الأربعاء 18 شباط (فبراير) 2015

وهم الفوضى الخلاقة

الأربعاء 18 شباط (فبراير) 2015 par د.احمد جميل عزم

هناك أسطورة (بمعنى وهم) تقول إنّ وزيرة خارجية أميركا تحدثت يوماً عن “نية الولايات المتحدة نشر الديمقراطية في العالم العربي، والبدء بتشكيل ما يُعرف بـ”الشرق الأوسط الجديد“، كل ذلك عبر نشر”الفوضى الخلاقة“(Creative Chaos) في الشرق الأوسط عبر الإدارة الأميركية”.
أرجّح أنّ هذا أحد أكبر “الأوهام” انتشاراَ ونجاحاً، وأنتظر أن يثبت لي أحدٌ أني مخطئ. وقد اعتدت تحدي طلبة الدراسات العليا في الجامعة أن يأتوني بمصدر حقيقي يتضمن مقابلة أو مقالة لكونداليزا رايس تستخدم فيهما هذا المصطلح. ويبدو لأنّهم يعرفون موقفي من استخدام “ويكيبيديا” (الموسوعة الحرة التي يكتبها من يشاء على الإنترنت)، وأرفض استخدامها في توثيق الأبحاث، فإنه لم يرسل لي أحد منهم ما تنشره الموسوعة عن الأمر، وهو ما اقتبسته في الفقرة الأولى أعلاه، ومنشور فقط باللغة العربية، ومن دون مصادر أو مراجع. ويقول من كتب هذا “الإدخال” للموسوعة إنّه من مقابلة مع رايس في صحيفة “واشنطن بوست” في نيسان (أبريل) 2005.
وجدت في أرشيف الصحيفة لذلك الشهر، 67 مادة تتضمن إشارة لرايس، لا يوجد بينها مقابلات، أو شيء عن الموضوع. وبعض الطلبة والباحثين الآخرين أرسلوا لي مقالات باللغة العربية تنقل وتستخدم المصطلح عن غيرهم من دون توثيق. وبعض الطلبة الأكثر جديّة جاؤوا بمقابلة هنا أو هناك منشورة، أو على شكل فيديو، فيه إشارة ما للديمقراطية، ولكن ليس “الفوضى الخلاقة”. وقامت طالبة بكتابة شبه بحث متكامل من عدة صفحات باللغة الإنجليزية في الشأن، وكان كل ما ذكر فيه يدور حول الموضوع من دون وجود للمصطلح. وإحدى أكثر المحاولات نجاحاً في الاقتراب من إثبات وجود المقابلة والمصطلح، إرسال مقال من “الأهرام ويكلي”، كتبه كاتب مرموق هو حسن نافعة، في 9 نيسان (أبريل) 2005، بعنوان “الحيلة الأميركية”، يتحدث عن مقابلة مع “واشنطن بوست”، أجرتها رايس. وعندما سُئِلَت عن أن نشر الديمقراطية قد يؤدي إلى فوضى، يقول: “لمعت ابتسامتها المميزة، وأوضحت أنّ الفوضى التي تنشأ (في العادة) عن الدمقرطة هي”فوضى خلاقة“ينشأ عنها الأفضل في النهاية”. وبغض النظر أنّ الاقتباس لا يشير إلى مخطط لنشر الفوضى، فإنّني أتساءل: كيف رأى الكاتب ابتسامة الوزيرة في المقابلة الصحفية؟ وأين ذهبت المقابلة؟
ندمن في العالم العربي البحث عن طرف خارجي لا نقول نعتبره كل مشكلتنا. فحتى فيديوهات القتل من “تنظيم الدولة” تفنن البعض في القول إنّها صنيعة استخبارات غربية، من دون أن نتذكر أن التنظيم موجود ويستطيع الإنكار، تماماً كمن ما يزالون يتحدثون عن أن اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 من عمل الصهاينة، مع أنّ “القاعدة” كانت وما تزال تفتخر بذلك. وإذا سلمنا بأنّ “التنظيم” وغيره من تنظيمات هو صنيعة الاستعمار (خصوصا أن التحالف في الماضي مع “القاعدة” خصوصا زمن أفغانستان، مثبت وموثق حقاً)، فهل هذا يعني أن كل تيار الإسلام السياسي (الذي ما يزال يتردد في إدانة ومواجهة هؤلاء) هو صنيعة الاستعمار؟! فضلا عن الليبراليين المتهمين بذلك أيضاً؟
من الأمثلة الأخرى على “أوهام” تنتشر، وأدّرس حالتها في الجامعة، ما لخصها مقال للزميل علاء أبو زينة بعنوان “تصريحات” كيسنجر: درس في المهنية“، (”الغد“19 كانون الثاني (يناير) 2012)، عن مقابلة وهمية متخيلة مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، نشرت في مطبوعة ساخرة، تتحدث عن”تدمير إيران وروسيا والصين والعرب"، وكيف نقلها وترجمها عشرات مصادر الإعلام، من دون الانتباه أو التنويه إلى أنها متخيلة، وقد قرأتُ مقالات رأي تحلل آراء كيسنجر الموهومة هذه.
هناك فريقان يمارسان هذا النهج من البحث عن المؤامرة الأميركية في كل شيء. الأول، وظيفته حماية الأنظمة القائمة وتبرير معارضة أي معارضة أو إصلاح باعتباره مؤامرة. والثاني، ورغبة في تحميل “الاستعمار” مسؤولية كل ما يحدث، يتحول إلى “بوق” للفريق الأول من دون أن يدري، وينسج خططا وأوهاما ومسرحيات متكاملة، تجعل دعوات الدمقرطة والإصلاح مؤامرة “فوضى خلاقة”، ومؤامرة “تقسيم” غربية أميركية إسرائيلية.
للغرب وسياساته نصيب مما نعيش، ولكن لا يجوز تبرئة الأنظمة وتيارات فكرية وسياسية موجودة أيضاً على الأرض، ترفض الإصلاح أو تنادي بالعنف والإقصاء.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 91 / 2178341

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178341 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40