الجمعة 29 أيار (مايو) 2015

هرمنا.. عندما لا نستطيع “النكوص”

الجمعة 29 أيار (مايو) 2015 par د.احمد جميل عزم

ندرس في علم النفس عن “النكوص”؛ عندما يعود الإنسان لمسلكيات وشكليات مرحلة عمرية سابقة، يعيشها الشيخ والعجوز المتصابيين، هرباً من حقيقة مغادرة سن الشباب بحيويته وجماله. كما يعود الطفل لممارسات تعلّم التخلي عنها، تكيفاً أو قلقاً من أخ أو أخت جديدين، يستأثران بالاهتمام. وقد يعود مُسِن إلى البكاء والتصرف كالأطفال، هرباً من إحباط يعيشه. ولكن، هناك ظاهرة أخرى، هي حالة فراغ تجعلنا لا نجد ما ننكص إليه!
في تقرير لوكالة أنباء “رويترز”، إبّان ثوران تونس، قال صاحب مقهى في منطقة المحمدية، يشرب الناس قهوته بأنواعها، مع الحليب ومن دونه، كلمةً اشتهرت كثيرا؛ إذ قال باكياً: “هرمنا من أجل هذه اللحظة”. وقال: “فرصتكم أيها الشباب التونسي أن تقدموا لتونس ما لم نقدمه نحن”.
قابلته الفضائيات بعد أن أصبحت كلمته شعار مرحلة، فقال: “الكلمة خرجت تلقائية.. فَجّرَت حياة كاملة مررتُ بها. عبّرَت عن مخزون للشباب التونسي”. ثم استدرك متذكراً أنّه لم يعد شابا: “ولرجال تونس في أيامات القمع طيلة 23 سنة”.
استفز مخزون أحمد الحفناوي، صاحب المقهى، في ذاكرتي مشاهد من سيرة اللاجئ الفلسطيني فيصل حوراني؛ عن شبابه المبكر مطلع الخمسينيات، عندما كتب عن مصبغة لتنظيف وكي الملابس منخفضة عن سطح الشارع في دمشق، كانت تجتمع أمامها مجموعة من الأهالي والأصدقاء يناقشون السياسة والشأن العام، وكيف انتمى هؤلاء ودخلواعدداً من التنظيمات السياسية وانتشروا في دروب الحياة العامة.
رأيت قبل أيام، رجلا وامرأة معروفين في دوائر العمل السياسي، يدخلان مقهى في رام الله. أول ما خطر ببالي: هل هما شابان؟! يبدو أنهما هرما! ارتباكي في تحديد وضعهما لا يتعلق بأنهما في منتصف العمر، بل بالمشكلة التي أبكت الحفناوي، وهو يتحدث عن بلده لا عن نفسه؛ “الفراغ والعمر الذي ضاع”.
كانت الخمسينيات مرحلة ما بعد الاستعمار، ومرحلة تأسيس الدولة العربية الحديثة. ففتح هذا بوابات للحراك العام، ولاكتساب الحياة لمعنى. كان تأسيس الجيوش والجامعات والأحزاب عالماً جديداً من تشكيل الحياة والمجتمع. فعدا فرص العمل والتعلم التي واكبت انتقال الشباب من بيوتهم وقراهم ومدنهم لعالم جديد، ما جعلهم يتبنون أنماط حياة جديدة، فإن ذلك أوجد فرص ارتحال وحب وزواج بين بنات وشباب من مناطق وخلفيات متباينة. وصارت مؤسستا الجيش والجامعة مكاناً لإعادة صهر الفرد والمجتمع، وللحلم بعالم آخر. وتآزر مع هذا الأحزاب اليسارية والقومية، ثم المقاومة الفلسطينية.
منذ الثمانينيات، مرت الحياة العامة بمرحلة ركود؛ فتقلص دور الجيوش الاجتماعي والاقتصادي كثيراً، وفقدت الجامعات من جاذبيتها ووظيفتها. وأدى انتشار الجامعات في كل مدينة ومنطقة، إلى تكدس أبناء هذه المناطق في مناطقهم، مع اكتراث أقل بالجودة. ونتيجة لذلك، عادت الطائفية والمذهبية والقبلية، وغزت حتى الجيوش والجامعات، بدل أن تكون هذه مصدر تغيير. واختفت الحراكات الجماهيرية والعامة، والحلم بعالم مختلف، ولم يعد يظهر قادة جدد، وحدث انكفاء على الذات.
جاءت الثورات العربية قبل أعوام كمن يقول إنّ هذا انتهى: “هرمنا بانتظار اللحظة”؛ وأنّ جيلا جديدا ينتفض ويأخذ قراره بيده.
عدت مطلع هذا الشهر من مصر، وقابلت أساتذة جامعة هناك من أعمار مختلفة؛ بين العشرينيات والستينيات. أحد ما قالته هذه “العينة” العشوائية، أن ألفاظ “ثورة” و“ثوري”، وحتى “25 يناير”، باتت تكتسب مدلولا سلبيا وتثير الشكوك.
من دون نقاش البعد السياسي لهذا، غاب شباب الثورة، بكل ما ارتبطت به مرحلتهم من تحد، وحب، وورد، وغناء، وأمان، وحلم؛ وباتوا إما في السجون أو مشبوهين، أو هاجروا وعادوا لحياتهم الشخصية الضيقة، لا فرق فيها بين خبير المعلوماتية في الشركة العالمية، وصاحب مقهى جميل، فكلهم يمضون أياماً في حالة وصفها علم الاجتماع بالاغتراب (Alienation)، حيث الشعور بالعجز عن التأثير في المحيط، فيكون الحل بالانكفاء على الذات وبقائها ونجاحاتها الفردية، وتمضية الأيام.
كم شخصا يشعر أنّ ربع القرن الفائت فارغ؟! سؤال برسم الإجابة. ومن كان لديه نشاطه العام قبل هذا، يجد ما ينكص إليه، ويقوله عن تلك الأيام. لكنّ هناك جيلا مستثنى من ذكريات حياة عامة، سوى الخيبات.
لكن الفراغ حالة لا تستمر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 74 / 2166101

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2166101 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010