الاثنين 2 آب (أغسطس) 2010

أردوغان بين الأمة والدولة

الاثنين 2 آب (أغسطس) 2010 par د. غازي التوبة

استهدفت الدول الغربية خلال القرن التاسع عشر الخلافة العثمانية بإشاعة الاضطرابات في ربوعها عن طريق الطوائف كما حدث عام 1860م في لبنان، وعن طريق الحكام الطامعين في الاستقلال والنفوذ كما حدث في البداية مع ضاهر العمر وعلي أبو الذهب، وأخيراً مع محمد علي باشا الذي احتل بلاد الشام في عام 1830م، ثم استغلت الدول الغربية الحرب العالمية الأولى من أجل إنهاء كيانها السياسي، وبالفعل انفرط عقد هذه الخلافة إثر الهزيمة التي لحقت بها، فقامت دول متعددة في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق وتركيا ومصر والمغرب العربي.. إلخ.
وقامت هذه الدول على أساس قومي، واتجهت نحو تغريب شعوبها على تفاوت في حجم ونوعية التغريب، وهي بهذه الصورة قامت على الضد من الأمة، ونحن سنأخذ الدولة التركية نموذجاً لذلك في أمرين : التغريب من جهة والتضاد مع الأمة من جهة أخرى.

أسس كمال أتاتورك الدولة التركية الحديثة وذلك بعد أن هدم الخلافة الإسلامية عام 1924م وألغاها نهائياً عام 1926م فأقامها على القومية التركية التي تعتبر أن هناك أمة تركية تقوم عل عامليْ اللغة والتاريخ، واعتبر أنه لا وجود لأمة إسلامية، فالخلافة العثمانية كانت إمبراطورية -كالإمبراطورية الرومانية - تجمع شعوباً متعددة، وأجناساً مختلفة، واعتبر أن الإسلام هو أصل الانحطاط والتأخر، ودعا الأمة التركية إلى أن تنبذ الإسلام لكي تتقدم، كما نبذت أوروبا الدين، وهو من أجل ذلك أخذ بأقصى درجات التطرف العلماني والتغريب لتحقيق النهضة : فألغى العمل بالشريعة الإسلامية وفرض القوانين الأوروبية، وألغى الحجاب وفرض السفور على المرأة، وألغى الطربوش وفرض «البرنيطة» كلباس للرأس، وألغى الكتابة بالحرف العربي وكتب اللغة التركية بالحرف اللاتيني، ورفع الأذان باللغة التركية.. إلخ، وبالإضافة إلى كل ما سبق أنشأ جيشاً قوياً، وجعله حارساً للعلمانية والتغريب، راعياً لهما، معادياً لكل التوجهات الدينية، وقد قام الجيش بهذا الدور خير قيام بعد وفاة كمال أتاتورك عام 1936.

لقد قامت القومية التركية - منذ اللحظة الأولى - على التضاد مع الأمة الإسلامية التي كان الشعب التركي جزءاً منها، لأن الوقائع كانت توضح أن نجاح هذه الدولة في تحقيق أهداف التغريب والعلمنة مرهون بنجاحها في فك الارتباط القائم والسابق مع الإسلام، وقد استخدمت الدولة مختلف الأدوات في سبيل تحقيق ذلك من ترغيب وترهيب وإعلام وقوة وقمع.. إلخ، لكنها لم تنجح في ذلك، بل بقي معظم الشعب التركي متمسكاً بالإسلام من عقائد وعبادات وشرائع وعادات وتقاليد.. إلخ، وبشكل خاص في الريف التركي، مما جعل العلاقة متوترة بين الدولة والقطاع الأكبر من الشعب، واتضحت هذه الصورة في خمسينيات القرن الماضي عندما اضطرت الدولة التركية إلى التراجع عن كثير من خطواتها السابقة في مظهر احتفالي كبير، من أجل إرضاء عدنان مندريس وأعداد كبيرة من جمهور المتدينين أو الجماعات المتدينة، ومن هذه الخطوات : إعادة الأذان إلى العربية، والسماح بافتتاح المدارس الدينية، والسماح بأداء الحج والعمرة.. إلخ، وعندما سمحت الحكومة بترديد الأذان بالعربية في مختلف المدن خرج الشعب التركي إلى الشوارع مكبراً مبتهجاً باكياً من شدة الفرح، مهللاً لهذه الخطوة التي صححت الخطأ السابق. وبعد أن حقق هذا التراجع أهدافه في استقرار الدولة وزيادة قوتها، عادت فانقلبت المؤسسة العسكرية على عدنان مندريس وأعوانه وأعدمت بعضاً منهم.

ثم تأسست مجموعات إسلامية على يد نجم الدين أربكان رداً على الانقلاب العسكري عام 1960، ثم تطورت لتصبح حزب النظام الوطني عام 1970، لتحوله إلى حزب الرفاه عام 1983 الذي ظلت شعبيته وقوته تتعاظم إلى أن فاز بأكبر عدد من المقاعد النيابية في انتخابات عام 1995، وشكل بالتالي حكومة ائتلافية برئاسة أربكان نفسه.

لكن حكومة أربكان رفعت شعار «التوجه شرقاً» أي نحو العالم الإسلامي، وطرحت فكرة «السوق الإسلامية» على الضد من «السوق الأوروبية»، وانتقدت أوروبا الغرب عموماً، وطرحت طموحات إسلامية على مستوى الداخل والخارج، مما دفع المؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية للاتفاق على إسقاط الحكومة لكونها تشكل تهديداً للأسس العلمانية للدولة، ثم قررت حل حزب الرفاه نفسه، بعد ذلك تشكل حزب الفضيلة الذي تم حظره أيضاً لنفس الأسباب عام 2001، ثم تمت محاكمة أربكان وإصدار حكم قضائي عليه.

من الواضح أن أربكان نفذ بعض السياسات التي تعود بالنفع على الدولة التركية، لكن يشتم منها بعض التوجه الديني، ومع ذلك لم ينج من حظر حزبه، ومن حظر العمل عليه شخصياً في النهاية، ومن الملاحظ أن حصيلة جهده في النهاية كانت لصالح الدولة وعلى الضد من الأمة، وهو عكس ما أراده لأن الدولة أصبحت أقوى والأمة أضعف.

ثم جاءت المرحلة الثالثة التي قادها رجب طيب أردوغان وعبد الله غل، والتي امتازت عن سابقاتها بالتقليل من حجم الطرح الديني والزيادة في السياسي إلى حد إلغاء الديني تقريباً، فقد اعتبر حزب العدالة والتنمية نفسه حزباً علمانياً وليس حزباً إسلامياً، كما أنه اعتبر العلمانية لا تتعارض مع الإسلام، وقد احتوى الحزب شرائح علمانية، غير متدينة، من أحزاب سابقة كحزب الطريق القويم والوطن الأم، ومما جعله يستمر في القوة والنجاح هو توجهه مع قطاع كبير من المجتمع التركي إلى تغيير العلمانية الموجودة في تركيا من علمانية فرنسية تفرض فيها الدولة اللاتدين على المجتمع، إلى علمانية أنغلوساكسونية تجعل الدولة تقف على الحياد بين المتدين تديناً شخصياً والآخرين، ولا تسمح للدين بأن يفرض شرائعه وقيمه على المجتمع، ويرفع الحزب شعار «الديمقراطية المحافظة».

واعتراف حزب «العدالة والتنمية» بالوجهة العلمانية للدولة لا مواربة فيه، إذ تقول مقدمة البرنامج السياسي للحزب : «إن حزبنا يشكل الأرضية لوحدة وتكامل الجمهورية التركية حيث العلمانية والديمقراطية ودولة القانون وصيرورات الحضارة والدمقرطة، وحرية الاعتقاد والمساواة في الفرص تعتبر جوهرية».

ألغى أردوغان سياسات أربكان السابقة وأبرزها ««التوجه شرقاً»، واستمر في التوجه نحو أوروبا والغرب، وفي تحقيق شروط أوروبا من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مع الحرص على لعب دور في القضية الفلسطينية، كما هو واضح من التوسط بين سوريا و«إسرائيل»، ومن الوقوف إلى جانب قطاع غزة وتسيير سفن «أسطول الحرية» إلى غزة، وقد ساعده كل ذلك في تقوية وضعه الداخلي، وزيادة شعبيته في الداخل التركي.

من الجليّ أن كل المكاسب التي حققها أردوغان في القضية الفلسطينية، وفي الفضاء العربي كان يوظفها من أجل تحسين بعض شروط العلمانية، أو الانتقال بها إلى علمانية أخرى كعلمانية إنجلترا أو أميركا، المهم أن الأمة هي الخاسرة في النهاية والدولة هي الرابحة، فالدولة تتجه إلى مزيد من الرسوخ والتقوي من خلال المضي في تغريب المجتمع وعلمنته، وامتصاص التوترات المضادة.

وفي كل الأحوال فإن الدولة التي أسسها كمال أتاتورك قامت على الضد من الأمة الإسلامية، وكان من الواضح أن وجودها يستمر بمقدار ما تستطيع من تغريب المجتمع التركي وعلمنته، لكن الأمة قاومت التغريب واستفاد من مقاومة الأمة عدة أجيال من السياسيين، منهم : عدنان مندريس، ونجم الدين أربكان، وتورغوت أوزال، وآخرهم رجب طيب أردوغان وعبد الله غل.

وكانت الأمة تقدمهم وترفعهم وترفدهم بالشعبية، الأمة : يعلّمونها ويمحون جهلها، ويرعون وحدتها، ويزيلون فقرها.. إلخ، ولا يمدون أيديهم إلى الدولة لأن الدولة ستوظف تعاونهم معها في تدمير الأمة التي انطلقوا منها، والتي احتضنتهم ورفعتهم ومنحتهم التأييد، ليس هذا فحسب، بل كانت تنقلب -في النهاية - على من تعاون معها، وتنهي وجوده كما فعلت مع عدنان مندريس وأوزال ونجم الدين أربكان.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165553

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

31 من الزوار الآن

2165553 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 34


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010