الخميس 12 آب (أغسطس) 2010

مفاجآت لبنان

الخميس 12 آب (أغسطس) 2010 par د. يوسف مكي

في مطالع الخمسينات من القرن المنصرم عمل الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور على استكشاف إمكانية تحقيق السلام بين العرب والصهاينة، وكلف الرئيس مندوبين عنه للقيام بهذه المهمة. وكانت بداية التحرك قد أخذت مكانها حين أعلن البيت الأبيض عن تكليف كيرميت روزفلت السفر لمنطقة «الشرق الأوسط» في مهمة لتقصي الحقائق. وخلال جولته، التقى بالرئيس المصري جمال عبد الناصر وطرح معه سبل التوصل لتسوية مع الكيان الصهيوني. وتكررت المحاولة مرة أخرى، بزيارة النائب البريطاني والوزير السابق ريتشارد كروسمان الذي التقى الرئيس عبد الناصر، وأبلغه رسالة شفوية من رئيس الحكومة «الإسرائيلية» ديفيد بن غوريون يطلب فيها لقاء مع الرئيس عبد الناصر في أي مكان يختاره وبأية صيغة. وقد حاول كروسمان أن يستكشف نوايا الرئيس المصري حيال الصراع مع الكيان الصهيوني.

وكان الرد المصري، أثناء اللقاءات التي حدثت في تلك الفترة، حاسماً في رفضه لأجراء أي اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مع الكيان الصهيوني.

آنذاك ومع حالة العزلة واليأس والإحباط التي عاناها الصهاينة، صدر تصريح لبن غوريون، يعلن فيه أنه ليس بمستطاعه التنبؤ بالدولة العربية الأولى، التي ستقدم على توقيع معاهدة سلام مع «إسرائيل»، لكنه متأكد أن لبنان سيكون الدولة الثانية التي ستقدم على ذلك.

قد مضى على ذلك التصريح ما يقرب من ستة عقود، ولم تتحقق بعد نبوءة مؤسس الكيان العبري في إخضاع لبنان. بل على النقيض من ذلك، أضحى هذا البلد الجميل رمزاً للكرامة والإباء. وغدا بعد نكسة الخامس من يونيو/ حزيران عام 1967، حاضناً للمقاومة الفلسطينية، ومن خلال جبهاته تمكنت المقاومة من تنفيذ عمليات فدائية نوعية ضد الصهاينة. وكان توقيع اتفاقية القاهرة بين المقاومة والحكومة اللبنانية، الذي تم توقيعه برعاية مصرية في 31 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1969، والذي أجاز للمقاومين الفلسطينيين تشكيل لجان محلية بالمخيمات لرعاية مصالح اللاجئين، تتولى تنظيم وجود الأسلحة داخل المخيمات وتحديدها، قد شكل نقلة نوعية في العلاقة بين لبنان وفلسطين، عمدت لاحقاً بالدم، وانصهار كفاحهما في مواجهة العدوان.

خلال العقود التي مضت، ومع توقيع حكومات مصر والأردن، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية معاهدات سلام مع «إسرائيل»، صار لبنان مفاجئة الأمة لذاتها، فهذا البلد الذي لم يصطدم عسكرياً مع الكيان الغاصب حتى نكسة يونيو، باستثناء مشاركته الرمزية في الحرب العربية - «الإسرائيلية» عام 1948، أمسى بعد النكسة قطب الرحى وعنوان المقاومة في الصراع مع الصهاينة.

وفي كل المحطات، كانت التضحيات ولا تزال باهظة، والدماء غزيرة. فقد تواصل العدوان على لبنان خلال العقود الأربعة الأخيرة، من قنص للقادة الفلسطينيين : كمال عدوان ويوسف النجار وكمال ناصر، إلى تدمير لمطار بيروت، عدا الاعتداءات المتكررة على القرى الجنوبية، في نهاية الستينات إلى اجتياح واسع عام 1978، حتى غزو كبير وحصار شامل للمقاومة الفلسطينية استمر أكثر من ثمانين يوماً في بيروت انتهى بخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وترحيلها إلى أماكن متفرقة من الوطن العربي، واحتلال أجزاء واسعة من جنوب لبنان، جرى لاحقاً تنصيب سلطة محلية موالية ل «إسرائيل» عليها، عرفت بسلطة سعد حداد. وكانت مفاجأة أخرى، تمثلت في مقاومة باسلة استمرت ثلاثة عقود، وتمكنت من إلحاق هزائم متكررة بالكيان الغاصب، أجبرته على الرحيل من جنوب لبنان، مؤكدة حضور لبنان التاريخي في النضال القومي العربي لمواجهة الغطرسة الصهيونية، وأنه أصبح طليعة وعنوان هذا النضال، وتلك مفاجئة أخرى.

إثر وصول الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن للبيت الأبيض، أعيد طرح مشروع «الشرق الأوسط» بحدة وأصبح هذا المشروع، بعد حوادث 11 سبتمبر عام 2001، وإعلان الإدارة الأمريكية ما عرف بالحرب العالمية على «الإرهاب»، حجر الزاوية في السياسة الأمريكية. وعلى طريق تحقيقه، جرى احتلال أفغانستان والعراق، وطويت صفحة الوجود العسكري السوري في لبنان، وأثناء ذلك اغتيل رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، واتهمت القيادة السورية بالضلوع بعملية الاغتيال، وصدر قرار عن مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة دولية للتحقيق مع المتهمين.

وجاءت الهجمة «الإسرائيلية» على جنوب لبنان في يوليو/ تموز عام 2006، لتمثل أعلى مراحل العدوان بحق المقاومة الوطنية اللبنانية. وقد أريد لهذه الحرب، حسب تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، مخاض الولادة لـ «شرق أوسط جديد». وكان الهدف المعلن من الحرب هو القضاء على «حزب الله»، بعد أن عجزت الحكومة اللبنانية عن نزع سلاحه.

ومرة أخرى أيضاً، فاجأ اللبنانيون العالم بأسره، بانتصار المقاومة وهزيمة العدوان. كما فاجأوه بمساندتهم لمقاومته الوطنية وهي تتصدى للعدوان وأفشلوا مراهنة الصهاينة على تفتيت جبهة لبنان الداخلية. وكان موقف القيادة السورية المتضامن مع لبنان، أثناء الحرب، قد سجل أرقى المعاني في التسامي فوق الجراح. لقد هبت سوريا بأسرها لنصرة الأشقاء في لبنان، وفتحت الأبواب من الشمال إلى الجنوب، لاستقبال اللاجئين الفارين بجلدهم من القصف الوحشي «الإسرائيلي»، معبرة عن عمق التضامن بين الجسد الواحد، والوطن الواحد. وليفاجأ العدو والعالم بفشل محاولات خلق الفتنة، وفصم العلاقة بين الشعبين الشقيقين : السوري واللبناني.

وبالمثل أيضاً، جرت محاولات لتخريب العلاقة بين الرياض ودمشق، وسادت قطيعة أرادت لها القوى التي تضمر الشر للشعبين السعودي والسوري أن تستمر. لكن مبادرة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، في القمة العربية التي عقدت في الكويت، والتي اقترح فيها تصفية الأجواء العربية من الخلافات، لما فيه مصلحة الأمة، مؤدية إلى حدوث تقارب في المواقف، وبشكل خاص بين القيادتين في المملكة وسوريا، حيث عادت المياه إلى مجاريها، وتبادل القادة الزيارات. وقد كان لهذه التطورات آثارها الإيجابية على العلاقة بين دمشق وبيروت.

وخلال الأسابيع الأخيرة، شهد لبنان مفاجآت كثيرة أذهلت الكثير من المراقبين، فقد وصل الرئيس السوري بمعية خادم الحرمين على متن طائرة سعودية إلى بيروت، واستقبلهما الرؤساء اللبنانيون الثلاثة وشهدت بيروت مهرجان فرح وعرس عربي كبير افتقدته في السنوات الأخيرة وارتسمت البسمة على شفاه العاشقين لأمة العرب، وكانت تلك مفاجئة لبنانية جميلة ونبيلة.

وأخيراً وليس آخراً محاولة العدو «الإسرائيلي» قطع شجرة من قرية العديسة في جنوب لبنان، تعيق كاميرات التجسس التي نصبتها القوات «الإسرائيلية». المفاجأة هذه المرة، أن الذي تصدى لتلك المحاولة هو الجيش اللبناني وليس المقاومة الوطنية اللبنانية، وقد أثار ذلك ذهول القادة الصهاينة، وجعلت رئيس حكومة العدو نتنياهو يصف ما جرى بدقة بـ «أنه مفاجأة».

المفاجأة الأخرى، أن المقاومة اللبنانية وضعت نفسها تحت تصرف الجيش، ومارست ضبطاً للنفس فوت على العدو ذريعة الرد على طلقات المقاومة، لكنها في الوقت نفسه حذرت العدو من أن ضبط النفس ليس هو القاعدة بل الاستثناء. وأن اليد ستبقى دائماً على الزناد لمواجهة أي عدوان «إسرائيلي» في المستقبل.

وكان تضامن اللبنانيين، ووقوف الحكومة اللبنانية خلف الجيش اللبناني، باعتباره الحصن الحصين للدفاع عن الوطن وكرامته، والتضامن العربي الواسع، الشعبي والرسمي، مع لبنان، أثناء الأزمة الأخيرة مفاجأة أخرى في حسابات المتخاذلين والمستسلمين.

فعسى أن يتعمم موسم مفاجآت لبنان، ويطل بإشعاعاته، على عموم أرضنا العربية، رافعاً راية العزة والكرامة، بديلاً عن المهانة والاستسلام.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2181941

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2181941 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40