الأحد 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

بلفور: بين الاستشراق و الاستعمار

الأحد 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par نهى خلف

في كل ذكرى تمر علينا لوعد بلفور نتحدث و نعرض ما يعرف “بوعد بلفور” “المشؤوم”والذي يرمزالى بدايات النكبة الفلسطينية دون التطرق الى سيرة اللورد بلفور نفسه الذي جمع بين عدد من المناصب في الامبراطورية البريطانية في ذلك الحين ودون البحث المعمق في الاهداف و الاستراتيجية الاقليمية الاساسية التي كانت تسير هذه الامبراطورية في عام 1917.
ففي كتاب و ثائقي هام بعنوان “انجلترا و فلسطين: دراسات حول اعادة بناء الدولة اليهودية ” نشرفي لندن في عام 1918 بقلم صحفي و كاتب بريطاني يسمى “هربرت سيدبوثام”، يكشف هذا الكاتب و بشكل مباشر مغزى الاهداف و المصالح البريطانية اينذاك قائلا ” ان ما تمليه علينا مصالحنا العسكرية بالأساس هيو الدفاع عن مصر و الهند و بالتالي فإن مصالحنا السياسية تتطلب تسوية وضع المحافظات المحيطة بمصر و الهند بشكل يؤمن مستقبلهما و يخفف علينا اعبائنا العسكرية الى حدها الأدنى،.و هذه المحافظات هي فلسطين و العراق ما بين النهرين(ميزوبوتاميا) وهكذا يتم بالتالي إحياء العلاقة القديمة بين مصر و فلسطين و ‘ميزوبوتاميا’، حيث أن’ ميزوبوتاميا’ هي مهد الشعب اليهودي و مكان نفيه خلال الأس ، أما موسى مؤسس الدولة اليهودية فقد جاء من مصر. فإذن ستصل عجلة القدر الى دورتها الكاملة في حال إزالة الامبراطورية التركية في ميزوبوتاميا عند نهاية هذه الحرب (العالمية الأولى) وعند تلبية الحاجة لتحقيق حدود آمنة لمصر عبر انشاء الدولة اليهودية في فلسطين “
و نلاحظ هنا استخدام الكاتب للاسطورة الصهيو نية التاريخية “باعادة بناء الدولة اليهودية” من أجل تأمين حدود الامبراطورية البريطانية في مصر حيث يؤكد ان السياسة الواقعية البريطانية في المنطقة تشمل ثلاثة أهداف أولا: الدفاع عن مصر. ثانيا: تسوية وضع و الدفاع عن حدود المحافظة شرق نهر الأردن و ثالثا: الحدود العسكرية و التجارية شمال فلسطين. و الهدف ألاول و الأهم و الأكثرالحاحا من بين هذه الأهداف الثلاثة هو الأول الذي يتطلب تسوية محكمة……………فمصر هي مصلحتنا الأهم في الشرق. و ان ثبتنا هذه المقولة فيعني ذلك ان فلسطين أيضا هي مصلحتنا الأهم ، لأن فلسطين، الآن مثل ما كانت دائما هي مفتاح مصر”.
و يستمرهذا الكاتب بشرح مفصل حول اهمية مصر بالنسبة للامبراطورية البريطانية لانها ” هي القناة الاساسية لمواصلاتنا مع امبراطوريتنا في الهند ” كما يضع تصورات لاحتمالات الهجوم على مصر مشيرا ” يجب ان نتذكر ان حدود مصر الحالية هي من جهة فلسطين في الصحراء” و ” ان مهما كانت نتائج الحرب و التعقيدات العسكرية الناجمة عنها فستبقى مسالة الدفاع عن مصر و وضعها المميز في الامبراطورية هي صلب الموضوع لان مصرسميت”كعب اخيل” الامبراطورية البحرية البريطانية.
و يعود الكاتب للبحث عن افضل اسلوب لتخفيف اعباء الامبراطورية البريطانية مشيرا الى ان افضل اسلوب هو عبر توسيع “حدودنا” و يعطي وضع الهند كمثال قائلا”ان عاملان اساسيان ساهما في تخفيف أعباء الامبراطورية في الهند ” العامل الاول هو حدودها الطبيعية الفريدة و الثاني هو نظام ‘الدول العازلة ‘(بافر ستيتس)على حدودها الشمالية الغربية المعرضة للغزو. و من اهم هذه الدول العازلة أفغانستان. أما بالنسبة لمصر وللخليج الفارسي فليس لديهما هذه المميزات”.
ثم يكشف الكاتب هنا عن الخطة المستقبلية للامبراطورية البريطانية لحماية حدود مصر”ففي حال وسعنا حدودنا ، فيمكننا على الأقل من ناحية مصر ان نحقق تفوق واحد – أي دولة عازلة (او حاجزة) قوية , و بينما لا يمكن ان نخلق حدود طبيعية صلبة بأساليب إصتناعية إلا أن سياسة إستشرافية واعية يمكنها ان تبني امام مصر دولة عازلة نموذجية”.
و بالتالي حسب منطق الامبراطورية المهتمة بتخفيف اعبائه االعسكرية و الاقتصادية فلا يجب ان تستعمر بريطاننيا هذه الدولة العازلة بشكل مباشرفحسب قوله” الاستعماريين الوحيدين الممكنين لحكم فلسطين هم اليهود.فهم الوحيدين القادرين على انشاء مستعمرة جديدة في المتوسط تكون شريكة لبريطانيا منذ البداية في “أعمال الامبرطورية”، لتصبح في نفس الوقت حماية ضد الشرق الغريب و الوسيط بيننا ه و بينه ، حيث ستكون لها حضارة مميزة عن حضارتنا و لكنها في الوقت نفسه مشبعة بأفكارنا السياسية، و تحظى بنفس مرحلة تطورنا السياسي، كما ستبدأ حياتها الثانية كدولة تحمل” دين” و” شعوربالجميل” تجاها البلد، الأب الثاني لها”.
هذه هي خلفية اللوحة للسياسة البريطانية في المرحلة التي كان يحظي بها أرثر بلفور بعدة مناصب هامة في الامبراطورية بالإاضافة الى كونه منذ عام 1910 عضوا في البرلمان يتمتع بمركز اجتماعي مرموق و باتساع نطاق معارفه و ذكائه .
و قد اعتبر المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” أرثر بلفور من سلالة المستشرقين البريطانيين الكبار حيث كان يدافع عن الاستعمار البريطاني و الامبراطورية بلباقة و من أهم الوثائق التي توضح أفكاره حول أهمية التواجد البريطاني في مصر هي خطابه في 13 يونيوعام 1910 أمام مجلس العموم البريطاني حيث حذر من” المشكلات التي علينا ن نواجهها في مصر” قائلا انها مشكلات “تنتمي الى فئة تختلف اختلافا تاما” من المشكلات التي تقع في بقع أخرى من الامبراطورية
و كانت أينذاك مسألة “تواجد انجلترا في مصر”موضوعا شائعا قدأدى الى نقاش واسع و اختلافات في الرأي بين السياسيين البريطانيين بسبب ‘الكتاب الحماسي’ الذي نشره’ الفريد ميلنر’ عام1892 حيث كتب ميلنر ” ان الاحتلال الذي كان مفيدا يوما قد اصبح مصدرا للمتاعب بعد ارتفاع مد الوطنية المصرية و لم يعد من السهل الدفاع عن استمرار الوجود البريطاني في مصر” ، مما دفع بلفور الى مناقشة هذا الموضوع في البرلمان البريطاني من أجل الدفاع عن ضرورة استمرار الحكم البريطاني في مصر قائلا ” انا لا اتخذ موقف التفوق و لكنني اسأل روبرتسون(عضو برلمان آخر) او أي شخص آخر لديه معرفة بالتاريخ مهما تكن سطحية ، ان كان قادرا على المواجهة المباشرة للحقائق التي لا بد للسياسي من التعامل معها حين يوضع في موقع السيادة ازاء اجناس عظيمة مثل سكان مصر و بلدان الشرق. اننا نعرف حضارة مصر خيرا مما نعرف حضارة أي بلد آخر و نعرف تاريخها السحيق ، بل نحيط بها احاطة اوثق و أشمل،, انها تتجاوز النطاق المحدود لتاريخ الجنس الذي ننتمي اليه ، فهو يضيع في فترة ما قبل التاريخ في الوقت الذي كانت الحضارة المصرية قد تخطت عهد الشباب، انظروا الى جميع البلدان الشرقية . لا تتحدثوا عن تفوق او عن دونية “
وحسب تحليل ادوارد سعيد فان ملاحظة بلفور تدور حول محورين أساسيين و هما “المعرفة و السلطة’ ” و لذلك فان تبرير بلفور لضرورة الاحتلال البريطاني لمصر مبنيا على أهمية دور المعرفة. و ليس بالضرورة القوة العسكرية او الاقتصادية، حيث ان” المعرفة” حسب تعريف بلفور تعني”الارتفاع على اللحظة الحاضرة و تجاوز الذات الى ما هوأجنبي و بعيد ” و.. “استقصاء مسار حضارة ما منذ نشأتها حتى ازدهارها و ذبولها “
و في رأي بلفور فإن امتلاك المعرفة بالشرق معناه السيطرة عليه او فرض ‘السلطة’ عليه حيث يصبح وجود البلد الشرقي- متعلقا بما يعرفه عنه البريطانيون” و ما دام يوجد الشرق حسب معرفتنا به” أي أن” المعرفة البريطانية لمصر” تصبح في رأي بلفورهي “مصر” ذاتها. ولا ينكر بلفور اطلاقا تفوق بريطانيا على مصر بل يعتبرها مسألة مسلما بها في سياق وصفه للآثار المترتبة على المعرفة قائلا :”انظروا اولا الى حقائق القضية: ان الامم الغربية ما ان يبدأ ظهورها في التاريخ حتى تظهر بدايات قدرتها على الحكم الذاتي ، و هي القدرة الجديرة بالتقدير لذاتها,,, ثم انظروا الى تاريخ الشرقيين برمته فيما يسمى بصفة عامة ‘الشرق’ و لن تجدوا آثارا تشير الى الحكم الذاتي اطلاقا. اذ مرت كل قرونهم العظمى – و لقد كانت بالغة العظمة- في ظل الحكومات الاستبدادية و الحكم المطلق. كما كانت كل اسهاماتهم الحضارية العظيمة – لقد كانت حقا عظمى – في ظل ذلك النوع من الحكومات، لقد تلى الفاتحون بعضهم البعض و جاءت سيطرة في اثر سيطرة لكنك لن تجد في شتى دورات الاقدار و الحظوظ امة من تلك الامم تنشئ من تلقاء ذاتها ما نسميه ‘نحن’، من وجهة نظر غربية ، الحكومة الذاتية. هذه هي الحقيقة، فالمسألة اذن ليست مسألة تفوق او دونية . أتصور ان الحكيم الشرقي الصادق سوف يقول ان الحكومة التي أسسناها في مصر و غيرها من البلدان لا تمثل عملا ‘جديرا بالفيلسوف’- و انها عمل حقير او من الحد الادنى اللازم لمواصلة الجهد الضروري “
و يكمل بالفور حجته عبر التساؤل التالي:”هل تعود ممارسة هذه الحكومة المطلقة من جانبنا بالخير على هذه الامم العظيمة و التي اعترف بعظمتها؟” و يجاوب” اعتقد انها تعود بالخير عليها، و اعتقد ان الخبرة قد اثبتت انها تمتعت في ظلها بحكومات افضل كثيرا مما شهدته على امتداد تاريخ العالم كله، و هي ليست مفيدة لها وحدها، و لكنها لا شك مفيدة للغرب المتحضر برمته.. نخن.لسنا في مصر من أجل المصريين فقط، و ان كنا هناك من أجلهم، فنحن هناك ايضا من اجل اوروبا كلها.”
وحسب أدوار سعيد لا يقدم بلفور أي ادلة على ان المصريين “و الاجناس التي نتعامل معها ” تقدر او حتى تفهم الخير الذي يعود عليها من الاحتلال الاستعماري كما لا يخطر على بال بلفور ان يطلب من ‘المصري’ أن يتحدث بنفسه ربما لان المصري الذي سيتكلم سوف يكون على الارجح ذلك ” المشاغب الذي يثير الصعوبات” لا المواطن الصالح الذي يتجاهل “صعوبات” السيطرة الاجنبية.
وبالرغم من الادعاء ‘بالمعرفة’ البريطانية الدقيقة لمصر و اعتراف بلفور’بعظمة’ شعبها، الا أن هذه المعرفة تقوده الى الاستنتاج ان الشرق لن يتمكن من حكم نفسه و بالتالي بحاجة الى أن يحكم من قبل الآخرين و هؤلاء الآخرون قد تختلف هويتهم من منطقة الى أخرى و من فترة لأخرى ولكن حسب ما جاء في اتفاقية “سايكس بيك”و و يصبح حسب الوعي الاستعماري و الاستشراقي شيئا طبيعيا و منطقيا ان يحكم فلسطين اليهود و ان يسلب الأهالي الأصليين الذين عرفوا في اعلان بلفور بالطوائف او الجماعات ‘غيراليهودية’ من حقوقهم السياسية، بينما توضع المناطق الأخري تحت الإنتداب الغربي ، أي الى درجة أخف من الاستعمار المباشر.
أما بالنسبة للذين ينكرون اليوم بالصلة التاريخية الحميمة بين فلسطين ومصر فيعود بلفورو مفكرون آخرون من الامبراطورية البريطانية ليذكرهم ان فلسطين هي ‘مفتاح’ مصرو تمثل ما يسمى اليوم ‘عمقها الاستراتيجي’، فمن يحكم فلسطين يتمكن من وضع مصرتحت ‘حمايته’ و بالتالي التحكم بأمنها.
و هكذا اصبح الكيان الصهيوني الذي يتحكم في الأرض الفلسطينية و شعبها تلك الدولة ‘العازلة’ التي خطط لها البريطانيون منذ بدايات القرن العشرين، خاصة بعد ان أعلن بلفور رسميا هذه الخطة و سجلها على الورق
و بعد الخراب و الدمار العظيم الذي أصاب العالم العربي يمكننا أن نتساءل اليوم ان كان المستشرقون و المحتلون لا يزالوا يتحكمون بالمعرفة الدقيقة لكل ما يحدث في الشرق ؟؟؟ أم يتهيأ لهم إنهم يعرفون ؟ و هل يفهم أهل الشرق نفسهم وهل يعي المثقفون العرب بشكل خاص كل ما يحدث اليوم في منطقتهم و كل الخطط المرسومة لهم و هوية من يتحكم بمصائرهم ؟؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 28 / 2178884

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2178884 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40