الجمعة 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

من يخسر الوحدة الوطنية يخسر الاستقلال

الجمعة 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par رغيد الصلح

يحتفل لبنان غداً السبت الثاني والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني بالعيد الحادي والسبعين لاستقلاله الوطني . يمثل هذا اليوم محطة مهمة لا في تاريخ لبنان فحسب وإنما في تاريخ المنطقة العربية والعالم أيضاً . لقد طرق اللبنانيون باب الاستقلال على خلفية تطورات محلية وعربية وعالمية وفرّت لهم مجالاً أفضل لتحقيق آمالهم الوطنية . كان من أهم هذه التطورات انهيار التحالفات التي أسسها الفرنسيون في لبنان لكي تشكل ظهيراً لهم ضد الحركة الاستقلالية اللبنانية وعصبها العروبي . قابل انهيار ذلك الحلف صعود تحالف ضم المعتدلين من القوميين اللبنانيين والقوميين العرب اللبنانيين الذين اتفقوا على المطالبة ب“استقلال لبنان” وعلى تعاونه إلى أقصى حد ممكن مع الدول العربية الشقيقة .
لم تستفد الحركة الاستقلالية اللبنانية من الأجواء المحلية المناسبة لتحقيق أهدافها فحسب، وإنما أفادت أيضاً فائدة عظيمة من صعود التيار العروبي في المنطقة . ولقد تجلى ذلك في ردة الفعل العربية القوية ضد “حركة فرنسا الحرة” عندما قامت القوات التابعة لها باعتقال الزعماء الاستقلاليين وعلى رأسهم، بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية، ورياض الصلح، رئيس الحكومة . لقد هدد السوريون بحمل السلاح مرة ثانية ضد فرنسا كما فعلوا خلال العشرينات اذا حرم لبنان من حقه في الاستقلال . وتبنت الحكومة العراقية مطالب الاستقلاليين اللبنانيين بحذافيرها وحذروا الفرنسيين من نتائج تمسكهم باحتلال لبنان . أما في مصر فقد هددت حكومة مصطفى النحاس “حركة فرنسا الحرة” بزعامة الجنرال ديغول بأنها لن تعترف بها، وبأنها سوف تصادر كل ممتلكاتها في مصر إذا لم ترضخ لمطالب اللبنانيين المحقة . واعلنت المملكة العربية السعودية تضامنها هي الأخرى مع اللبنانيين في مطالبهم الاستقلالية . وهكذا كاد لبنان أن يتحول بسبب معركة الاستقلال من “مركز للإشعاع الفرنسي في المشرق” كما أراده الفرنسيون، إلى رمال متحركة تغرق فيها سمعة فرنسا وما تبقى لها من رصيد في المنطقة .
وكما أفاد اللبنانيون من المتغيرات المحلية والعربية لتحقيق أهدافهم، فإنهم أفادوا أيضاً من المتغيرات الدولية ومن تفاقم الحرب بين الحلفاء والمحور . لقد جاء توقيت معركة الاستقلال اللبناني في ظرف اضطر فيه الحلفاء إلى استرضاء العرب بأية وسيلة ممكنة حتى لا يعرقلوا المجهود الحربي للحلفاء . كذلك جاء توقيت معركة الاستقلال اللبناني في وقت أراد فيه رئيس حكومة بريطانيا تشرشل ورئيس الجمهورية الأمريكية روزفلت أن يؤكدا تأييد بلادهما لحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار حكوماتها بحرية . وكانت هذه التطمينات والضمانات من أهم بنود ميثاق الأطلسي الذي وقعه روزفلت وتشرشل خلال صيف 1941 أي قبل فترة قصيرة نسبياً من الانتخابات العامة اللبنانية التي فاز فيها الاستقلاليون .
وعندما قرر الاستقلاليون اللبنانيون إلغاء كل ما يمت بصلة إلى الانتداب الفرنسي من الدستور اللبناني وإعلان استقلال بلدهم الناجز، استندوا إلى مواثيق دولية كان من بينها ميثاق الأطلسي . ولما حاولت السلطات الفرنسية إحباط الخيار الاستقلالي اللبناني بالقوة، حول اللبنانيون هذه المعركة إلى محك لصدقية ميثاق الاطلسي ونجحوا في ذلك نجاحاً ملموساً إذ جاء في المداولات بين الحكومتين البريطانية والأمريكية أن الوقوف ضد استقلال لبنان سوف يلغي مفعول الميثاق ويسمح لدول المحور بتأليب شعوب المستعمرات ضد الحلفاء ما جعل الأمريكيين والبريطانيين يمتنعون عن دعم “حركة فرنسا الحرة” دعماً كافياً في هذه المعركة .
لقد سمحت ميزات الحركة الاستقلالية اللبنانية خلال الأربعينات لهذا البلد الصغير بالحصول على استقلاله قبل عدد كبير من دول العالم . وبفضل هذا الانتصار تحول لبنان إلى نموذج للشعوب الأخرى المناضلة من أجل الاستقلال والتحرر . وهكذا حاول زعماء الحركة الاستقلالية في المغرب والجزائر أن يفيدوا من التجربة اللبنانية عندما كثفوا نضالاتهم السياسية والضغوط الشعبية على “فرنسا الحرة” وعلى الحلفاء من أجل إنهاء العهد الاستعماري في البلدين . لم تنجح الحركة الوطنية في البلدين الشقيقين في إنجاز الاستقلال عندها ولكن النموذج اللبناني لبث عاملاً مهماً في إذكاء الآمال الاستقلالية لدى أبناء المغرب العربي . ولبنان النموذج لبث حاضراً أيضاً في أذهان الزعماء العرب، وهكذا عندما شكلت جامعة الدول العربية وفداً للتوسط بين الزعيمين غاندي ومحمد علي جناح بقصد رأب الصدع بين المسلمين والهندوس، لم يجد مسؤولو الجامعة أفضل من اختيار لبناني من شخصيات الحركة الاستقلالية ومن الميثاقيين اللبنانيين لترؤس الوفد . ولم يكن هذا كثيراً على لبنان واللبنانيين، إذ إن بلدهم سبق أكبر أمم العالم مثل الصين والهند وإندونيسيا في تحقيق استقلاله . ولعب هذا البلد الصغير دوراً ملحوظاً في وضع أسس النظام الإقليمي العربي والنظام الدولي أيضاً عبر مشاركته في المؤتمرات التأسيسية لكل من هيئة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية عام 1945 .
إن مزايا الوحدة الوطنية معروفة وشائعة ولا حاجة إلى تكرارها كثيراً، ولكن نجد أن استحضارها أمر مفيد عندما نقارن بين لبنان الذي يسبح في مياه الوحدة الوطنية الدافئة، كما كان إبان خوضه معركة الاستقلال، وبينه اليوم إذ يغرق في عواصف الصراعات الفئوية الجامحة .
إن الفارق ليس عادياً ولا يحسب بالأرقام العادية . فلبنان الوحدة الوطنية هو بلد الازدهار والخصوبة الفكرية والأمن والاستقرار والإبداع، وهو لاعب مهم ومستقل على المسرحين العربي والدولي وكيان يحظى بإعجاب شعبه وسكانه وتقدير أشقائه في المنطقة العربية والأصدقاء في المجتمع الدولي . أما لبنان الاحتراب الفئوي والطائفي والمذهبي فهو ملعب للقتلة وللمجرمين الذين يعملون على تهديم الاستقلال والسيادة والشراكة الوطنية . فهل تساعد ذكرى الاستقلال اللبنانيين على إحياء الوحدة الوطنية فيما بينهم وعلى دفن الخلافات الدينية والمذهبية إلى الأبد؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2178037

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178037 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40