الجمعة 6 آذار (مارس) 2015

الربيع العربي .. البعد الآخر !

الجمعة 6 آذار (مارس) 2015 par طلعت رميح

تحقق انتصار الأمة على “نفسها”عبر وعيها الذي كان مفتقدا أو محصورا في نخب ضيقة ظلت معزولة لسنوات طوال تحت القمع، وبذلك استكملت الشرط اللازم لانتصارها على أعدائها وخصومها، وأصبح تحقيق النصر مسألة تتعلق بالوقت والخطط لا بالإدراك أو بالاستعداد للتضحية وبذل الدماء، ذلك أن أهم معالم الوعي ليس الفهم في حد ذاته، بل رهن النفس لتحقيق الهدف.
وكل التجارب التي جرت وتجري مقترنة بكثافة عنف المواجهة وشدة إسالة الدماء، ليست إلا عنوانا لانتصار الأمة على نفسها واكتسابها الوعي على نطاق واسع وحاسم، فالشهداء لم يموتوا في حوادث الطرق بل في معارك الحرية والاستقلال. وما يشوب مرحلة التغيير الراهنة من تقلبات وهزائم وانتصارات وانتكاسات ليس إلا عنوانا لضعف التخطيط بسبب حالة الفعل العفوي الناتج عن حسم الوعي الجمعي وتوسع مساحة النخب المصممة على تحقيق الاستقلال والبناء الديمقراطي والإصرار على النهضة والنهوض، فالنخب الجديدة لا تملك خبرات الصراعات بعد. كما هو وضع طبيعي لمرحلة تعمقت فيها المواجهة وباتت ضارية بقرار من الأطراف القديمة الممسكة بأدوات القمع وآلات القتل، بحكم أنها لم تحقق الانتصار على الشعوب.
لقد ترسخ الوعي في وجدان شرائح مهمة في المجتمع، وبات يدفع بموجات تلو موجات من الفعل الثوري، لن تتوقف إلا بتحقيق النصر، مهما كانت التضحيات، وذلك هو معنى تحقق الانتصار على النفس، ومهما تصور البعض أنهم حققوا انتصارات على الثورات عبر كثافة استخدام القمع، أو أن النظم القديمة انتهت إلى نصر وأعادت إنتاج نفسها في صور مزيفة خادعة أخرى، فهم واهمون إذ اكتساب الوعي هو الآخر عملية تطورية موجاتها المستقبلية أشد فتوة ووضوحا ويقينا، وإذا تصور البعض أن وجود نسبة من السكان لا تزال داعمة للديكتاتورية أو متخوفة من المستقبل ورافضة للتغيير، فهو لا يدرك أن الثورات والمقاومات لم تشترط لانتصارها إلا غلبة الداعمين لها على الرافضين والمعادين لها بحكم المصالح –خاصة في دوامة الثورات -أو بسبب الخداع الإعلامي أو الأبعاد النفسية لمكونات الإنسان أو غيرها، وإذ يروج البعض إلى هزيمة الربيع وثورات الحرية، فتلك دعايات من داخل عمليات خوض المعركة وهي تستهدف إخفاء حقيقة أن المعركة باتت محسومة استراتيجيا ضد النظم القديمة، هي دعايات تقدم شواهد على استمرار المعركة وليس العكس.
يبدو التقدير السابق مغايرا ومتناقضا مع ما يروج له من انتصار الثورات المضادة، بل هو قد يبدو متصادما مع الظواهر التي نشاهدها ونتابعها، أو متناقضا مع المآسي التي تعيش الأمة فصولها وكأنها حالة بلا نهاية، غير أن القول بانتصار الثورات المضادة استنادا إلى أعمال القمع والقتل والتهجير ليس إلا محاولة لإيصال رسالة عقلية بالاعتماد التي التأثير النفسي الناتج عن هول المواجهة، لإخفاء ما حدث من تغيير جوهري وجذري في الأمة، وهي أقوال تتردد لتحقيق هدف عزل الجمهور العام عن النخب الجديدة التي تبذل التضحيات الجسام لتحقيق انتصار الشعوب. وفي كل، فالمستقبل لا يصبح حقيقة كلية إلا حين يتحقق الانتصار الناجز على الماضي.
والحاصل أن بعض العقول لا تزال تائهة ولا تستطيع الإمساك بجوهر الحقيقة، بسبب زخم الأحداث وهول ما ينزف من دماء، بما يدفع دوما –في مراحل معينة من الصراع –لانكفاء الإنسان على نفسه عاطفيا، فيما الأمر يحتاج وعيا ثاقبا مستقبليا مليئا بالإيمان والفهم لطبيعة حركة الشعوب وضراوة ما تواجهه حين تسعى للتغيير، بل إن كل شعوب الدنيا لم تدرك ما تمكنت من تحقيقه –وهي صانعته باندفاع أسطوري -إلا بعد الانتصار النهائي. وكل شعوب العالم احتشدت في طوابير نصر صنعه المضحون بلا تردد، فيما كانت أدوار الواقفين في طوابير النصر،هي الأقل قدرا.
حسمت معركة الوعي، وأصبح للوعي جسر عريض من عقول نخب متوسعة مجهولة لا تحظى بالشهرة والسطوة الإعلامية وتلك إحدى المشكلات، وكل الأمم استعادت وعيها عبر نخب ضيقة ظلت مطاردة يشيع اليأس من حولها، إلى أن تهيأت الظروف لإطلاق قطاعات عريضة لتحقق ما أفنى هؤلاء السابقون أعمارهم من أجله، لقد كانت شعوبنا مغيبة وغائبة لا ترى ضرورة لتقديم التضحيات لأجل حريتها أو في مواجهة أعدائها، عشنا كذلك سنوات طوال، وحين هبت رياح الوعي صانع التغيير، تكالب الأعداء ليجعلوا من وعي الناس واستعدادهم للتضحيات مآسي حتى يعودوا إلى حظائر التدجين.
تلك هي الضفة الأخرى، التي يجري تغييب رؤيتها عمدا، ففي الضفة الأخرى لا عنوان للهزيمة، بل عنوان لمستقبل تقدم كل التضحيات لأجل صناعته موجة بعد موجة، وهو ماثل أمامنا الآن، بل إن كل عناوين شدة القتل حتى الجنون ليست إلا تأكيدا على أن الشعوب لم تخضع وأن الثورات المضادة لم تنتصر على الشعوب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2181420

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع طلعت رميح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2181420 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40