الأربعاء 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

شكراً أردوغان . . لم نكتشف أمريكا ولم نذبح أهلها

الأربعاء 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par فيصل جلول

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مصمم على السير في الاتجاه المعاكس لمؤسس تركيا الكمالية . هذا على الأقل ما تشي به آخر إطلالاته على فضائيات بلاده والعالم في نهاية عطلة الأسبوع الأخير، حيث استقبل وفداً من ممثلي الإسلام في أمريكا اللاتينية وأكد خلاله “إن المسلمين اكتشفوا أمريكا قبل كريستوفر كولومبس بثلاثة قرون”، واستند في قوله إلى إشارة وردت في مذكرات كولومبس قال فيها إنه شاهد مسجداً على تلة مشرفة على الشاطئ الكوبي . وحدد أردوغان موعد اكتشاف القارة الأمريكية بالعام 1178 أي أكثر من ثلاثة قرون قبل اكتشاف القارة في عام 1492 . ولم يكتف أردوغان بهذا “الاكتشاف” فقد تعهد ببناء مسجد في المكان المذكور .
تجدر الإشارة إلى أن الرئيس التركي شيد خطابه على بحث أجراه المؤرخ اللبناني يوسف مروة عام ،1996 وأشار فيه إلى هذا “الاكتشاف الإسلامي” لكن الأكثرية الساحقة من المؤرخين لم تعره بالاً مرجحة القول إن الإشارة إلى المسجد في مذكرات كولومبس هي عبارة عن تشبيه أو استعارة لوصف شكل التلة المذكورة، وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك حين أكدوا أن لا شيء في القارة الأمريكية يشير إلى وجود إسلامي متواصل عبر ثلاثة قرون قبل اكتشافها، فهل يمكن أن تخلو القارة من أية أدلة أثرية عن تلك الفترة؟ وهل يمكن أن يغيب هذا الاكتشاف عن المؤرخين المسلمين؟ ولو صح ما يقوله مروة وما ينقله أردوغان، ألم يتم ذلك في عهد خليفة من خلفاء المسلمين أو حاكم من حكامهم؟ ألم يكن عملاً من هذا النوع فتحاً جديراً، بلفت الانتباه إلى عظمته ومدعاة للمديح؟ هذه الأسئلة وغيرها تحيل القضية إلى تسرع المؤرخ مروة وإلى غليان الزعيم التركي ودأبه المستمر في الركض نحو العثمانية الجديدة وصولاً إلى مئوية الجمهورية الكمالية والانعطاف بها من العلمانية الغربية إلى الأردوغانية الشرقية العثمانية .
معلوم أن تركيا الحديثة تأسست على انقاض الإمبراطورية العثمانية التي انهارت خلال الحرب العالمية الأولى، وقد أشرف على تأسيسها الجنرال مصطفى كمال أتاتورك الذي خلع السلطان، وأقام جمهورية علمانية تقدمية شعبية حديثة ووطنية، ثم اعتمد النظام المتري وقانون العقوبات الأوروبي وأعطى المرأة حق التصويت وألغى تعدد الزوجات ونقل الإبجدية التركية من العربية إلى اللاتينية، بعبارة أخرى نقل أتاتورك بلاده الضامرة والمقتصرة على تركيا الحالية من الشرق إلى الغرب، وكان من الطبيعي أن يسير ورثته على رسمه ويصرون على عضوية الاتحاد الأوروبي بعد مسيرتهم الطويلة على درب الجلجلة الغربية، بيد أن الأوروبيين وضعوا شروطاً إضافية على الأتراك وطالبوهم بالمزيد من التكيف الغربي، وإذ تكيفوا أكثر وضع الأوروبيون شروطاً أصعب الأمر الذي أدى إلى ردود فعل سلبية لدى الطبقة السياسية التركية، وفي سياق ردود الفعل المذكورة أنبثق التيار الإسلامي الذي خاض صراعاً مريراً على السلطة التي وصلت مطالع الألفية الثالثة إلى رجب طيب أردوغان وما زالت في عهدته .
معلوم أيضاً أن “حكومة العدالة والتنمية” حققت إنجازات اقتصادية لا يستهان بها جاءت بقسم وافر منها من العودة الجزئية التي باشرها الإسلاميون من الغرب إلى الشرق والراجح أنها لن تكون عودة معاكسة تماماً للكمالية وإنما رديفاً لها في عصر مختلف وظروف دولية مختلفة عن تلك التي أملت على أتاتورك خياراته، ولعل هذا التقدير للاتجاه التركي نحو الشرق بوصفه مكملاً للعلمانية التركية لا يراه الغربيون من هذه الزاوية، خصوصاً عندما يقرر أردوغان أن يحتفل بمئوية أتاتورك ببناء أكبر مسجد إسلامي في العالم وأن تكون مآذنه الأعلى في العاصمة .
عودة أردوغان بتركيا جزئياً على الأقل في الاتجاه المعاكس، للكمالية أملت خطاب العظمة الذي ألقاه في ضيوفه ممثلي المسلمين في أمريكا اللاتينية، وادعاء اكتشاف أمريكا على يد جماعته، علماً بأنه لو صحت هذه الفرضية فسيكون العرب هم الذين اكتشفوها باعتبار أن السلاجقة أجداد أردوغان كانوا جنوداً عند العرب الذين تعلموا المهارات البحرية ووصلوا بحراً إلى الأندلس ودافعوا بحراً عن الغزوات التي استهدفتهم في شمال إفريقيا، في حين كان العثمانيون قبائل داخلية بلا مهارات بحرية وتعلموا فنون الملاحة من العرب .
وإذ يستعجل أردوغان في طلب العظمة للأتراك بأية وسيلة وبقدر كبير من الخفة كما لاحظنا للتو في قضية المسجد الإسلامي على الشاطئ الكوبي، فإنه يقفز على قيم العصر وينافس الأمريكيين في مجال تاريخي تقشعر له الأبدان . ذلك أن اكتشاف أمريكا تعبير عنصري مقيت استخدمه الأوروبيون للإيحاء بأن أمريكا ما كانت موجودة قبل اكتشافهم لها، وأن العالم يكون أو لا يكون بقدر بعد الأوروبيين أو اقترابهم منه، علماً أن أمريكا عاشت قبل الأمريكيين آلاف السنين وتخللتها حضارات مختلفة وما كانت بحاجة إلى أن يكتشفها أحد، فضلاً عن أن اكتشافها ربما كان بمثابة لعنة تاريخية إذ أدى إلى تدمير حضارتها وقتل سكانها الأصليين واستباحتها من المكتشفين وهم بمعظمهم من المجرمين والقتلة واللصوص الذين أرسلتهم أوروبا إلى ما وراء المحيط لإبادة شعب لم يطلب أحداً اكتشافه .
الواضح أن أردوغان يريد منافسة المكتشفين المجرمين للقارة الأمريكية متذرعاً بالإسلام وهو براء من هذا النوع من الجرائم، فمن المعلوم أن المسلمين اندمجوا في البلدان التي فتحوها ولم يرتكبوا مجازر ضد الإنسانية، ولم يدمروا حضارات، ولم يذبحوا شعباً عن بكرة أبيه كما وقع للهنود الحمر، لقد فتح المسلمون العرب بلداناً ازدادت عمراناً بخلاف العثمانيين الذي تركوا وراءهم عواصمنا العربية أطلالاً فقيرة وبائسة بعد أن كانت منارات مشعة . شكراً أردوغان، لا نريد نحن العرب منافسة قتلة الهنود الحمر على جرائمهم التاريخية، أفعل ذلك إن شئت باسم الأتراك . . و“صحتين على قلبك” .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165561

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع فيصل جلول   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

31 من الزوار الآن

2165561 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 32


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010