الأحد 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

بصيرة الفراعنة سبقتنا

الأحد 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par فهمي هويدي

وعي الفراعنة بمتطلبات أمن مصر القومي لابد أن يثير انتباهنا ودهشتنا وحسرتنا أيضا، على الأقل، فذلك ما شهد به اثنان من أهم أساتذة العلوم والجغرافيا السياسية المحدثين في مصر، هما الدكتوران حامد ربيع وجمال حمدان. أخص بالذكر من مؤلفاتهما التي تطرقت إلى الموضوع كتاب “الأمن القومي العربي” للأول و“شخصية مصر” للثاني.
استدعاء هذه الصفحة من التاريخ يفيدنا في مناقشة الخلل الإستراتيجي في الرؤية المصرية للسياسة الخارجية الذي تطرقت إليه أمس.
وهو ما جرَّنا إليه الحديث عن الدعوة السعودية للتهدئة مع قطر، إذ استطردت منه إلى عدة ملفات أخرى، منها الخصومة مع تركيا والحماس للحزب الجمهوري الأمريكي. برغم تآمره على القضية الفلسطينية وازدرائه بكل ما يتعلق بالعرب والمسلمين. هذا تفصيل في الاستطراد يركز على الشق الأخطر المتمثل في الملف التركي. وأكرر ابتداء اقتناعي بأن ثمة غلوا لا مبرر له في موقف أنقرة إزاء النظام المصري وهو ما تستحق عليه النقد والعتاب، إلا أنني أزعم أن رد الفعل المصري إزاءه اتسم بالتسرع والانفعال، إلى الحد الذي دفعها إلى الذهاب أبعد مما ينبغي في مخاصمة أنقرة والإضرار بأمنها وشعبها.
عند الدكتور حامد ربيع، فرغم أن دولة مصر الفرعونية لم تكن منفتحة ولا تسعى لأي سيطرة إقليمية، وكانت مصر آنذاك إفريقية بأكثر منها آسيوية، فإن قياداتها الواعية فهمت أن الدفاع عن حدودها الشرقية لا يجوز أن يتمركز حول حدودها الطبيعية (في سيناء)، وإنما يجب أن يبدأ من شمال سوريا، وعلى وجه التحديد من منطقة الأناضول (التركية الآن). حروب تحتمس ورمسيس تشهد بذلك، حيث عبرت عن إدراك حقيقة أن مصر لا تحتمل ولا تسمح بوجود قوة معادية على حدودها الشرقية، بل إن صفحات التاريخ القديم تشير إلى أن كل فرعون حكم مصر، سعى إلى تأمين البلاد من خلال حملة قادها إلى سوريا، أو غزوة قصدت ليبيا، أو زحف استهدف إخضاع النوبة، وهي الحملات التي اعتبرها الدكتور حمدان “ضريبة الموقع وثمن الحماية”.
هذا المنظور الدفاعي ظل قائما طوال الوقت في التاريخ المصري حتى عصر محمد علي باشا، إذ تحركت القوة المصرية في دائرتين، دائرة شملت الشام عموما وفلسطين خصوصا، وغرب الجزيرة العربية في الحجاز واليمن، ثم إقليم برقة في المغرب والنوبة في الجنوب، وهذه الدائرة كانت مسرحا للحروب المصرية.
الدائرة الثانية أوسع وأرحب، حيث وصلت جيوش مصر في الشمال إلى تخوم الفرات وأرمينيا وحواف الأناضول، وتمددت أحيانا إلى شمال العراق (الجزيرة)، كما اخترقت قلب الأناضول منه. وفي الشرق وصلت إلى نجد، ولكنها شملت الجزيرة العربية كلها.
في الجنوب ارتبطت بشمال السودان أساسا، ولكنها تعدته فترة إلى مشارف خط الاستواء والصومال، كما تعدت برقة إلى طرابلس في الغرب بعض الأحيان.
أما في البحر فقد تمددت لتشمل قبرص أحيانا (في مرحلة المماليك) ـ وكريت حينا آخر (محمد علي باشا).
لقد اتفق العالمان الكبيران مع غيرهما من الباحثين الإستراتيجيين على أن خط الدفاع الأول عن مصر هو شمال الشام وجنوب تركيا (جبال طوروس) وخط الدفاع الثاني يقع في الجزء الجنوبي، يتمركز حول المنطقة التي عرفت باسم أرض فلسطين.
أما خط الدفاع في سيناء، فهو في الواقع خط الدفاع الأخير، وهو اليوم يتمركز حول قناة السويس.
أعتذر عن هذه الإطالة التي أرجو ألا تكون مملَّة، وكنت قد أوردتها في مقالة سابقة نشرت قبل سبع سنوات (في 16/10/2007)، إلا أنني وجدتها فرصة لعرض معالم الرؤية الإستراتيجية لأمن الدولة المصرية على مدار التاريخ، الأمر الذي يستدعي سيلا من الأسئلة حول الصورة التي ترسم تلك الرؤية في الوقت الراهن.
إذا بقينا في حدود الملف التركي، ولاحظنا أن جبال طوروس في الجنوب التركي تشكل حدود أمن مصر في المنظور التاريخي، فسوف يحيرنا ويحزننا ما آلت إليه الأمور بين البلدين. ذلك أنها تجاوزت حدود الخصومة السياسية إلى الإضرار بمصالح الشعب التركي، وذهبت إلى أبعد بالتحالف مع اليونان وقبرص اللتين تختزنان مرارات إزاء تركيا من رواسب مرحلة الإمبراطورية العثمانية، والدولتان كانتا خاضعتين لسلطانها لعدة قرون، ثم أنها (قبرص بوجه أخص) في تجاذب مع تركيا بشأن اكتشافات غاز المتوسط الذي باتت إسرائيل تستأثر بأكثر نصيب منه.
ليست المشكلة في التحالف المذكور، لأنه يمثل فرقعة إعلامية فيها من الرسالة السياسية أكثر مما فيها من التأثير الفعلي، ذلك أن اليونان وقبرص (سكان البلدين 12 مليون نسمة) لا يشكلان وزنا يذكر في الاتحاد الأوروبي، بل إنهما يصنفان ضمن مراكز الضعف فيه، إذ هما غارقتان في الكساد وتعيشان تحت الوصاية وعلى المساعدات المالية الأوروبية منذ خمس سنوات، وتركيا (76 مليون نسمة) بالنسبة إليها تعد عملاقا سياسيا وعسكريا واقتصاديا. لكن أكثر ما يهمني في الموضوع هو السلوك المصري ورسالته التي اقترنت بإجراءات أخرى استهدفت الإضرار بالاقتصاد التركي، في مقدمتها إلغاء اتفاقية خط الملاحة التركي (الرورو) الذي كان ينقل البضائع التركية إلى دمياط وبورسعيد، ومنها إلى دول الخليج، بعد توقف خط النقل عبر سوريا.
لا أعرف حدود الجهود الدبلوماسية التي بذلت للحفاظ على شعرة معاوية بين البلدين، ولحجب تأثير الخلاف السياسي على المصالح المتبادلة بين شعبي البلدين، لكن الذي أعرفه أن الخلاف ما كان ينبغي له أن يصل إلى هذه الدرجة، وأن القطيعة التي تمت لا تخدم الأمن القومي المصري.
للدكتور جمال حمدان مقولة شهيرة تحدث فيها عن مثلث القوة الذهبي في الشرق الأوسط، واعتبر أنه قائم على ثلاثة أضلاع تمثلها مصر وتركيا وإيران، بأوزانها السكانية الكبيرة وتراثها التاريخي والاقتصادي، وموقعها الإستراتيجي. (فضلا عن المشترك العقيدي بينها)، لكن مشكلة الرجل أنه فكر بعقل إستراتيجي صرف، ولم يكن شريكا في الهرج السياسي. ولحظه فإنه غادرنا قبل أن يرى ما صرنا إليه، وإلا كان قد مات من الحسرة والكمد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2178399

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2178399 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40