارئة لنظام ما بعد الحرب الأولى واقعاً سياسياً لا بد من قبوله، والتعامل معه كمعطى ناجز، لا يمكن تجاوزه إلا بتوافق تعاوني على أكثر تقدير. ولكن أياً من القوتين لم ينجح في تحقيق أهدافه. لا استطاع الوحديون بناء مجال عربي سياسي موحد، في أي إطار، ولا استطاع دعاة الدولة القطرية المحافظة على استقرارها واستقلالها، وتأمينها من قوى التشظي الداخلية، ناهيك عن إخفاق مشاريع التنمية والرفاه. ولكن كلا التيارين لم يغفل أهمية مصر، ولا وزنها ودورها وموقعها. أصبحت مصر، على نحو واضح أحياناً ومستبطن في أحيان أخرى، مركزاً جديداً للمنطقة، افترض المصريون والعرب أنه البديل عن المركز العثماني. بعد فترة قصيرة من تعلق الآمال بالعراق الملكي، رأى الوحدويون العرب أن مصر بطبيعتها قادرة على قيادة مشروع الوحدة، ورأى دعاة الدولة القطرية، حتى أولئك الذين ناهضوا التوجه القومي لعبد الناصر، علناً أو خفية، أن مصر ملجأ لهم عند الأزمات وتعاظم التهديدات.

بتراجع دور مصر وانحسار تأثيرها، كان طبيعياً أن تولد «مسألة مصر»، أن يبدأ المصريون والعرب البحث عن إجابة على سؤال لماذا وقع هذا الغياب والتراجع، وكيف يمكن استعادة مصر ودورها. ما يقلق المصريين أن لا العالم، ولا العرب يأخذونهم وبلادهم مأخذ الجد، وأن المساحة التي أخلتها دولتهم من التأثير والنفوذ باتت مجال تنازع لدول عربية أقل وزناً وتأثيراً ومقدرات، أو قوى إقليمية نشطة وطامحة. ويقلق العرب فقدان الدولة القائدة والملجأ على السواء. الحقيقة، أن بحث الطرفين عن إجابات عن أسئلتهم سيطول، أكثر بكثير مما يظنون.

ثمة مشكلة بلا شك تتعلق بنوعية الطبقة التي تتحكم بمقاليد مصر، وقد تفاقمت هذه المشكلة بالتأكيد خلال العقد الأخير، بفعل طموحات محدودة وضيقة. ولكن المشكلة الأكبر تتعلق بالخيار الاستراتيجي لما بعد حرب تشرين الأول/اكتوبر 1973. توقيع معاهدة السلام مع الدولة العبرية لم يكن مجرد خيار سياسي صغير لحل مسألة الاحتلال والحفاظ على سلامة ووحدة التراب الوطني. معاهدة السلام كانت خياراً هيكلياً، بالغ التأثير والعمق. لأن ولادة الدولة العبرية ارتبطت ارتباطاً شرطياً بالهزيمة العثمانية وبنظام ما بعد الحرب العالمية الأولى في المشرق العربي الإسلامي، فقد أصبح مصير المنطقة ومستقبلها مشروطاً بالاتجاه الذي سيأخذه الصراع العربي «الإسرائيلي» وخيارات أطرافه. بكلمة أخرى، كان تخلي مصر عن دورها ومسؤولياتها، وقبول مصر بمحدودية تأثيرها ونفوذها، الثمن المستبطن للانسحاب «الإسرائيلي» من سيناء وتوقيع معاهدة السلام. تسببت شروط السلام في تآكل الإرادة المصرية، وأصبح على مصر أن تسلك سلوك دولة أصغر من حجمها الحقيقي؛ وباستمرار التشوه في سلوك مصر السياسي وصناعة قرارها، لم يعد من الممكن محاصرة انحسار الدور والنفوذ. ولم تعد «مسألة مصر» بالتالي محصورة بدائرة الصراع العربي «الإسرائيلي»، بل تفاقمت في صورة مطردة، لتطال المجالين العربي والإفريقي، إضافة إلى أغلب دوائر الشأن المصري الداخلي. لا تعاني مصر من «كوما» باثولوجية، بل من عواقب ونتائج خيار انتهج عن سابق تصميم وتصور، لم ير من اتخذوه والتزموا به بعد ذلك، حجم الثمن الذي رتب على مصر دفعه، ولا يبدو أنهم على استعداد لمحاولة الرؤية بعد. الخيارات السهلة، ليس من السهل دائماً التخلي عنها.

هذا لا يعني بالطبع أن مصر لم تشهد من آن لآخر صحوات دور، تجلى خلالها ولو بعض مما لا بد أن يكون. الحقيقة، أنه حتى في العهد الساداتي، كما شهدنا في رد فعل القاهرة على الغزو «الإسرائيلي» للبنان في صيف 1982، أظهرت مصر الجديدة صعوبة التعايش مع شروط معاهدة السلام. ولعل موقف مصر مبارك في النصف الثاني من التسعينات ضد اتساع نطاق التطبيع العربي «الإسرائيلي»، والانتشار «الإسرائيلي» المتسارع في المجال العربي، ومن ثم ولادة المحور المصري السوري السعودي، كان مثالاً بارزاً على صحوة الدور. مثل هذه الصحوات لعبت، وتلعب، دوراً هاماً في إطالة أمد «مسألة مصر» في الوعيين العربي والمصري، والحفاظ على الشعور بأن ثمة مخرجاً قريباً لأزمة الغياب وتراجع الدور. ولكن الواقع أن هذه الصحوات كانت دائماً قصيرة الأمد، وأنها تبدو الآن كاستثناءات في سياق تاريخي لم يعد من المجدي تجاهل عقوده التي تقترب من نهاية رابعها. الشروط التي فرضت على مصر أثقل بكثير مما يظن، وعواقب القبول والركون لهذه الشروط أفدح بكثير مما يعتقد، وعطب الروح الذي أوقعته في دوائر صنع القرار المصري أعمق حتى مما يبدو للعيان.

لا تستبطن هذه القراءة دعوة لفقدان الأمل، أو اليأس من المحاولة؛ فتاريخ الأمم الكبيرة، الأمم التي تستند إلى مواريث كبرى، يعرف شواهد لا تحصى على الاستعادة السريعة والطفرية للدور والحجم والتأثير. ما تستهدفه هذه القراءة هو الدعوة إلى التحرر من مناخ الانتظار والشعور القاهر بالفقدان الذي يتخلل الرؤية العربية لمصر ودورها، وأن يعمل العرب، دولاً وشعوباً، من رسميين وغير رسميين، على تدبر شؤونهم بغض النظر عن الزمن الذي ستأخذه عودة مصر إلى ذاتها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2166097

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2166097 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010