الاثنين 19 كانون الثاني (يناير) 2015

سخرية التعبير عن الرأي

الاثنين 19 كانون الثاني (يناير) 2015 par د.عبدالله السويجي

هاجم شابان فرنسيان من أصل عربي مقر صحيفة “شارلي إيبدو” في باريس، وقتلا رئيس تحريرها وعشرة من العاملين فيها، فاحتشد زعماء العالم من أنحاء الكرة الأرضية كلها لينددوا بالحادث الإرهابي، والوقوف صفاً واحداً ضد التطرف . استغلت الصحيفة بعد أيام هذا الاحتشاد والتأييد وقامت بنشر رسوم أخرى مسيئة لنبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وطبعت ملايين النسخ بست عشرة لغة، ونفذت خلال ساعات، فاستنكرت دول عربية وإسلامية نشر الرسوم واعتبرت أنها لا تتعلق بحرية التعبير .
وبالنسبة إلى الشابين اللذين قُتلا، قيل إنهما تدربا في اليمن، ومعلومات أخرى قالت إنهما حاربا في سوريا، وهناك شريكة ثالثة وهي الفتاة “حياة بومدين” تمكنت من العبور إلى سوريا عبر تركيا (ببطولة نادرة) .
وبعدها بأيام، هاجمت الشرطة البلجيكية وكراً وقتلت شابين مسلحين بعد مراقبتهما، وقالت المعلومات إنهما قدما من سوريا، واعتقلت 13 متطرفاً إسلامياً في 12 غارة أمنية . وبعد الحادث انهالت مواقف دعم بلجيكا، وقبلها فرنسا، ولا ندري إلى جانب أي دولة سيقف العالم بعد ذلك .
نتيجة عملية “شارلي”؛ تحركت حاملة الطائرات “شارل ديغول” متجهة نحو المتوسط، وأعلنت فرنسا أنها قد تغير سياستها في ليبيا وفي الساحل الإفريقي كله، وتحرك الرئيس الفرنسي هولاند ليتعاون مع الرئيس أوباما لدراسة كيفية مواجهة التطرف القادم من الشرق الأوسط، وبنيامين نتنياهو حرّض اليهود الفرنسيين بالهجرة إلى “إسرائيل” .
نُشرت مقاطع فيديو عن عملية فرنسا تحلل العملية، كتلك المقالات والكتب التي نشرت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها . مقاطع الفيديو الخاصة بعملية باريس تبين مشهد قتل الشرطي .
تلفزيون (فرانس 42) الناطق باللغة العربية أورد خبراً الأسبوع الماضي عن إمكانية تواطؤ من قبل جهات أخرى في الحكومة الفرنسية، وعرض مشهداً لسيارة الشابين اللذين نفذا العملية، وهما يقودان سيارتهما ويمران بجانب سيارة للشرطة الفرنسية، إلا أن المحطة لم تبث المقطع الذي صوره أحد الهواة بالكامل، إذ يُظهر الشابين خارج السيارة وهما يتحركان بهدوء وكأنهما سيطرا على الضاحية بأكملها، ويصرخ أحدهما بأعلى صوته قائلا (الله أكبر) وكلمات أخرى غير واضحة، وبعد أن يبدلا مخزني رشاشيهما، ينطلقان بالسيارة فتعترضهما سيارة شرطة، فيترجلا من سيارتهما ويطلقا النار على سيارة الشرطة التي تتراجع من دون أن تبدو أنها أصيبت بأذى، وتتنحي جانباً لتمر سيارة المسلحين بهدوء مريب، وقالت الأخبار فيما بعد إن المطاردة بدأت بمشاركة آلاف من رجال الشرطة، ومقطع الفيديو هذا لم تعطه وسائل الإعلام اهتماماً كافياً، ولم يتطرق إليه أحد كتاب الأعمدة الصحفية المعروفين، في حين نقلته بعض المواقع الإلكترونية العربية والأجنبية .
الخميس الماضي، اتهم هنري روسل، أحد مؤسسي صحيفة “شارلي إيبدو”، والملقب باسم دوفيل دو تون، رئيس تحريرها “ستيفان شاربونييه” الذي قتل في الهجوم على الصحيفة، بالتسبب بمقتل العاملين في الصحيفة، عن طريق نشره المزيد من الرسوم الكاريكاتيرية المستفزة . ونشر مقالاً في مجلة “لو نوفيل أوبزرفاتور” اليسارية، وصف فيه رئيس التحرير المقتول بالعنيد والغبي، فما كان من أحد محامي صحيفة “شارلي إيبدو” إلا أن رد بعصبية وغضب في رسالة بعث بها إلى أحد مالكي المجلة جاء فيها أنه “لم يتم حتى دفن شاربونييه ولم تجد المجلة شيئاً أفضل من نشر هذا المقال الجدلي والسام عنه” . فرد رئيس تحرير المجلة “ماثيو كرواساندو” قائلا: “تلقيت هذا النص، وبعد نقاش قررت نشره في عدد حول حرية التعبير، وكان الأمر سيبدو لي مقلقاً لو أني حجبت صوته حتى وإن كان نشازاً، خاصة أن هذا الصوت هو أحد أصوات رواد الفريق” . وأشارت المجلة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يختلف فيها مؤسس صحيفة “شارلي إيبدو” مع رئيس تحريرها، فقد سبق أن اتهم رئيس تحرير سابق بتحويل الصحيفة إلى بوق صهيوني ومعاد للمسلمين .
ولا نريد التعليق هنا عن مستوى حرية التعبير في الإعلام الفرنسي أو الغربي، إذ إن المحامي اعترض على نشر مقالة من مؤسس صحيفة “شارلي إيبدو” تنتقد فيها رئيس تحريرها المقتول، لمجرد أن موته كان لا يزال طازجاً، كما كان يفعل برنارد ليفي، الذي يدّعي أنه فيلسوف وكاتب، حين كان يتدخل لمنع مقالات ضده في الصحف الفرنسية، كما جاء في كتاب (المثقف المزيف) .
تقول البديهيات المتعلقة بممارسة الحرية، إن حرية الفرد تنتهي حين تبدأ حريات الآخرين، والصحيفة “شارلي إيبدو”، التي مر على صدورها أكثر من 40 عاماً، مصّرة على تجاوز هذا المبدأ، وانتهاك حريات الآخرين، وهي حريات مقدسة تتعلق بمعتقدات يؤمن بها أكثر من ملياري إنسان، ناهيك عن أن مختلف الأديان لم تسلم من سخريتها وتفاهة رسوماتها .
اجتمع العالم كله ليقف إلى جانب حرية التعبير، لكنه لم يجتمع ولم يوجه إدانات لفظية لما فعلته الطائرات الصهيونية بالأطفال الفلسطينيين وبيوتهم ومدارسهم وبساتينهم ومزارعهم ومياههم وأرزاقهم، ووقفت الدول الكبرى إلى جانب الكيان الصهيوني على اعتبار أنه يحارب “الإرهابيين” الذين يهددون أمن “إسرائيل” .
ظاهر الشيء غير باطنه، والتظاهرة (الرئاسية) التي احتضنتها فرنسا كان ظاهرها رفض الإرهاب والتصدي له، إلا أن باطنها بشّرَ به تحرك حاملة الطائرات الفرنسية (شارل ديغول) وهي تتجه نحو الشرق الأوسط، وبالسياسات التي سيتم تطبيقها على الأرض بعد قليل، خاصة في الدول العربية، لتزيدها إنهاكاً، ولتضاعف خسائرها الاقتصادية والبشرية والاجتماعية والتنموية، وتعيدها إلى ما قبل مائة عام .
“شارلي إيبدو” ليست عنواناً لحرية التعبير، بل هي ملوثة لحرية التعبير، فالرأي الجاد الذي يستند إلى الموضوعية يمكن مناقشته، أما السخرية فليست من حرية الرأي في شيء، بل هي اعتداء سافر على معتقدات الشعوب وحريتها في العبادة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2165450

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع عبدالله السويجي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165450 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010