الاثنين 12 كانون الثاني (يناير) 2015

جليلة في “مملكة النمل”

الاثنين 12 كانون الثاني (يناير) 2015 par د.احمد جميل عزم

لطالما كانت الأساطير، بما فيها “أساطير الأولين”، والقصائد والملاحم الشعرية، والقصص الرمزية، جزءاً شرعيّاً من رواية الحدث. فالأسطورة ليست كذبة بالضرورة، وإنما هي أحياناً كيف يشعر الإنسان بالحدث. ورغم أنّ الشعور خادع أحياناً، إلا أنّه يجوز للشاعر والمغني والفنّان رواية الأمور كما يراها ويشعر بها، فيما على الباحث والمؤرخ روايتها كما هي.
في فيلم “مملكة النمل”، لمخرجه التونسي شوقي الماجري، يتفق الثائر الفلسطيني المُطارد، مع جليلة وَجدّتها، أن يكون العرس في مغارة أبو النمل ليلة العيد. عندما رأيت المشهد (المصوّر في تونس)، تبادرت إلى ذهني أحراش يعبد وقباطية، وشباب الفهد الأسود في الانتفاضة الأولى. وعندما أُقيم العرس في المغارة الكبيرة، تخيلت “أليس في بلاد العجائب”؛ الرواية الإنجليزية التي نشرت في العام 1865، وتحولت لأفلام وروايات. هي مغارة مترامية الأطراف، فيها برك سمك وثلج وشلالات ودهاليز، تجعلنا نقول إنّها “جليلة في مملكة النمل”.
في الواقع، أحبّت فتيات فلسطينيات مطاردين. وفتاة مطاردة تزوجت سراً. وكان آباء وأمهات وعائلات، جزءاً من مخطط إيصال الحبيبة للحبيب ليلة الزفاف. لكن في الواقع أيضاً، هناك فتاةٌ كانت تبكي حالها، سألتها: لماذا؟ قالت: أهلي أجبروني على فسخ خطبتي، لأنّ خطيبي اعتقل. سألتها: كم حكمه؟ فقالت: أربع سنوات. شعرتُ أنّ مشكلتها فسخ الخطبة، لا الخطيب. وفي الواقع أيضاً، تركت أمّهات أولادهن عندما اعتقل الأب وتزوجن، وبنات لُمنَ آباءهن لأنهم اعتقلوا.
في الفيلم وفي المغارة، يقوم الجد بجمع عظام وجماجم الشهداء في مشهد أسطوري و“شاذ”. يحمل الجد جمجمة، ويقول لجليلة إنّ القصة تقول إنّ “أبو عرب” الراعي أحبّ بنت الباشا، وكان يعزف لها الناي. وهنا نتذكر، من ألمانيا، لحن الناي السحري، لموزارت العام 1791؛ عن أمير ضاع في البريّة، وجعل الوحوش ترقص بعزف نايه. وقرأنا قصص أطفال عن مزمار يسحر عازفه أهالي قرية أساؤوا له، فجعلهم يتبعونه ليؤدبهم. وأصل القصة ألماني أيضاً، وتسبق زمن لحن موزارت.
ويكمل الجد– في الفيلم– أنّ الباشا أمر جماعته بقطع أصابع أبي عرب. فقطعوها، ووضعوا يديه في الزيت المغلي لوقف النزف. لكنه عاد للعزف. فلّما سمعه الباشا، مات غيظاً. يُخبرنا الجد أنّ القصة كذبة، والحقيقة أنّ شخصاً أرسله الباشا أطلق رصاصة على رأس أبي عرب من الخلف ومات، ويرينا مكان الرصاصة في الجمجمة. وفي الواقع الفلسطيني، نقلتُ سابقاً قصة عن والد عازف فرقة العاشقين، خالد هبّاش، الذي لم يعد هواء صدره يقوى على النفخ في آلة “المجوز” التي حملها معه من طبرية إلى المنافي، فاهتدى الابن لحيلة: جاء إلى أبيه وجلس مُلصقا ظهره إلى صدره، ونفخ في “المجوز” وأصابع أبيه تعزف، ودموعه تسيل. عندما توقف عن النفخ سأله الأب: “ليش وقفت كنت واصل لحد ما كنا أنا وعمك عبد في البيدر”؛ هذا واقع.
وأيضاً، كبر أصيل منصور وهو يسمع أنّ عمّه استشهد في بيروت برصاصة في رأسه لحظة توجيهه رصاصته للجندي الصهيوني. وأعد فيلم “عمو نشأت” ليحقق في الأمر، فوجد أن الموت كان في حادث سيارة، قد يكون اغتيالاً وقد لا يكون.
حملت جميلة في مغارة الفيلم السحرية بابنها، بعد أن وضعت وطارق تفاحة خضراء ليالي في ضوء القمر، وأكلاها في موعدٍ محدد سلفاً، بعد امتناعهما عن بعضهما أياماً. ولدت جليلة ابنها في المعتقل، وسمته سالم. والفيلم فيه أخطاءٌ معلوماتية ومبالغات، لكن إذا كان قصف الطائرات مبالغا فيه، فإنّ قيام سالم الصغير بالحفاظ على دفتر ورسومات ابن صفه الشهيد ليس مبالغة، وإعداده معرضا لرسومات الشهيد يزينه بعصافير ورقية، يرمز كل منها لشخص يأمل أن يحلّق معه للسماء، ليخرجوا من دوامة القتل، قصة ليست غريبة؛ فطلبة غزة يضعون صور زملائهم الشهداء مكانهم في الصف، وأستاذ جامعة بيرزيت سجّل الشهيد ساجي درويش حاضراً حتى آخر الفصل. وإذا استشهد الحصان موج في الفيلم، وتحول جلد الحصان الجميل إلى جلد طبلة في رواية “ماء السماء” ليحيى يخلف، فإنّ ساجي كان يمتطي حصانه ذاهباً لإطعام الخراف يوم استشهاده، وامتطى ثائر حمّاد فرسه وهو يقوم بعملية عيون الحرامية الأسطورية.
الأسطورة فن، وحق أحياناً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 51 / 2165285

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165285 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010