الأربعاء 1 نيسان (أبريل) 2015

المسألة الإنسانية بين الديني والعلماني

الأربعاء 1 نيسان (أبريل) 2015 par علي عقلة عرسان

إن مفهوم العلمانية عندنا، وفي هذا المجال على وجه التخصيص، يحتاج إلى فحص وتوضيح وتمحيص وتدقيق ومراجعة، لإزالة اللبس في الفهم والتطبيق من جهة، ولمواجهة تناقض بدأ يظهر بعد أن توصل الكثير من البعثيين إلى حقيقة إن إعطاء الظهر للإسلام خاصة والدين عامة كان خطأً فادحاً ولا تستقيم معه الأمور، وبدأ حديث عن تكامل العروبة والإسلام .. العروبة جسد والإسلام روح، وأنه لا ينبغي وضع العروبة في مقابل الإسلام، وأننا مسلمون.
العلمانية أي ” اللادينية” أو “الدنيوية” secularism، نبتٌ غربي بدأ هناك مع صلح أو ” اتفاق” ويستفاليا “شمالي الراين في ألمانيا” عام 1648 الذي أنهى حرب الثلاثين عاماً 1618 ـ 1648 والحروب الدينية الأخرى في أوروبا لا سيما بين الكاثوليكية والبروتستانتية: أي” اللوثرية والكالفنية”، نسبة إلى أتباع كل من مارتن لوثر 1483 ـ 1546 وجون كالفن 1509 ـ 1564″، وجرّد البابوية من السلطة المدنية وحيّد سلطتها الدينية في الحياة المدنية والسياسية، ورسّخ الإصلاح الديني والاكتفاء بالإيمان الفردي تاركاً الإلزام بالممارسات الكنسية لمن يريد أن يلتزم بها من الناس ـ وفي ذلك تأسيس لنشوء العلمانية ” الدنيوية واللادينية” ـ وأنهى الإمبراطورية الرومانية وحكومات المقاطعات والمدن، وأسس لنشوء الدولة القومية في أوروبا، وهو صلح شارك فيه مندوبون من حكومات مدن ومقاطعات كثيرة في أوروبا.
وترسخ النهج العلماني بعد الثورة الفرنسية وفي أحضانها، وتحولت فرنسا “البنت الكبرى للكنيسة” إلى “جمهورية علمانية تحترم كلّ المعتقدات.”، وتأصلت العلمانية على الفكر التنويري في ما يعرف بعصر الأنوار – الذي يحتاج منا إلى دراسة تبين ما له وما عليه مما يتصل بنا وبالموقف منا حضارة وعقيدة وممارسات لتصحيح الموقف والنظرة – وانتشر ذلك النبت الغربي في بلداننا مع سيطرة الاستعمار وانتشار التبشير الديني والاستشراق المرتبط بالاستعمار في عقود الاستشراق الأولى، وبتأثير الغرب ثقافياً وسياسياً على الكثيرين من المفكرين والأدباء والمثقفين في عالمنا.
وقد أدى المنهج العلماني الذي أسفر عنه الصراع بين الكنيسة من جهة ورجال السياسة والإقطاع من جهة أخرى، إلى فصل الدين عن الدولة، استناداً إلى القول: ” دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله “، وإلى تحييد النزعة أو النظرة الدينية نسبياً في المعاملات المدنية ” الدنيوية”، وإلى التفريق النسبي بين الحياة الخاصة للفرد والحياة الأوسع للمجتمع، والابتعاد عن تطبيق الدين وأحكامه وتحكيم وما يتصل به في الشأن المدني لتجمع بشري في دولة، سواء أكان أولئك البشر من أتباع دين واحد أم من أتباع ديانات عدة .. فترك أمر الدين في الشأن المدني جانباً ولم يعد لرجل الدين تلك السيطرة السابقة على شؤون الناس ومعاملاتهم، وتم اتباع ما يمكن إيجازه بترك الدين لله وجعل الوطن للجميع، في حاكميّة دستورية وقانونية ذات مرجعيات مدنية صارمة ونهائية، وعدم الذهاب إلى الأخذ بأحكام المرجعيات الدينية في الشأن السياسي والمدني، وهو من وجهة نظر العلمانيين مدخل إلى الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية السليمة في دولة ذات سيادة.
وشكلت العلمانية حضوراً واسعاً ومؤثراً في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي، لا سيما في القرن العشرين، ولم يقتصر تأثيرها على أحزاب وشرائح من المثقفين تبنتها واعتمدت منهجها أو اعتمدتها منهجاً، بل انتشرت في السياسة وأساليب الحكم وفي التشريع والتعليم والتربية والثقافة والعلاقات الاجتماعية بكثافة ملحوظة. والتدقيق الموضوعي يوضح ذلك في النهجين السياسي والتربوي بما لا يدع مجالاً للشك. ولم تستطع الأحزاب الإسلامية ولا الصحوة الإسلامية لاحقاً، المناهضة للعلمانية، التصدي لها بنجاح، ولا الحد من حضورها المباشر وغير المباشر في مجالات كثيرة، بفاعلية واسعة لأسباب كثيرة، على الرغم من ارتفاع الصوت في هذا المجال وحشد حجج وجهود وخوض صراعات حامية.
وبصرف النظر عن التعاريف المعجمية والأكاديمية وشمول بعضها أو قصوره بشأن المصطلح والمنهج والأبعاد، فإن للعلمانية مستندَين رئيسين في التوجه النظري والتطبيق العملي: فصل الدين عن الدولة، وجعل الإيمان والاتباع الديني شأناً شخصياً هامشي التأثير في أحوال وتوجهات اجتماعية وسياسية على الخصوص.. ووفق ذلك لا يشكل الدين أساساً يبنى عليه إصدار حكم قيمة أو سواه على أفكار وأشخاص وتنظيمات وتوجهات سياسية واجتماعية.
والعلمانية لم تنشأ أصلاً من مواقف ومواقع انتصر فيها العلم على الدين بل من مواقف ومواقع انتصرت فيها السياسة والإقطاع والبورجوازية لاحقاً على البابوية والكهنة، أو البلاط الملكي على الكنيسة، فهي ليست موقف الدين من العلم أو موقف العلم من الدين بدرجة حاسمة، وإن كانت تتمسح بالعلم كثيراً.. فالعلم شيء والعلمانية شيء آخر. وعند ذوي الحجا والبرهان والعلم والإيمان أنه كلما ازداد الإنسان معرفة وعلماً ازداد إيماناً، وهذا راسخ في الإسلام وهو مصداق قوله تعالى: ” إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.” فاطر28/ ولكن عكس ذلك هو المأخوذ به عند ملحدين يرون الدين معوقاً للتقدم العلمي والاجتماعي؟!. وعلى هذا فإنه لا بد من التفريق بين النظرة العلمية للظواهر والمعطيات والإنجازات والتقدم في كثير من ميادين الحياة، والتعامل مع الوقائع والمعطيات المؤثرة في المسارات البشرية والحياتية التي استفادت من العلم ودعت إلى تطويره والعمل به ونمَّت النزعة العقلانية التي فيها التدبر والتفكّر والتأمل وتعميق المعرفة والإدراك والتفسير..إلخ هو أساس التقدم الفكري، ومن وسائله ممارسة الجرح والتعديل واحترام القواعد التي رسخها العلم وقاد إليها العقل السليم ويقود إليها.. وبين العلمانية من حيث هي منهج حكم واحتكام ومعايير ومرجعيات وأساليب أداء دنيوي لا ديني، لها وعليها الكثير مما هو موضوع جدل. فالأمر ينصرف في العلمانية إلى الفكر والتقدير والممارسة والسلوك المدني الذي لا يحتكم إلى الدين ولا يحكّمه الدين ـ أي إلى العلماني الدنيوي وليس إلى العلمي ـ في القضايا السياسية والاجتماعية، وينصرف بدرجة كبيرة إلى السياسيات المتصلة بأصول الحكم والاحتكام والأحكام:” “دنيوية، قانونية، اجتماعية، سياسية..” ومستندة إلى المعايير والقيم والمقومات التي يؤسَّس عليها الأداء المدني في ظل حكم أو تسييس أو تنظير يقوم على النظرة العلمانية ومعطياتها ومرجعياتها ووسائلها ومنظورها العام.
وأصحاب هذا المذهب أو الاتجاه في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي شرائح واسعة كما أسلفت، تمتد من اليسار المادي المتطرف الذي قدم العلمانية إلحاداً وإنكاراً للدين، واتخذ منه موقفاً سلبياً، شأنه في ذلك شأن الماركسية نهجاً تنظيرياً والاتحاد السوفييتي نهج حكم تطبيقياً.. إلى الليبرالية اليمينية والدينية المتطرفة أحياناً التي تعمل وفق عقيدة وتتعامل مع الآخرين، ولا سيما المسلمين، انطلاقاً من منظور ديني ذي خلفيات عدائية مبطنة ومعلنة أحياناً.. ويشمل ذلك التعامل حقول الفكر والسياسة والثقافة والاجتماع. والعلمانية في وطننا العربي تستقطب أيضاً أحزاباً وتيارات قومية بأطياف واسعة في أغلب التوجهات والسياسات والمواقع.
ولكن فيما يخص الإسلام، العقيدة المهيمنة في وطننا العربي وفي معظم البلدان الإسلامية، فإنه دين ودولة لا يمكن الفصل بينهما مع بقاء السلامة والتوازن بين الديني والدنيوي، السلوكي والقيمي، المادي والروحي. فالدين المعاملة في نهاية المطاف، ولا يوجد فصل قاطع، شأن بعض المسلمين القائلين بذلك عند مرجئة، بين العبادات والمعاملات. إن حاكميّة التشريع وسياسة الناس في القرآن واضحة وكذلك قاعدة التوازن بين الدنيوي والأخروي، المادي والروحي، ويتجلى ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” القصص 77 وهي الآية التي بني عليها أو استمِدّ منها القول المتداول الذي ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مراجع وإلى عبد الله بن عمر في مراجع أخرى: ” اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.”، في تلازم بين الدنيوي والأُخروي، العبادات والمعاملات. ولا يمكن التصرف بشؤون الناس، وفق العقيدة الإسلامية، بعيداً عن الشرع وأحكام العقيدة السمحة وما يعتنقه الناس ويرغبون في إتباعه.. إذا كانوا يصدقون في عقيدتهم ويحسنون فقه النصوص في إطار الرسالة السمحة ويتمثلونها في سلوكهم، فالإمام كان حاكماً لزمن ولم يعد الحاكم إماماً منذ زمن، ولكن شأن الناس يرتبط بالدين في الحياة اليومية من حيث الممارسات والمعاملات ونتائج الأداء السياسي والإداري والاجتماعي على نحو واسع، ولا نتكلم هنا عن العبادات، ولا عن البحث العلمي والتجارب العلمية وتطبيقاتها. وقد جرى تعزيز الرؤية العلمانية في كثير من البلدان العربية وأحزابها وتنظيماتها المدنية على أسس غربية ليبرالية أو ماركسية شيوعية، الأولى في إطار العلمانية “المؤمنة” أو التي لا تجُبُّ الدين ولا تعاديه، والثانية في إطار العلمانية “الملحدة” التي تتنكر للدين وتعاديه وتحمله مسؤولية التخلف ” الدين أفيون الشعوب؟!”، وتمنع الدعوة له وتبيحها ضده ـ قوانين الاتحاد السوفييتي السابق مثلاً ـ وهي الإلحاد بقناع علماني معوَّم بقصدية مرحلية واضحة.
إن مفهوم العلمانية secularism عندنا، وفي هذا المجال على وجه التخصيص، يحتاج إلى توضيح وتمحيص وتدقيق ومراجعة، فمن يريد أن يقدم إلحاده في ثوب العلمانية وينفي حق المؤمنين المعتقدين بإله واحد، وينال من حقهم في أن يمارسوا حرية الاعتقاد والعبادة والتفكير والتعبير..إلخ، إنه يستطيع أن يحوّر ما يشاء وأن يقدم مفهومه كما يشاء، ولكنه لا يستطيع، ولن يستطيع، محو الآخر واتهامه وتشويه صورته وحرمانه من حقوقه وإلزامه بما يرى هو، ولا يستطيع محو الإيمان من قلوب المؤمنين ولا الدين من حياتهم، ولا يمكنه أن يقيم صرحاً تقدمياً أو وطنياً أو قومياً وحدوياً أو حضارياً من أي نوع، مع كثرة بشرية ترفض توجهها العام وحقائق معتقداتها ” أيديولوجيتها” ومقومات هويتها؛ ومن البدهي أنه لن ينحج في أن يصبها في قارورة يراها بيت الدنيا والآخرة، وهي ليست أكثر من قارورة يسجن فيها نفسه وعقله ومشروعة وأرواح الآخرين الذين يريد أن يجردهم من التمايز الحيوي، ويفرخهم كصيصان المداجن إن هو استطاع؟!. وهو عند ذلك المحك العلماني، على صعيد التعامل مع الشعب، أحوج ما يكون إلى علمانية تأخذ بالتعدد وبحق المؤمنين في التدين، وتتمتع بنظرة علمية صحيحة إلى الواقع الاجتماعي على أقل تقدير، وتكون ” دنيوية لا تعارض الدين” إن صح التعبير والتدبير، وترفض الغلو والنزوع المريض أياً كان مصدره، وترفض أن تتنازل عن حريتها. وإذا كان لا بد من بقاء الاسم ” العلمانية” فلا بد من تغيير المضمون والمفهوم المشوبين بسوء فهم وسوء تطبيق في مواقع كثيرة .. والأخذ بمصطلح ومدلول ” لعلمانية دنيوية معقولة ومقبولة” تقر بوجود الله ولا تحارب معقدات الأفراد الدينية ولا تشوهها أو تزدريها تحت قناع التقدمية “الشامخ الأنف” في فراغ لا متناهٍ، أو تحت دثار إدعاء المعرفة “المتناهية الحدود” والعلم العصموي العاصم، في فضاء الخلق والخالق اللانهائيين. ولا تستطيع العلمانية الادعاء بأن تاريخ المصطلح والمفهوم ومنطقهما يتعارضان مع الدين والإيمان والاعتقاد والبعد الروحي في الحياة، لأن الوضع التاريخي في أوروبا بعد صلح وستفاليا الذي نشأ في أحضانه ومناخه المصطلح secularism، لا يشير إلى إلغاء للدين أو انتشار للإلحاد ومحاربة التدّين.. ونماذج الحكم الغربية كلها واضحة في هذا المجال، ومنها من يأخذه الغلو إلى حدود العنصرية، ويسيطر عليه رسيس ديني – صليبي ويوجهه، وذلك هو شأن جورج W بوش وتابعه توني بلير، حيث قدما أنموذج “العلمانيين” الغربيين في حربهما الصليبية على العراق تلك التي لا يمكن لوحشيتها أن تُنسى ، ومنها أيضاً نماذج ” العلمانيين” الصهاينة التي تفوق النازية إجراماً بمراحل، وتنطلق من اعتقاد ديني عنصري بغيض.
إن على من يريد تحييد الدين، أن يدقق حتى لا يقف ضده ومن ثم ضد أتباعه أي البشر المتدينين، فلكل من بني البشر دين .. وعلى من يريد أن يحكم باسم الإسلام ، الدين والدنيا، في تلازم عقيدة وسلوك، أن يعي حقيقة أن الدين للناس كافة، وأن الله للجميع، وأنه سبحانه هو العدل المطلق ولا يقبل الظلم والقهر والجور.. وحين يقوم متطلع إلى حكم باسم الإسلام بإلغاء الآخر أو محوه أو الحكم عليه أو تهميشه.. عليه أن يدرك أنه بذلك يجرد الله والدين من مفاهيم إنسانية وأخلاقية وأممية وعالمية، ومن العدالة والتسامح وقيم إنسانية منها الحرية، فالله للناس كافة وهو الحاكم العادل الذي هدى الإنسان النجدين.. والدين سبيل لهم لبلوغ ما هو خير وعدل وسلام وأمن من جوع وخوف، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.. وعلى من يختار العلمانية أن يحدد هل يريد الوقوف ضد الدين والتدين، أي أن يتبع النهج الإلحادي، أم أنه يريد فرض هيمنة اللاديني/ الدنيوي بوجهيه الإلحادي والإيماني إن صح التعبير على المجتمع والأمة والإنسان في الحياة، مع ترك باب الاختيار مفتوحاً وباب الحرية مشرعاً؟ تلك أسئلة مطروحة على العلماني والإسلامي ممن يتطلعون إلى سياسة وحكم وقيادة ورئاسة.
إن القضية المادية الملازمة لبعض النظريات والنظرات والتأويلات العلمانية، قضية لا تتلاءم وطبيعة مجتمع مؤمن أو ديني أو متدين..إلخ، فالمادية التي يُراد رؤيتها في العلمانية لا يمكن أن تنفي حضور الروحي والأخلاقي والقيمي والمثالي من النفوس ومن التكوين الاجتماعي والعقلي لأفراد مجتمعنا العربي والإسلامي، على الرغم من زحف المادي والنفعي والحسي والشكلي والاستهلاكي والتطرفي العنفي وحتى الانحلالي، بصورة طاغية، على المعنوي والروحي والقيمي والأخلاقي في حياتنا. ثم إن الذهاب إلى العقلانية المطلقة ” العقل المحض” من طرق علمانية خالصة شاملة، ملفّقة أو غير ملفقة، يمضي بنا في طريق تغليب العقل على الإيمان وجعل العقلي سابقاً ومهيمناً على الإيماني والروحي والإلهي، ينفيه ويلاحقه ويصادره ولا ينقذه، ومن ثم يشكل اعتراضاً على الوحي والنبوّة والأصول العقيدية ” أياً كانت”، ويلزم أتباعها بما لا يقتنعون به، ويطالبهم بعرض المعطى الاعتقادي والسلوك الفردي والاجتماعي القائم على الإيمان.. عرضه على معياره هو وموازينه ومواصفاته، ومن ثم قبول أحكامه التي قد تنقض البناء الإيماني وتقلبه رأساً على عقب، أو تنفيه وتعمل على محوه وقد تعاقب عليه، أو على الأقل تجافيه. ويجعل العقلي مرجعية نهائية مطلقة الشمول و”قادرةً” على تقديم الحلول والأحكام وتقييم التوجهات وتصحيحها.. بينما قضية سيطرة العقلي ومرجعيته وحاكميته الشاملة وقدرته المطلقة لم تثبت بصورة حاسمة ونهائية، وهي ليست متسامية في التجرد إلى درجة التماهي مع العقل المطلق المتماهي بدوره مع العدل المطلق.. فالعقل عقول، والعقلانية مناهج ومدارس و” عقائديات” نظرية تنطلق من معطيات عقلانية متعددة ومتضادة أحياناً.. وعلى هذا فالعقلانية ليست نهائية، على الرغم من أهميتها وضرورتها وتقدمها، فهي تشفع وتساهم وتعمل عملها وتقوم بدورها في كيان يدور في مدار الكون وتحكمه قوانينه وتغمره القدرة. ومن منظور الإسلام العقل هو مفتاح العلم، والعلم أحد مفاتيح اليقين والإيمان العميق وخشية الله سبحانه وتعالى: ” إنما يخشى الله من عباده العلماء”.
نحن أمام معطيات عقلية مادية علمانية عالمية من جهة وإيمانية روحية ما ورائية إنسانية ذاتية متطلعة إلى كونية شاملة من جهة أخرى، وعلينا أن نحسم الأمور والخيارات لجهة ما في ضوء معايير واعتبارات ومعطيات قومية ووطنية وإنسانية، اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية قبل كل شيء.
إن الاعتراف بصلة عضوية بين المادي والروحي يقود إلى التكامل بينهما، مع البحث عن رائد ومتقدم أو مهيمن في السلوك والطريق المشترك، ربما كان هو الحدس وهدى القلب وإبصار البصيرة، وربما كان الإنساني بأبعاده وقيمه وشموله.. إن تنافر النسيج العضوي في الذات الحية الشاعرة بوجودها وبموقعها في الوجود، يؤدي إلى شرخ إيماني حياتي عميق يقود إلى أحد اتجاهين: مادي يضعف الروحي والأخروي، وروحي يضعف المادي والعلمي والتجريبي والتقني. ومن وجهة نظر إسلامية يصعب الأخذ بقطيعة بين العقلي والإيماني وجعل أحدهما حجة على الآخر، مهيمناً عليه أو نافيا له.. أي أنه يصعب الأخذ بالعقلاني المادي الجسدي الذي ينفي الروحي الماورائي الغيبي، أو الأخذ بالروحي الغيبي المثالي الماورائي الذي ينفي العقلاني والمادي والمنافع والمصالح وحاجات الجسد. لأن قاعدة التوازن بين الديني والدنيوي، المادي والروحي، الحاضر الظاهر والغيب الباطن، الملموس والحدسي.. ثنائية قائمة متداخلة عضوياً وليست ملتصقة أو ملصوقة بالكائن الحي. وهذا يشير إلى العلاقة ذات البعد الأعلى والأسمى بين الخالق والمخلوق.. هل هي علاقة افتراق عدمي يصل إلى درجة موت الله عند الإنسان وفيه، أم هي علاقة صلة مستمرة حية في نفس المخلوق تشير إلى القدرة الإلهية للخالق وهيمنتها على المخلوق في الحياة، وإلى استمرار تأثيرها وحاكميتها إلى الأبد، حيث تبقى تحكم وتحاكم في عالم ما بعد الموت والبعث والنشور.. أم أنها في إطار ” وحدة الوجود، الحق والخلق” كما يقول ابن عربي ويعترض عليه من معترضون؟! إن الإنسان مكلف يحاسَب على ما كُلف به، ومن ذلك العيش والعمل والسلوك..إلخ، ومجرد العيش تكليف، فلم يُخلق الإنسان عبثاً.. ولمن يريد أن يتدبر ويتفكر ويخوض في الماديات والروحانيات، في الماورائيات والتفاسير والدلالات، عبر الديني والدنيوي.. له أن يفعل.. وأن يفعل.. وأن يفعل، لكنه سيبقى في هذه العلاقة الإنسانية بين العلمانية والإيمانية على ضفاف العلاقة الحياتية البشرية.. وعلى ضفاف المسألة الأكبر.. المسألة السؤال الذي هو جوهر علاقة المخلوق بالخالق، والكائن البشري بالكون والآخر والمحيط والبيئة، وبظواهر ومظاهر تلقيها أسئلة وتحييها أجوبة.. ومن ظواهرها كلام في وصفها وتصنيفها: هل هي علاقة إيمان أم إلحاد، قلب أم عقل، مادية أم روحية، علمانية أم دينية.. خير أم شر.. حرية مسؤولية أم قمعية تلغي المسؤولية.. إلخ.. أم هي جماع كل ذلك بعدل وتوازن واعتدال وتكامل.؟!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 610 / 2165975

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي عقلة عرسان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165975 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010