الأربعاء 21 كانون الثاني (يناير) 2015

“راديكالية” صنعت في فرنسا

الأربعاء 21 كانون الثاني (يناير) 2015 par فيصل جلول

لم تلق وسائل الإعلام الفرنسية بالاً للأصول الاجتماعية التي وفد منها الأخوان شريف وسعيد كواشي ورفيقهما أحمد كوليبالي، فالإرهاب في عرف المؤسسات الفرنسية لا يبرر بالحالة الاجتماعية ولا بالدوافع السياسية أو الفلسفية أو الدينية إنما هو جريمة تامة لا لبس فيها فما بالكم إذا كانت تطال رمزاً من رموز هذا البلد أي “حرية التعبير” و“العلمانية” أي سبب ونتيجة وجود الدولة الفرنسية .
ولا تحتاج وسائل الإعلام لبراءة ذمة في إلقاء الضوء على بيئة الثلاثي المذكور، أقله لمعرفة الأجواء التي نشأوا فيها والأسباب الاجتماعية البعيدة التي قادتهم إلى الهجوم على مجلة “شارلي إيبدو” غير أن شيئاً من ذلك لم يقع خاصة أن تداعيات الهجوم فاقت محليته واستدعت حضوراً أوروبياً ودولياً للتظاهر في قلب العاصمة تحت شعار “أنا شارلي” واعتبار الحدث بمثابة 11 سبتمبر/ أيلول فرنسية .
رغم ذلك تجرأ هامشيون في وسائل الإعلام الإلكترونية على استعراض سيرة الأخوين كواشي وبعض من سيرة كوليبالي وهي تستدعي وقفة من أجل فهم كيفية تشكل بيئة معادية للمجتمع الذي يحيط بها .
تفيد الشهادات الضئيلة على أن الشقيقين شريف وسعيد كواشي ينتميان إلى أسرة جزائرية الأصل . ولدا في فرنسا ضمن عائلة مؤلفة من أبويين وخمسة أطفال لا نعرف عن الثلاثة الباقين شيئاً . ولا تقطع الشهادات في أبوة الأخوين كواشي . هل هما من أب واحد أم من أبوين مختلفين؟
حتى العاشرة من عمره كان شريف وسعيد كواشي واخيه يعيشان مع والدتهما في الدائرة 19 من العاصمة الفرنسية وفي مبنى يقطنه بؤساء مثلهم وتفيد شهادات السكان أن الأخوين وغيرهما من صبيان المبنى كان من السهل مصادفتهم خارج المنزل بعد منتصف الليل، وأن بعض المهووسين كانوا يقصدون الحي بحثاً عن ضالتهم في هذه البيئة المفككة اجتماعياً .
مصير العائلة سينقلب رأساً على عقب ذات يوم عندما عاد شريف إلى المنزل فوجد والدته منتحرة وعرف أنها كانت حاملاً في شهرها السادس ومات حملها معها . كانت عاجزة عن توفير نفقات أسرتها بعد اختفاء زوجها أو زوجيها واضطرارها لممارسة الدعارة السرية إلى أن ضاقت ذرعاً بحياتها المهينة . فكان أن تولت إحدى المؤسسات الاجتماعية تربية شريف وسعيد كواشي حتى بلوغهما في ريف “الكوريز” حيث تخرج الأكبر بشهادة فندقية والأصغر بشهادة مدرب رياضي بعد أن فشل في احتراف كرة القدم .
عاد الأخوان إلى باريس إلى عين المكان من دون أن يتمكن أي منهما من العمل في مجال اختصاصه فصارا يزاولان المهن العابرة، بيع السمك أو إيصال “البيتزا” إلى المنازل ومن بعد السرقة ومن ثم السجن ومنه إلى المسجد، والتعرف فيه إلى أحد قادة “القاعدة في بلاد المغرب العربي”، وفي السجن تعرف الشقيقان إلى كوليبالي الذي سينضم إليهما فيما بعد في السياق نفسه أولاً في السعي للذهاب إلى العراق والقتال إلى جانب المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي، ومن بعد إلى القاعدة في شبه الجزيرة العربية حيث تفيد المعلومات أن الأخ الأكبر سعيد قضى في اليمن عام 2011 بضعة أشهر في مركز للإرهابيين وتلقى تدريباً على السلاح .
تبقى الأسئلة الأساسية حول الهجوم على “شارلي إيبدو” بلا أجوبة متى قرر الثلاثي الإرهابي تنفيذ العملية؟ وهل اتفق الأخوان كواشي على مخطط مشترك مع كوليبالي، كما أوضح في تصريحات صحفية؟ هل جاءت الأوامر من الخارج ومن اختار التوقيت؟ ولعل الأجوبة تفيد في استكمال الجانب التقني من الصورة، ذلك أن الجانب الاجتماعي بات واضحاً لكل ذي بصيرة . فالبيئة التي نشأ فيها الثلاثي المذكور هي الأضعف في الهرم الاجتماعي الفرنسي، وبالتالي الأكثر عرضة ليس فقط للانخراط في “القاعدة” أو “داعش” وشن هجمات في فرنسا وإنما أيضاً وغالباً في الجنوح والسقوط في غياهب المخدرات والكحول والدعارة وبالتالي الجريمة، طبعاً لا يسقط كل الذين يعيشون في هذه الأحياء البائسة بل قسم منها لا يقوى على مقاومة السقوط خصوصاً عندما تغيب الأجهزة الاجتماعية عن الأحياء، أو تفيض المشكلات والصعوبات عن طاقتها ووسائلها المحدودة .
في المحصلة لا يمكن لفرنسا أن تتحدث عن تصدير الإرهاب إلى أراضيها في حالة الثلاثي المذكور الذي ولد أفراده في فرنسا وتعلموا في مدارسها وفشلوا تماماً في الانخراط في سوق العمل والسقوط في السوق يعني السقوط في المجتمع ومن ثم التهميش، وفي الهامش بيئة حاضنة لكل المغامرات التي يمكن تخيلها خارج القانون .
وإذا كان من الصعب تبرير جريمة قتل صحفيين فوضويين خلال اجتماع التحرير الأسبوعي لا يشكون لحظة في صواب اختياراتهم الإعلامية، وأحدهم تجاوز الثمانين عاماً والآخر ال 76 عاماً، وإذا كان من الصعب تبرير الإساءة إلى الرسول العربي الكريم بدافع حرية التعبير والفلسفة الفوضوية وبأي دافع آخر بالنسبة للمسلمين، فإن من الصعب أيضاً إهمال صناعة البؤس في قلب عاصمة النور، وعلى بعد خطوات من بيئة فاحشة الثراء تتطلع إليها أنظار العالم بأسره، فما بالكم بالذين يعيشيون على بضعة أمتار بعيداً عنها .
عندما يدخل التلميذ إلى المدرسة الفرنسية يردد ثلاثية الثورة “حرية وإخاء ومساواة” ويتعلم مبادئ فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وأشعار بودلير ورامبو، لكنه عندما يريد الانخراط في سوق العمل يفشل بسبب التمييز المضمر إزاء لونه أو أصله الاجتماعي أو دينه، ومن هذا الفشل يولد فشل ثان وثالث، وصولاً إلى الهامش، ومنه إلى الجنوح أو الأدلجة أو الاثنين معاً . المشكلة هنا لا تحتاج فرنسا إلى استيرادها بل هي جديرة بتصديرها، كما نلاحظ في سوريا والعراق وليبيا ومالي وأفغانستان، إذاً لا بد من الكنس هنا أمام باب الدار الفرنسية قبل اتهام الآخرين بإهمال دورهم .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2177227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع فيصل جلول   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2177227 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40