الجمعة 17 نيسان (أبريل) 2015

“حيّات” في جبل حيدر

الجمعة 17 نيسان (أبريل) 2015 par د.احمد جميل عزم

كتبتُ مرات عدة عن الحيوانات في فلسطين؛ عندما عاتَبت فتاة ذات جدائل طويلة في جبل الخليل، العام 1968، الفدائيين أنّهم لا يأتون لأخذ “زُوّادتهم” الساخنة، وقالت تطمئنهم “حتى الكلب عرف أنكم ولاد البلد وما عوى”. وكتبتُ عن كلبة المهندسة سعاد العامري، صاحبة كتاب “شارون وحماتي”، والتي حصلت على هوية بيطرية صادرة من القدس، فتحدت الجندي ساخرة أنّ هوية الكلبة مقدسية، وأنها سائقة الكلبة ولها حق المرور بها إلى القدس. وكتبتُ عن كلب عوى عندما باغت الجنود صاحبه، فأردوه بطلقة، وعن حصان وكلب أبيض جاءا مع اللاجئين من طبريا لمخيمات الشتات، وكيف انهارت مكانتهما الاجتماعية أيضاً. لكن لم يخطر ببالي أني سأكتب عن عقارب وحيّات من الوطن.
عندما زرت مختبرات جامعة بيت لحم للقاء الدكتور مازن قمصية، رأيت شباناً لخص أحدهم مهمتهم بقوله: “نريد توثيق كل عقارب فلسطين”. وأخرجوا لي عبوات فيها عقارب على قيد الحياة؛ يوثقون ويسجلون ويُمايزون.
التقيتُ مازن مؤخرا. جلنا بيوتا باقية في حيفا، مُخّربة، نبحث عن أثر بقي، حيث جمع في عبوة زجاجية حشرات شرح عنها ثم أطلقها في الأرض.
كان شوقي قسيس، في الصف السابع، سعيداً وقد صار يتقن امتطاء الخيل ويذهب في نزهات وحده، ويردد الشعر “أعز مكان في الدّنى سرج سابح”. وفي العام 1960، كانت سيدة بدوية من عرب السواعد صديقة للعائلة في قرية الرامة في الجليل الفلسطيني. قالوا للطفل: رافِقها إلى عكا لتزور طبيباً اسمه خازن. فاستقلّ الحافلة بجانبها، وسار معها في شارع يسكنه اليهود، بثوبها البدوي ووشم أخضر يملأ وجهها. وعندما سمع عبدالحليم حافظ يصدح بالأغنية “بالأحضان.. وبقيت ماشي بوسط الناس متباهي بوطني فرحان”، شعر أنّ “حليم” يعبر عن فرحته بشوارع المدينة وسيره رِفقةَ أم عوض.
ذهب إلى عين البقيعة شرب وملأ “المطرة” وسقى الحصان، واقتنع أنّه هو أيضاً تمتع بطعم الماء، وصاح من دون صوت: “كل هذا الجمال لي”! جلس على تل وعرة من تلال جبل حيدر، تسيطر عليه الروائح العطرية. سمع “خشخشة”، فرأى حية قريبة، ظّنها نهايته، وخشي أيضاً أن تذهب للحصان. ثم تأمل وجهها مستكيناً تتسلق فرعاً يابساً على الأرض. شعر أنها “كافية الناس خيرها وشرها”، وقرر أن لا يؤذي يوماً حيواناً لا ينوي إيذاءه. بقي أياماً يفكر في الحية، وحركة لسانها من دون أن يخافها، وأراد معرفة المزيد. وفي دراسته الجامعية في بئر السبع، درس التركيبة الحيوانية في فلسطين، ورأى في جولة للتعرف على الزواحف “حية بيت جن” مجدداً. التقطها بعد أن عضت ساعده الأيمن، وتيقن أنها غير سامة، وبقيت آثار أسنانها على يده أياماً وحسب.
كان أستاذ الجامعة اليهودي قد عاش بين بدو النقب زمناً، فأتقن العربية، وتعلم معلوماتهم عن الحيوانات والزواحف، وأعطى للحية اسماً عبرياً “حية العملات”، لشكل الدوائر عليها، ولها اسم علمي. وأطلق شوقي عليها اسم “الدينارية”، وتبنى المشرف الاسم وكتبه في أبحاثه.
في إحدى رحلات شوقي، جاءه رجل، “رجل لا ينتمي إلى المكان”، قال له: “خبيبي روخ من هون.. هاي أرض ميشاني أنا...”.
لم يدرس شوقي الحيات وحسب (وثّق في كتابه “حيفا ليست قرطبة” أن هناك ثلاثة وثلاثين نوعاً من الحيات في فلسطين، ثمانية منها سامة، اثنتان منهما فقط خارج النقب، هما “الرقطاء” و“الأفعى”، وثمانية شبه سامة غير قاتلة، و17 غير سامة)، بل صارت الحيات تنام معه في الغرفة، حيث وضع حية في قفص لأنّها شرسة تعض غيرها من الحيّات أسماها “الحية الغضبى”. وفي مرة، اكتشف في قاعة المحاضرات حية حراشف دخلت حقيبته، وكانت عادتها كلما عاد لغرفته في سكن الطلبة أن تنام على صدره العاري. وحاول إغاظتها كثيراً لتعضّه ولم تفعل، ونفقت بعد ثلاث سنوات، قبل شهرين من تخرجه، وحزن عليها.
أسس قمصيّة الآن في بيت لحم متحف فلسطين للتاريخ الطبيعي، يذهب إليه الزوار وطلبة المدارس، ويجولون بريةً هي متحف.
نعرف العلاقة بين الأرض والحية ومزيجهما اللوني، ونعرف وشماً على وجه امرأة ذات ثوب، ونعرف طعم ماء، ونغني للوطن وعبدالحليم، وننتظر عودة من يبكي كل هذا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 66 / 2182104

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

26 من الزوار الآن

2182104 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 27


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40