الجمعة 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2014

“اتفاق الطائف” في عيد ميلاده الخامس والعشرين

الجمعة 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 par رغيد الصلح

منذ أن دخلت الميثاقية الحياة العامة في لبنان اقترنت بالقضية الوطنية . هذه العلاقة بين فكرة الميثاق وبين القضية الوطنية لم تكن حصرية بل امتدت لكي تشمل موضوعات كثيرة أخرى، ولكن دون أن تكتسب نفس أهمية الشأن الوطني . فضلاً عن ذلك، كان للمسألة الوطنية أهمية خاصة إذ إنها لبثت المعبر الضروري لبحث القضايا الأخرى . قد يكون هذا النهج تعبيراً عن وعي زائف أو حقيقي . هذه مسألة أخرى تستحق البحث . ولكن أعتقد أنه هناك ما يشبه الإجماع على أن الشاغل الوطني استأثر باهتمام الذين وضعوا المواثيق اللبنانية .
نستطيع هنا أن نقدم دليلاً على هذه الحقيقة مستقى من التجربة التاريخية، فمن المؤشرات البليغة على طغيان الهّم الوطني على المشاريع الميثاقية أنه عندما اراد الميثاقيون تسمية وليدهم لم يطلقوا عليه اسم الميثاق فحسب، ولا دعوه بالميثاق اللبناني، كما أنهم لم يقتبسوا عن جان جاك روسو مصطلح العقد الاجتماعي، بل توافقوا على تسميته، في سائر أشكاله وطبعاته ونماذجه، بالميثاق الوطني .
كما اقترن الميثاق الوطني اللبناني بالفكرة الوطنية، فإنه تمحور حول بناء الدولة الوطنية، وسعى إلى الإجابة عن أسئلة عديدة متعلقة بهذه الدولة: فهل تكون دولة لبنانية؟ سورية؟ أم عربية؟ وإذا كانت الدولة لبنانية، فكيف ترسخ هويتها في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية؟ كيف تكون علاقتها مع سوريا ومع الأقطار العربية الأخرى؟ وبالمقابل كيف تكون علاقتها مع دول الغرب وخاصة فرنسا؟ وإذا كانت الدولة لبنانية فكيف لها أن ترسخ هويتها في مواجهة مشاريع تهدد الوحدة الترابية اللبنانية من الداخل؟ هل ترسخها عبر النظام الديمقراطي أم من خلال نظام أوتوقراطي؟ وإذا اختار اللبنانيون الديمقراطية فهل تقوم على أساس المساواة بين الأفراد والجماعات أم تنبني على أساس تراتبية تراعي اعتبارات تاريخية وديمغرافية وجيو-سياسية تميز الحالة اللبنانية؟ وإذا اعتمد اللبنانيون التراتبية في تنظيم مجتمعهم السياسي فكيف تؤثر هذه التراتبية على تطبيق العدالة الاجتماعية وعلى مبدأ المساواة بين الأفراد؟
هذه هي عينة من الأسئلة الكثيرة التي كانت ولا تزال تستأثر باهتمام اللبنانيين واللبنانيات، والتي كانت تراود أذهان أهل الفكر والقرار الذين ساهموا في صياغة المواثيق الوطنية اللبنانية . وسعى الميثاقيون اللبنانيون إلى الإجابة عن هذه الاسئلة في زمن استأثر فيه الفكر الدولتي على أذهان الاصلاحيين والثوريين والتغيريين في المنطقة . ففي تلك الفترة أخذت الحكومات على عاتقها توفير الأمن والعيش الكريم وتقيم العدل بين المواطنين . واسبغت النظريات السياسية، وخاصة فكرة الطليعة المختارة المرشحة لتخليص المجتمعات المتخلفة من تخلفها، على الدولة صفات الخير والصلاح . ولكن فيما اتجهت فكرة الميثاق في الدول الديمقراطية المتقدمة وفي اوروبا استبدال الدولة الخيرة بالدولة الشرعية، وفيما ارتكزت هذه الشرعية إلى الاختيار الطوعي الشعبي للنخب الحاكمة، فإنها اتجهت وجهة أخرى في لبنان .
ففي الأربعينات كان على الميثاقيين أن يؤكدوا الولاء للدولة المستقلة بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى . وقدم رئيس حكومة الاستقلال الاولى مثالاً على هذه الحالة إبان إحدى جلسات برلمان لبنان المستقل . ففي هذه الجلسة التي انعقدت لمناقشة الحكومة إذ انفعل رئيسها عندما اعتبر أن بعض النواب يريد إغراق الجلسة بمناقشة يضيع فيها موضوعها الرئيسي ألا وهو تحصين الاستقلال، ورد على هؤلاء النواب قائلاً: “إنني لم آتيكم بفاتورة حساب بل بوثيقة استقلال” . وخلال الثمانينات، كان على الميثاقيين أن يهندسوا الإطار الفكري والدستوري الملائم لإعادة بناء الدولة اللبنانية المستقلة بعد أن تهدمت هذه الدولة بفعل الاحتلال الأجنبي والصراعات المحلية والإقليمية والدولية . كانت النظرة الشائعة للبنان في أوساط كثيرة، في الخارج وحتى في الداخل إنه “ليس وطناً بل عشائر وعوائل وعصابات متحاربة”!
وفر ميثاقا الأربعينات والثمانينات المناخ الملائم لتحقيق العديد من الأهداف الوطنية وأهمها انسحاب الجيوش الأجنبية من لبنان . وفي هذا السياق يمكن القول إن هذه النجاحات تؤكد صواب الديمقراطية المعيارية . أي الديمقراطية أي ذلك النهج السياسي الذي يركز على الأهداف الرئيسية والبعيدة المدى للتحول الديمقراطي مثل الأهداف المتضمنة في شرعة حقوق الانسان . إلا أن التجربة اللبنانية نفسها أثبتت أن الديمقراطية المعيارية وحدها لا تكفي، بل لا بد من إرفاقها بتطبيق الديمقراطية الإجرائية، أي تلك الديمقراطية التي تركز على سلسلة من الاجراءات العملية وبناء المؤسسات الكفيلة بتفعيل الخيارات الديمقراطية التي يتبناها الشعب .
إذ تؤكد الديمقراطية الإجرائية أهمية الانتخابات، ينتقدها البعض لأن العملية الانتخابية كثيراً ما تزور كما يحصل في أكثر دول العالم الثالث، وحتى في الديمقراطيات المتقدمة التي يعطل فيها المال الانتخابي الإرادة الشعبية . إن هذا الانتقاد في محله، ولكن يمكن إثارته ضد كافة أنواع الديمقراطية . ألم تلجأ بعض حكومات بعض العالم الثالث إلى تأسيس جمعيات “أهلية” لحقوق الإنسان تأخذ على عاتقها تجميل صورة الأوضاع السياسية في تلك الدول؟ هل يعني ذلك بطلان الديمقراطية المعيارية؟
إذا كانت ثمة خطأ في اعتماد الديمقراطية المعيارية أو الإجرائية فهو في تبني واحد من النموذجين دون الآخر وفي الاعتقاد بوجود تضاد بينهما . فالتركيز على الأهداف الكبرى والبعيدة لا يفيد في غياب الآليات والمؤسسات المناسبة التي تعمل وبصورة مستمرة على تحقيق هذه الأهداف . وعلى هذا الصعيد يقول الكثيرون من اللبنانيين إن لبنان لم يكن ليتمكن من تحرير أراضيه من الاحتلالات الأجنبية سواء في الأربعينات او عام 2000 لولا وجود حياة ديمقراطية تشمل الانتخابات العامة وانتخاب ممثلين عن اللبنانيين . كذلك يقول الكثيرون أيضاً إن إجراء الانتخابات ولكن من دون تأمين أجواء الحرية للمقترعين لن يؤدي إلى اختيار الحكام الصالحين أو إلى قيام الحكومات الصالحة، ولن يحقق الاستقرار والأمن والازدهار .
كانت المنطقة العربية تزدحم بالجيوش الأجنبية المتقاتلة، لم يكن استقلال لبنان مطروحاً إلا في أذهان الاستقلاليين اللبنانيين وحدهم، وكان على هؤلاء أن يركزوا على الأهداف الوطنية الجامعة بحيث تمكن هذا البلد الصغير من أن يسبق أكبر دول العالم إلى تحقيق استقلاله .
وكما نلاحظ، فإن هذه الأسئلة والموضوعات لم تقتصر على الشأن الوطني وحده، بل تطرقت إلى مشاغل أخرى متنوعة ومتعددة ذات اهمية كبرى .
لقد ولد ميثاقا 1943 و1989 في خضم النضال من أجل بناء دولة لبنانية مستقلة وتحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الأجنبي ومن أجل إعادة ترسيم وتوطيد علاقته مع الدول العربية، وخاصة مع سوريا .
إن ميثاق 1943 لم يدون، ولكن بالعودة إلى بعض النصوص والوثائق ذات العلاقة يمكن أن نلاحظ بوضوح مدى تأثير المسألة الوطنية على المناخ الميثاقي خلال تلك الفترة . فالبيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى شدد على السيادة الوطنية الكاملة وهو رفض للضغوط التي مورست على اللبنانيين من أجل قبول معاهدة تعطي فرنسا مركزاً ممتازاً في لبنان . كذلك برز النهج الاستقلالي في إلغاء كافة المواد الدستورية التي تتعارض مع الاستقلال في مجالات الثقافة والاقتصاد والقضاء وفي نقد الطائفية واعتبارها مهدداً للروح الوطنية والاستقلال . نجد في مجمل هذه المواقف أن الوطنية كانت تعبر آنذاك عن التوق إلى الكيان الصحيح والحكم الصالح والدولة المستقلة التي لا ترضخ للهيمنة الخارجية ولا تستكين للمحتل .
وولد ميثاق الطائف أيضاً وسط النضال من أجل تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال “الإسرائيلي”، والسعي إلى إعادة ترميم علاقاته العربية ومع سوريا بصورة خاصة .
هذا الاهتمام لم يكن يندرج تحت عنوان الوطنية فحسب، وإنما كان يندرج أيضاً تحت عنوان الديمقراطية المعيارية . فالديمقراطية المعيارية هي تقريباً تبدأ من نفس المبادئ والقيم والتطلعات التي تنطق الوطنية بها .
الآن لا يكفي الحكم الصالح . لا نريد حكومات صالحة ولكنها مصنعة في الخارج . لا نريد مواثيق ودساتير تشبه دستور ماك آرثر الذي ركبت عليه يابان ما بعد الحرب . المواطنون في لبنان وفي المنطقة اليوم يريدون الحكم الصالح ويريدون أن يكون لهم فيه النصيب الكبير .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2178059

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178059 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40