الأربعاء 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

حصاد السنين

بقلم:أحمد يوسف أحمد
الأربعاء 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

عرفت الدكتور بطرس بطرس غالى منذ نحو ستة وأربعين عاماً طالباً فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وعضواً بقسم العلوم السياسية الذى رأسه لسنوات طويلة حتى اختاره الرئيس أنور السادات وزير دولة فى 1977، وكاتباً فى مجلة «السياسة الدولية» التى أسسها فى 1964 ورأس تحريرها حتى تولى المنصب الوزارى، ومنفذاً لمهام كلفنى بها فى مطلع ثمانينات القرن الماضى كوزير دولة للشئون الخارجية وعضواً بمجلس حقوق الإنسان فى أولى دوراته، وطيلة هذه السنوات تعلمت منه الكثير واختلفت مع آرائه وليس معه فى بعض الأحيان وربطتنا علاقة رائعة. ويوم الجمعة 14 نوفمبر قرأت مقالاً للأستاذ عمرو عبدالسميع فى ملحق الأهرام لفت نظرى عنوانه الذى كان يشير إلى بطرس غالى «الفنان»، وعرفت من المقال للمرة الأولى أن عيد ميلاده أمد الله فى عمره وعطائه يصادف ذلك اليوم. اتصلت بشيماء سكرتيرته المهذبة التى كانت توصلنى به أثناء وجودى فى باريس لإجراء عملية زرع الكبد كى يطمئن على حالتى وحدثتها عن رغبتى فى أن أقول له كل سنة وأنت طيب، فأخبرتنى أنه سيكون فى المكتب بعد نصف ساعة، وفى خلال عشر دقائق اتصلت وأوصلتنى به فقلت له كيف أكون تلميذاً لك لستة وأربعين عاماً ولا أعرف يوم مولدك إلا أمس الأول؟ فرد بخفة ظله المعتادة: أصبحت أُخفيه.
جلست معه قرابة الساعة وكنت أركز على وجهه كى أكتشف فى اللحظة المناسبة إن كان الإرهاق قد أصابه. استغرقت أسئلته المدققة عن صحتى نصف اللقاء، ثم بادرنى بالسؤال عن الأزمة التى يمر بها معهد البحوث والدراسات العربية فنكأ الجرح فى صدرى وانطلقتُ فى حديث طويل ذى شجون. أعربت له عن مخاوفى الحقيقية من أن هذا الصرح الذى أسسه المفكر القومى الكبير ساطع الحصرى منذ اثنين وستين عاماً وصدر بتأسيسه قرار من مجلس الجامعة العربية فى مارس 1952 وجلس على كرسى إدارته رجال بقامة طه حسين وأحمد شفيق غربال، وخرّج آلافاً من أبناء الأمة العربية فى التخصصات الإنسانية العربية شغلوا فى أوطانهم أرفع المناصب الأكاديمية والسياسية، وأنتج ما يتجاوز بكثير ألف دراسة فى قضايا الأمة فضلاً عن مئات من رسائل الماجستير والدكتوراه توفر قاعدة علمية عربية غير مسبوقة لا يتخيلها أحد، وحقق ما لم تحققه سوى ثلاث من مؤسسات العمل العربى المشترك وهو التمويل الذاتى، ووفر فرصة الدراسات العليا لكل طالب عربى أو أفريقى يحتاجها بتكلفة بالغة الرمزية، وبنى جسراً متيناً للعلاقات العربية- الأفريقية لم تقدر على بنائه مؤسسات عربية كبرى.. هذا الصرح يتعرض لتهديد حقيقى قد يقوضه -لا قدر الله- بسبب سلسلة من القرارات سيئة النية التى اتخذها من لا يعرفون فإن عرفوا لا يفهمون وإن فهموا يتآمرون.
قلت له إن رعبى على مستقبل المعهد يملأنى ويلازمنى فى كل لحظة، وكنت أجيب على كل من حدثنى أستاذاً كان أو موظفاً عن امتناعه عن العمل فى ظل هذه المؤامرة الرخيصة بإياك أن تفعل لأن هذا المعهد إذا سقط لن تقوم له قائمة بعد اليوم وهذا هو هدف المؤامرة. لقد استثمرت فى هذا المعهد ثلث القرن من عمرى ما بين أستاذ ومدير ويعصف بكيانى أن أراه مهدداً بالانهيار. ولا أدرى كم من الدقائق تحدثت وإلى أى حد انفعلت لكننى بعد أن انتهيت أطرقت برأسى منتظراً تعليق أستاذى. كان رده هو آخر شىء توقعته بل إنه لم يكن بمقدورى أن أتوقعه أصلاً.. اكتسى وجهه بملامح حانية وقال لى: «أحمد.. يجب أن نقبل أن هناك أشياءَ جميلة وعزيزة علينا فى حياتنا سوف تأتى يوماً إلى نهايتها». انتابنى الصمت طويلاً ثم قلت بصوت خفيض من هول المفاجأة: ألا تستحق هذه الأشياء الجميلة العزيزة أن نفعل ما فى وسعنا كى تبقى بيننا؟ ولا بد أنه أدرك شعورى فبدأ يسرد لى وهو فى حالة من الصفاء الذهنى التام كيف بنى عديداً من الأشياء الجميلة ثم رآها تذوى أو ذوت بالفعل. قال لى: أسست مجموعة «الأندوجو» كإطار يجمع دول حوض النيل وعدت من الأمم المتحدة لأجدها قد انتهت، وأسست «مجموعة موناكو» وأنا أمين عام للأمم المتحدة وكنت أُحضر فيها فى كل دورة ما لا يقل عن ثمانية رؤساء دول يتحاورون حوارات رائعة حول قضايا بالغة الأهمية ثم طلبت دولة عربية ثرية استضافتها ثم أجهزت عليها، واستثمرت سنوات طويلة من عمرى فى بناء شبكة قوية للعلاقات المصرية- الأفريقية لكن الممارسات غير المسئولة أفسدت كل شىء. واستمر يسرد بصدق ما يدعم رأيه. سكتت برهة وسألته: ماذا أفعل إذن؟ فأجاب بالبساطة المتناهية نفسها: «اقلب الصفحة. ابدأ شيئاً جديداً». غلبنى المزاح فقلت له: هو أنا عاد فيّا حيل؟
ودّعته إلى لقاء مقبل لكننى لم أستطع أن أطرد من مخيلتى حكمة السنين التى تحدث عنها بصدق أكيد يغرى من يستمع إليه بأن يقتنع بها. ظللت أفكر فى منطق أستاذى الجليل من جميع جوانبه طيلة ما تبقى من يومى، وعندما آويت إلى فراشى وجدت نفسى أردد «عذراً أستاذى الجليل فلن أقلب الصفحة، ولن يحرق مغول القرن الحادى والعشرين كتب بغداد ويلقوا بها فى نهر دجلة من جديد».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2181902

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2181902 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40