الاثنين 22 كانون الأول (ديسمبر) 2014

ذكرى ما جرى في آخر قلاع «الربيع العربي»

الاثنين 22 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par فهمي هويدي

السؤال الكبير الذي تطرحه نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية هو: هل سقطت حقـًا آخر قلاع «الربيع العربي»
1
قبل 24 ساعة من موعد التصويت على الانتخابات الأخيرة (السبت 20/12)، أبرزت جريدة «الصباح» التونسية على صفحتها الأولى العنوان التالي: الكشف عن 3 خلايا إرهابية تضم 18 داعشياً كانوا يخططون لسلسلة اغتيالات وتفجيرات. وقبل ساعات من إطلاق الاقتراع العام على الانتخابات التشريعية (في 26/11) نشرت الصحف التونسية انه تم إجهاض عملية كبرى في مدينة واد الليل جنوب العاصمة التونسية. وفي اليوم التالي مباشرة لفرار الرئيس الأسبق بن على (في 14/01/2011)، بثت إحدى محطات التلفزيون المحلية خبراً تناقلته وكالات الأنباء العالمية والعربية، كانت خلاصته أن مواجهة مسلحة حدثت بين الجيش التونسي ووحدات الأمن الرئاسي المتحصنة في إحدى الثكنات. هذا الخبر أثار انتباه احد الباحثين ــ عادل السمعلي ــ لأنه كان يسكن على بعد دقيقتين بالسيارة من الثكنة المشار إليها. إلا أنه لم يسمع شيئاً عن الاشتباك. وفي الصباح اتجه إلى المكان وطاف من حوله إلا أنه لم يجد للاشتباك أثراً. وهي واقعة استهل بها كتاباً أصدره بعنوان «معالم الثورة المضادة في تونس»، ورصد فيه عديداً من الحالات المماثلة التي جرى فيها الترويج لمعلومات وانطباعات لم يكن لها ظل من الحقيقة ولكن استهدفت تخويف الناس وترويعهم بعد قيام الثورة، خصوصاً بعد ما فازت حركة «النهضة» ذات الاتجاه الإسلامي بغالبية الأصوات في انتخابات المجلس التأسيسي الذي جرت في العام الأول للثورة. من ذلك مثلا انه حين انقطع التيار الكهربائي لمدة ساعة ذات مساء فإن جهة ما أشاعت أن ثمة انقلاباً عسكرياً وقع في البلاد، وأن البيان رقم واحد على وشك الصدور. من ذلك أيضاً أن بعض الصحف تحدثت عن ان 120 مؤسسة أجنبية غادرت البلاد، وأن البرلمان الأوروبي قرر تحويل وجهة مليون سائح من تونس إلى اليونان. وكانت تلك مقدمات للتحذير من الانهيار الاقتصادي. ذلك غير أخبار الاضطرابات التي كان يبالغ فيها ثم يدعى الجيش إلى التدخل لإنقاذ البلاد من السقوط.. الخ.
ما سبق مجرد صفحة واحدة في سجل التجاذبات والصراعات التي لم تتوقف طوال السنوات الثلاث الماضية، وكان الإعلام احد أسلحتها السياسية وظل التخويف محوراً أساسياً لها.
2
تقدم حزب «نداء تونس» في الانتخابات الحالية كان بمثابة مفاجأة كبرى حتى لـ «حركة النهضة» ذاتها، التي تصورت قيادتها أنها ستظل محتفظة بموقعها في المركز الأول. ويعزى تقدم الحزب الذى لم يتجاوز عمره سنتين ونصف السنة إلى حنكة وكاريزما مؤسسه الباجي قائد السبسي الذى دخل المعترك السياسي في خمسينيات القرن الماضي، وشارك في حكومات الرئيسين بورقيبة وبن علي، ثم كان أول رئيس حكومة بعد الثورة في العام 2011، فضلا عن انه قدم في واجهة الحزب وجوها كانت خليطاً من اليساريين والنقابيين ورجال الأعمال، في حين لم يقدم أحدا من رموز العهد السابق. أما ماكينة الحزب الداخلية والتحتية، فقد اعتمدت بالدرجة الأولى على قواعد وأدوات «الحزب الدستوري» القديم المنتشرة في مفاصل المجتمع والخبيرة بخرائطه وخيوطه. بكلام آخر فإن السبسي قدم واجهة جذابة ومقبولة سياسياً واجتماعياً، ثم انه استفاد من حملة تخويف الجماهير من صدارة حركة «النهضة» للسلطة، كما استفاد من أخطاء حكومة الحركة.
3
كما هو معلوم، فإن حركة «النهضة» لم تقدم مرشحاً للرئاسة. وقد أسفر الصراع بعد الجولة الأولى التي شارك فيها 27 مرشحاً عن حصر التنافس في الإعادة بين منصف المرزوقي والباجي قائد السبسي. إلا أن الدعايات الانتخابية حاكمت مرحلة الترويكا التي كان المرزوقي احد أركانها ومعه حركة «النهضة» وحزب التكتل الذى ترأسه بن جعفر. وكانت المحاكمات في جوهرها ضد حركة «النهضة» التي حملت بالمسؤولية عن التوترات والإخفاقات التي وقعت خلال السنوات السابقة. وإذ قدم المرزوقي نفسه باعتباره قادماً من قلب الثورة، فإن فريقه طعن في كون السبسي ينتسب إلى الثورة المضادة والعهد البائد. كما طعن في قدرته على تحمل مسؤولية الحكم في عامه التاسع بعد الثمانين، ودعا إلى مناظرته أمام الرأي العام، ولكنه لم يستجب لأي من المطلبين. وفى حين حرصت حملة السبسي على تخويف الناخبين من شبح الإرهاب والإسلام السياسي الذي تحالف معه المروزقي، فإن حملة الأخير خوفتهم من عودة عهود الاستبداد التي جاء منها السبسي واستدعى معه بقايا حزبي بورقيبة وبن علي.
طول الوقت كان الاستقطاب الفكري والسياسي واضحاً. فالقوى العلمانية والليبرالية واليسارية والقومية اصطفت إلى جانب السبسي. وبرغم ان قيادة حركة «النهضة» أعلنت وقوفها على الحياد بين المرشحين، فإن قواعدها إلى جانب شرائح أخرى من المتعاطفين مع الإسلام السياسي وبعض رجال الثورة وقفوا إلى جانب المرزوقي. إلا ان الأمر كاد يتحول إلى فتنة كبرى وصراع مجتمعي حين صرح السبسي بأن المتطرفين والسلفيين والنهضويين هم من صوت لمصلحة المرزوقي. ولأن اغلب جنوب تونس المحافظ كانوا يمثلون الكتلة الأكبر التي صوتت له، فإن فريق المرزوقي قرأ كلام السبسي باعتباره اتهاماً للجنوبيين بالتطرف والإرهاب. وقد أثار ذلك غضب أهالي مدن الجنوب الذين خرجوا في تظاهرات حاشدة نددت بالسبسي وكلامه، الأمر الذي أحدث شرخاً في المجتمع بين أهل الصحراء الذي ينتمي اليه المرزوقي وأهل الساحل الذين صوت اغلبهم لمصلحة السبسي باعتباره ينتسب إليهم. ولولا الجهد الذي بذل لاحتواء الموقف وزيارة السبسي واعتذاره للجنوبيين، لواجهت تونس أزمة كان يصعب الخروج منها بسلام.
4
فوز السبسي أنهى الصراع حول منصب الرئاسة ولكنه لم ينه المرحلة الانتقالية كما يبدو لأول وهلة. ذلك ان ثمة حراكاً سياسياً لا يزال يتفاعل، حتى داخل حزب «نداء تونس» ذاته الذي يضم فئات التقت على تحدي حركة «النهضة» وهزيمتها، ولا يجمعها برنامج واحد. آية ذلك مثلا ان السبسي يتبنى موقف التعاون مع «النهضة» باعتبارها القوة السياسية الثانية في البلاد التي لا يمكن تجاهلها. أما الأمين العام للحزب ذو الاتجاه اليساري (الطيب البكوش) فهو من دعاة القطيعة مع النهضة (حين كان وزيراً للتربية يوماً ما فإنه فصل اكثر من 1000 مدير مدرسة بحجة أنهم من الإسلاميين وعين مكانهم عناصر من اليساريين). والحاصل داخل «نداء تونس» له نظيره في الأحزاب الأخرى بما فيها حركة النهضة، الأمر الذي يعني ان خريطة الأحزاب معرضة للتغير خلال الفترة المقبلة.
هناك أيضاً قلق مكتوم داخل حزب نداء تونس من الحالة العمرية للسبسي الذي دخل عامه الـ89. وبسبب تخوف البعض من وقوع أسوأ الاحتمالات فإني سمعت من يهمس قائلاً إن تونس قد تضطر لإجراء انتخابات رئاسية جديدة قبل نهاية السنوات الخمس المقررة لبقاء رئيس جمهورية في الحكم.
بقيت بعد ذلك مسألة رئاسة الحكومة التي فهمت ان ثمة شبه إجماع في أوساط الأحزاب السياسية على رفض تولي شخصية من «نداء تونس» لذلك المنصب. وهو ما يخيف الجميع من شبح «التغوّل» إذا ما تولى حزب الغالبية رئاسة الدولة ورئاسة البرلمان والى جنبهما رئاسة الحكومة.
5
لم أجب على السؤال الجوهري المتعلق باحتمالات انتكاس الثورة، على غرار ما حدث في أقطار أخرى. وهو ما أرجئ التفصيل فيه إلى الأسبوع المقبل بسبب ضيق الحيز المتاح، إلا اني أمهد لذلك بملاحظتين هما:
أن هناك أسئلة كثيرة مثارة حول ضغوط المال الخليجي وغوايته للسبسي و»نداء تونس» والهدف من وراء ذلك. في هذا الصدد فإن الحديث متواتر عن تمويل إماراتي لحملة «نداء تونس» في الانتخابات التشريعية والرئاسية. وهم يدللون على ذلك بأن دائرة سيدي بوزيد الأكثر فقراً والتي كانت ضمن ضحايا حكم الدستوريين في حكم بن علي فاز فيها السبسي بالمركز الأول، وهو المحسوب على الدستوريين، في حين أن المرزوقي وهو الحقوقي الذي كرس حياته للدفاع عن أمثالهم احتل المركز الثاني.
الملاحظة الثانية ان النخبة التونسية معبأة بقوة في أغلبيتها الساحقة ضد العهد السابق وكل ما يمت له بصلة. عبرت عن ذلك مشاهد وقعت مؤخراً في البرلمان المنتخب. منها أنه أثناء مناقشة النظام الداخلي للبرلمان، اقترح احد الأعضاء الاستفادة من اللائحة التي كانت مطبقة في عهد بن علي، إلا أن ذلك أثار غضب الأغلبية مما أدى لاستبعاد الفكرة. المشهد الثاني حدث حين اقترح عضو آخر مراجعة قانون العدالة الانتقالية ما كرر غضب الغالبية، وأدى إلى رفض الاقتراح على الفور. وإذا انتبهت إلى قوة البرلمان وحصته في القرار السياسي الذي كفلها دستور الثورة، فسوف تدرك ان لقلعة «الربيع العربي» الأخيرة في تونس حراسها الأشداء، الأمر الذي يستدعي تفصيلا يوفر سبباً آخر يسوِّغ الانتظار للأسبوع القادم بإذن الله.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2165961

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165961 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010