الثلاثاء 17 آب (أغسطس) 2010

حـول القـدس بإيجـاز شـديد

الثلاثاء 17 آب (أغسطس) 2010 par د. عزمي بشارة

في أي خطاب قومي، فضلاً عن صراع قومي، يختلط التاريخ المقدس بالتاريخ الدنيوي. وللتاريخ المقدس مناسبات ومعارك وأعوام وأماكن للذاكرة، تتقاطع جميعها مع أحداث يريدها الوعي السياسي مفاصل تاريخية تشكّل الإدراكَ والشرعية وتصوغهما.

لا يختلطُ التاريخ المقدس بالتاريخ الدنيوي، كما يختلطُ في القدس. ومصدر التاريخ المقدس هنا هو نصوص مقدّسة إلهية تروي قصةً أو حكاية عن المدينة. وقد ساهمت هذه النصوص وهذه القصص في تشكل وعي شعوب كاملة عن التاريخ والقوى المتصارعة فيه، وعن الخير والشر، وعن مسار التاريخ وصولاً الى القارئ نفسه، ولو كانت هذه الشعوب بعيدة كل البعد عن المكان نفسه. فالمدينة حاضرة بشكل مركزي في فهم التاريخ كما نشأوا عليه.

أثَّرت بنيةُ هذه القصص في جيلٍ كاملٍ من المؤرخين الغربيين والمستشرقين الذين نشأوا على هذه القصص في البيت والمدرسة وفي الأدب والفن، وتعاملوا مع التوراة، وما يسمى العهد القديم كأنه كتاب تاريخ أو كأنه سيرة شعب. فبحثوا كـ «علماء» بالغين عن أدلة تثبته، وعن مواقع تؤكّده. وحفروا في الأرض وفي بالهم أن الموجودات هي مسميات لأسماء جاهزة في أذهانهم جراء تربيتهم الدينية التوراتية. والأداة هنا، منطق دائري، أو مغالطة منطقية يسند ذاته بأدلة تبدو مادية وعلمية. والمنتوج هنا إيديولوجي بشكل صارخ إلى حد الفظاظة. وهو سياسي في خدمة سياسات ترى سكان البلاد الحاليين في فلسطين سكاناً طارئين عابرين على التاريخ الفعلي المقدس.

[**فلسطين والتاريخ المقدس*]

هذا ما يجري بشأن فلسطين وفيها. وهذه هي الاستراتيجية الإيديولوجية المتبعة، اذا صح التعبير، لمصادرة فلسطين من أهلها. إنها الاستعاضة بحق تاريخي مقدس عن حق السكان الموجودين بفعل وجودهم المتسلسل والمتواصل منذ مئات وآلاف السنين كما يفهمون هم «ذاتهم» ويعرّفونها. وهي الناتجة عن اختلاط الثقافات والشعوب وتلاقحها على أرضهم منذ كنعان وحتى هيمنة الثقافة العربية الإسلامية مشكِّلةً بوتقة صهر في الوقت ذاته. انها استبدال التاريخ المعاش بتاريخ آخر، هو بنظر المستعمرين التاريخ الحقيقي والمقدس الذي يؤسس لكيان آخر، غير الكيان القائم، وعلى أنقاضه. هؤلاء ينتجون خطاباً إيديولوجيا، واعياً أو غير واع لذاته، ثم يعاد استخدامه في خدمة سياسية توسعية استعمارية.

ولّد هذا المجهود المنتشر من المبعوثين المدنيين للدول الاستعمارية في أيام الامبراطورية العثمانية، والمبشرين مروراً بالقادة الصهيونيين، وحتى آخر مراسل صحافي وصل الى البلاد، ردَّ فعل علمياً نقدياً، كاد يسيطر على الخطاب السياسي والإعلامي وحتى الجامعي الغربي، علاوة على «الإسرائيلي»، بخصوص فلسطين وحق اليهود التاريخي فيها. وتظهر الصهيونية الحديثة والمحدثة كممثل لهذا التاريخ اليهودي المفترض. ولا شك أن تفنيد هذا الخطاب بوسائل علمية تأريخية، وبالحجة والمنطق هو رد الفعل الطبيعية التي لا بد من تشجيعها، خاصة حينما يأتي من علماء في أقسام التاريخ والأركيولوجيا في الجامعة التي تخون الأمانة عندما تؤسس للتاريخ المقدس لدين من الديانات كأنه هو التاريخ العالمي. وهي تدري كيف يجري تسخير ذلك سياسياً في احتلال بلد وطرد أهله.

لكن ردة الفعل الأخرى تأتي من المقموعين المصادرة أرضهم والمشردين والمحاصرين بالمستوطنين وبهذه الروايات والأساطير التي تقتحم بيوتهم وحاراتهم وتهدمها، أو تعيد تسميتها وتقسيمها، أو تشردهم وتقيم بدل قراهم مستوطنات بأسماء توراتية، أو تحوّلهم الى أقلية في وطنهم، وتعتبرهم حرفياً مهاجرين وضيوفاً دخلوا «إسرائيل»، خلافاً للواقع الحاضر البديهي أنها هي التي دخلت عليهم. فمن يكتب تاريخاً مزوّراً هو نفسه الذي يميل عادة الى كتابة المزور عن الحاضر. وإذا كان يكذب ويشوه ما نشهده بأم العين فكيف نأتمنه على الماضي؟.

يكون رد الفعل أساساً بالمقاومة والصراع. وتستند المقاومة إلى شرعية الوجود على الأرض وإلى رفض الاستعمار باعتباره عملية سطو مسلح وعدوان. وهي لا تقوم، لا على القانون الدولي من جهة، ولا على التاريخ المقدس من جهة أخرى. لكن ردة الفعل المقاومة هذه تستدعي مصادر شرعية ووطنية ودينية وخطاباً مقابلاً للخطاب التوراتي وتاريخاً مقدساً آخر، أو قراءة مخالفة للتاريخ المقدس نفسه، للأمكنة نفسها. فهو يستثمر تراث الشعب وتاريخه ودينه في علمية المقاومة.

والمشكلة أنه كلما تبيّن عجز الدول العربية، أو تبين عدم رغبتها في مواجهة أو مقاومة «إسرائيل» (كقوة دنيوية قامت بالفعل الحربي والاستيطاني وبالتخطيط السياسي وبالتطبيق الاستيطاني وبعملية بناء الأمة والمؤسسات وكلها أمور دنيوية جداً) تلجأ إلى تضخيم دور التاريخ المقدس المعارض والمناقض للتاريخ المقدس الصهيوني، وازداد دور الإيمان في عملية التعبئة والتجييش لجماهير تلك الدول التي تقاعست عن القيام بدورها.

وبما أن القدس هي بؤرة التاريخ المقدس الصهيوني وعاصمته، خلافاً لتاريخه الدنيوي من بودابست وفيينا وباريس ووارسو وبريست ليتوفسك وأوديسا إلى «تل ابيب» و«الكيبوتس» و«الموشاف» و«جيش الدفاع»، الدنيوية بل العلمانية جداً جميعها، فإن عملية التعبئة الصهيونية بشكل خاص منذ العام 1967 تجري حول القدس.

وكل ما يسمى قدساً بموجب الخطاب الصهيوني الذي يلتقي في القدس بشكل مطلق، ويتطابق مع الخطاب القومي الديني، يصبح مقدساً وغيرَ قابلٍ للتفاوض. ولذلك فلا بد من توسيع القدس. وبعملية التوسيع هذه تتخذ الصهيونية وحكومة «إسرائيل» مكان الآلهة. فهي تسمي مناطق تبعد عن القدس عشرة كيلومترات باسم القدس أو تعتبرها جزءاً من القدس، فتصبح بذلك جزءاً من عاصمة «إسرائيل» الأبدية غير القابلة للتفاوض.

وفي مقابل ذلك تجري تعبئة إسلامية تتمحور حول الحرم القدسي الشريف، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وحول المخططات «الإسرائيلية» العلنية والمخفية بشأنه... ولا شك في أن الشعب الواقع تحت الاحتلال احتاج الى القدس أيضاً كرمز. وأصبح الحرم القدسي الشريف مركز حياة وهوية للمقدسيين بشكل خاص. فقد قُطِّعت أوصال مدينتهم، وتجري محاولة فصلهم عن الضفة الغربية. التي حُولت إلى مجموعة غيتوات فقيرة داخل مدينة يهودية، وحرموا من المؤسسات الوطنية داخل المدينة، كما حوصروا اقتصادياً بقطعهم عن محيطهم الطبيعي في الضفة الغربية. ولم يبق من مركز يشدهم معاً إلا الحرم القدسي الشريف فالتفوا حوله، ينشدّون كالعضلة في الدفاع عنه كلما اعتقدوا أنه يتعرض للخطر.

لكن، عربياً وإسلامياً، برز قصور هائل. ففي الوقت الذي يتم فيه اختصار فلسطين إلى «قدس» بمعنى إهمال ما يجري في بقية فلسطين، والقدس إلى الحرم الشريف بمعنى عدم الاكتراث بما يجري في احياء القدس من معاناة في ظل سياسة الأسرلة والتهويد، فإن هذا الاختزال يصب في مصلحة «إسرائيل» كمشروع مادي دنيوي على الارض. فهي التي أسرلت فلسطين والقدس كلها، ما عدا الحرم القدسي الشريف، الذي تجري تحته الحفريات التي تحكى قصة مدينة افتراضية تقام الآن للسياحة الداخلية والخارجية... وجلها مؤثرات صوتية وضوئية الكترونية لها علاقة بما يشبه البانوراما الحية في ديزني لاند اكثر مما لها علاقة بتاريخ القدس.

يجب أن يكون التوجه الديني الذي يلتقي مع الوطني والقومي في مقاومة الاحتلال معاكساً تماماً. فكل القدس هي حرم شريف، وكل فلسطين هي قدس. ويقضي الواجب الوطني والقومي والديني بصد كل عدوان على فلسطين. حتى القرآن الكريم يتحدث عن الإسراء الى المسجد الاقصى «الذي باركنا حوله». وأنا أدعو إلى التركيز على معنى «حوله» هنا.

ولنترك النقاش في من بنى الهيكل : سليمان أم داوود ام ملكي صادق، أم حتى سام بن نوح، واين امتحن الله ابراهيم بابنه على الصخرة؟ في القدس؟ أم عند الحجر الأسود في مكة المكرمة؟ فهذا النقاش لا يقلل من شرعية التاريخ المقدس اليهودي بل يؤكده من المنطلق النقيض طبعاً؛ يؤكده كخصم له حالياً، وهو متكلم بمنطقه نفسه حتى لو سمينا ذلك الهيكل المزعوم على هذه البقعة من الأرض مسجداً. كما يفعل مفسرو القرآن الكريم.

ومن هنا أدعو لرؤية ما جرى ويجري في القدس، حيث لا تعتمد «إسرائيل» الأسطورة فقط، بل القوة العسكرية والجرافة والبولدوزر والأمر الواقع والتخطيط والبناء وشق الشوارع وسكك الحديد لتكريس الواقع ولتحقيق الأهداف الدنيوية المبررة بالأسطورة وبالتاريخ المقدس.

لقد تغيرت القدس جذرياً في العقود الأخيرة. ولا شك في أن من ولد فيها قبل العام 1967، ويأتي لزيارتها اليوم يجد قدساً أخرى تماماً. هذا هو الواقع السياسي الذي أسس لرسالة الضمانات التي أرسلها بوش إلى شارون في نيسان 2004، والتي يؤكد فيها عدم واقعية عودة الواقع في القدس الى ما كان عليه قبل عام 1967، وهو ما دعا الأوروبيين مؤخراً بضغط «إسرائيلي» اميركي لتغيير اقتراح قرار سويدي بتقسيم القدس الى عاصمتين، بحيث غدا الاقتراح بعد التعديل ان تكون القدس عاصمة لدولتين... وأن يقرر الطرفان التغييرات والتعديلات على حدود الرابع من حزيران.

[**ماذا يجري في القدس حالياً؟*]

اتبعت «إسرائيل» الآليات الإدارية والإجرائية التالية في عملية تهويد القدس وضمها :

(1) اختراع مفهوم القدس غير القابلة للتفاوض بتحويل القداسة (يروشلايم، شل شمايم، القدس السماوية) إلى مفهوم سياسي.

(2) تتبع الرواية التاريخية التوراتية في كل حي وجبل وكهف في القدس بحيث تعاد تسميته ويستهدف للاستيطان واعتبار سكانه ضيوفاً تمهيداً للتضييق عليهم وطردهم.

(3) توسيع حدود المدينة كي تشمل القداسة «الإسرائيلية» المحتكرة وغير القابلة للتفاوض أكبر مساحة ممكنة من الأرض.

(4) مصادرة الأرض من العرب وبناء المستوطنات.

(5) تقليل عدد السكان العرب بالتهجير، وباعتبارهم مهاجرين دخلوا «إسرائيل»، ومصادرة «بطاقات الهوية»، أو، كما تسمى في «إسرائيل»، وثيقة الإقامة الدائمة في المدينة، بموجب قانون الدخول الى «إسرائيل».

(6) فصل المدينة عن بقية الضفة الغربية بواسطة تغيير مكانتها القانونية، وتمييز مكانة سكانها عن بقية مناطق الضفة، وببناء حزام استيطاني حولها، ومؤخراً بواسطة الجدار العازل المحيط بالقدس والمسمى بالعبرية «غلاف القدس».

منذ بدأ الانتداب البريطاني على فلسطين اعتبر المندوب السامي البريطاني القدس الغربية في الخريطة الهيكلية منطقة نمو وتطوير، في حين اعتبرت المناطق الواقعة شرقي المدينة خارج الأسوار مناطق بناء محدود، أما البلدة القديمة داخل الأسوار فقد حظر فيها البناء. وقد باشر الانتداب البريطاني في ضم مستوطنات يهودية الى القدس. أي أن فكرة توسيع المدينة لتشمل سكاناً يهوداً بأعداد أكبر، ومساحات بسكان عرب أقل، قائمة منذ تلك الفترة. فقد ضم الانتداب عام 1947 مستوطنة «بيت هكيريم» ومستوطنة «رامات راحيل» الى المدينة، وكانت الأخيرة، وما زالت، تبعد 4 كم عن البلدة القديمة. في حين تركت قرى عربية متاخمة لأسوار البلدة القديمة مثل سلوان والطور وصور باهر خارج الخريطة الهيكلية للمدينة، أي خارج تعريف المدينة.

وطبعا وسّعت «إسرائيل» المدينة في ما بعد لتصل إلى بيت لحم جنوباً ورام الله شمالاً. وباتت القدس هي الخريطة الهيكلية للقدس، أو مناطق نفوذ بلدية القدس. وخلط هذا كله بموقع اورشليم التوراتي، الذي كان اليهودي يختم صلاته به «لتنسني يميني إذا نسيتك يا أورشليم». فهل كان المقصود قدساً سماوية تلتقي الأرض في يوم الدينونة؟ أم المقصود أورشليم أرضية غير معروفة الموقع، ويصعب تحديد اين كانت، إذا كانت؟ لا ندري. لكن بالتأكيد لم يكن المقصود منطقة نفوذ بلدية القدس كما تتحكم بها الائتلافات الحكومية المختلفة في «إسرائيل» منذ الاحتلال.
فور انتهاء معارك حرب حزيران 1967 أعلن رئيس الحكومة ليفي أشكول توحيد شطري القدس. لكن الإعلان لم يجر بالصراحة التي تتم فيها المجاهرة والمفاخرة بـ «القدس الموحدة» في أيامنا. فقد كانت «إسرائيل» متهيبة من نتائج هذا الضم على الساحة الدولية. كما عارض أربعة وزارء من التحالف العمالي (المعراخ سابقاً) عملية الضم باعتباره قد يشكل عائقاً أمام السلام. وقد أصر مناحيم بيغن الذي كان وزيراً في حكومة الوحدة الوطنية تلك على الكلام جهاراً عن توحيد القدس. لكن كانت هنالك خشية من استفزاز المشاعر العربية والإسلامية والمسيحية أكثر مما ينبغي بعد تلك الهزيمة. هنا نعثر على الفن والمهنية «الإسرائيلية» في الصياغات التي تبدو إجرائية وجافة ومحايدة وعديمة الضرر. فكيف بدا نص القرار؟ هكذا قررت الحكومة «الإسرائيلية» في جلستها يوم 27 حزيران 1967 التي ضمت فيها القدس الشرقية إلى «إسرائيل» في مخالفة صريحة قائمة على القوة لما يسمى القانون الدولي الذي يحظر ضم الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها بالقوة : «إن تلك المساحة من أرض «إسرائيل» التي سيتم توصيفها في الملحق سوف تعتبر مناطق تطبق فيها أحكام القوانين والقضاء والإدارة النافذة المعمول بها في الدولة». طبعاً لن تجد في القرار كلمة القدس. وكل ما تجده في الخرائط الملحقة هو قطاعات صغيرة ملونة تدل على المناطق التي سوف «يطبق عليها القانون «الإسرائيلي»». ولن تجد كلمة القدس حتى في الكلمة التعليلية التي ألقاها وزير العدل أمام «الكنيست» لتبرير هذا المرسوم. لم يكن العناد ولا التباهي «الإسرائيلي» بالقدس قائماً في حينه. ويبدو أنه ازداد مع مرور الزمن، وتناسب عكسياً مع الرغبة أو القدرة العربية على فعل شيء، وطردياً مع تلون ما يسمى ايديولوجيا المجتمع الدولي ونفاقه.

أجاز «الكنيست» مرسوم الضم الحكومي، واكتفى بإدخال تعديلات على قانون «إجراءات الحكم والقضاء»، المادة 11 (ب)، وكذلك على قانون البلديات بما يتلاءم وهذا المرسوم. في تلك الفترة كانت «إسرائيل» تبخل بالكلام، ولكنها كانت تخطط وتعمل وتصادر الارض وتقيم المستوطنات. وكانت، بموازاة ذلك وما زالت، تدخل السكان العرب المحليين في متاهات العدالة والقوانين «الإسرائيلية»، حيث يصنع الإجراء بحد ذاته خبراً، أما النتيجة النهائية فتأتي دائماً لمصلحة من يصادر الأرض. والنتيجة التي تؤكد المصادرة في النهاية لا تصنع خبراً، فهي لا تدل على ديموقراطية «إسرائيل»، أما الامر الاحترازي الموقت الذي تصدره المحكمة موقتاً لوقف المصادرة حتى يأتي الوزير ويبرر للمحكمة فتصنع خبراً إعلامياً.

تصادر دولة الاحتلال الأماكن بموجب قوانين، وهي نفسها التي وضعت القوانين التي تصادر بموجبها، وتهدم بموجبها البيوت، وتغير تضاريس المكان والسكان. ولكن في غياب اي فعل عربي واي استراتيجية مواجهة بعيدة المدى، كما هي استراتيجية التخطيط «الإسرائيلية»، تحتكم الضحية إلى قوانينٍ وضعها الفاعل.

يوم 30 تموز 1980، أي في عهد حكومة بيغن، أقر «الكنيست» قانون أساس (أي بالعربية قانون دستوري) هو قانون «القدس الموحدة عاصمة «إسرائيل»» الأبدية. (ولنترك جانباً للحظة ذلك «الأبد» الذي تحوله «إسرائيل» كما تحول «التاريخ» إلى موظف أو مراسل عندها). كان بيغن قد طالب بمثل هذا القرار منذ أن ضُمَّت القدس. ولكن أتيح له سن القانون بعد توقيع أول اتفاق سلام مع دولة عربية هي أكبر دولة عربية. وفي إثر هذا القرار وُسِّعَت مساحة القدس البلدية من 6,5 كلم مربع إلى 71 كم مربع.

وفي العام 1993 جرى توسيع مدينة القدس مرة أخرى إلى 130 كم مربع. وفي العام 2005 أقرت الحكومة «الإسرائيلية» مخطط مدينة القدس حتى العام 2020 ويشمل أحياء استيطانية جديدة ومرافق وسكك حديد وشوارع ومناطق خضر، وبتوسيع قدره 40% كمساحة إضافية. وفي هذه الاثناء تحولت القدس الشرقية إلى مجموعة أحياء عربية تفصلها عن بعض مستوطنات، ويحيط بها ما يقارب عشر مستوطنات. وشارك في هذا الجهد إضافة إلى الدولة وبلدية القدس مؤسسات يهودية عالمية وصناديق تموِّل شراءَ الأرض والمنازل حيث تصعبُ المصادرة، وجمعيات يهودية تخترق الأحياء العربية بيتاً بيتاً، وذلك بمتابعة أصحاب البيت المتوفين وورثته الموجودين في الخارج، وبتزوير الوثائق والإغراء المالي وغيره. لقد واجه سكان القدس العرب، وهم من دون مؤسسات حقيقية، شبكةً من المؤسسات القوية الغنية والطويلة النفس. وبقيت لجنة القدس التي أقامتها منظمة المؤتمر الإسلامي بعد الاعتداء على المسجد الأقصى بالحرق مجرد منصة للخطابات والبيانات. وحتى هذه شحت في الآونة الأخيرة.

بين 1948 و1967 صادرت «إسرائيل» بموجب قانون أملاك الغائبين الأراضي التي يملكها العرب في القدس الغربية والبالغة 40% من مساحتها وجعلها في عهدة القيم على أملاك الغائبين، وهم المغيّبون المشرّدون في الحقيقة. وبعد عام 1967 صادرت «إسرائيل» الأرض في القدس الشرقية، وما زالت تصادرها لبناء مستوطنات قسَّمت أحياء المدينة في شرقي القدس بمستوطنات مثل «رامات إشكول» و«جفعات تسرفتيت»، و«هار هتسوفيم»، و«نفيه يعقوب»، و«جيلو» وغيرها. وفي الموجة الثانية تمّت المصادرات لغرض بناء مستوطنات تحيط بالقدس الشرقية من كل جانب مثل : «بسغات زئيف» و«متسودات زئيف»، و«هار حوماه»، و«معاليه أدوميم»، و«عطروت»، وهو الحزام الاستيطاني الذي يفصلها عن باقي الضفة الغربية، بما في ذلك تقطيع أوصال الضفة كلها إلى قسمين : شمال وجنوب يصعب التواصل بينهما. وقد جرت هذه المصادرات بموجب قانون المصادرة لأغراض المنفعة العامة في العام 1953. ويجري حالياً إغلاق هذا الحزام في ما يُسمى المنطقة «E» التي تصل معاليه أدوميم في الشمال الشرقي مع بسغات زئيف ونفيه يعقوب في الشمال الغربي.

وفي ظل الإيديولوجية الصهيونية يشكل بناء المستوطنات مصلحة عامة تبرّرُ مصادرة الأرض ممن لا يستفيدون منها، بل ان المستوطنات تقوم على أنقاض منفعتهم العامة، لتعلّمك «إسرائيل» أن القانون يمثل إيديولوجية، ويخدمُ مصالحها وأهدافاً سياسية. وحتى لو تصرف القانونيون، وكأن وظيفتهم غير سياسية، فهم سياسيون، ولكنهم سياسيون سائرون على سكة حديد محددة، يسيرون عليها، ولا يرون ولا يسمعون ما حولها. إن تفسير القانون الذي سنَّ لأهداف سياسية، والمرافعة بموجبه، والحكم بحسبه بشكل «موضوعي ومحايد»، إنما تعتبر نشاطات سياسية لا موضوعية ولا محايدة. وعندما تسلِّم المحكمة «الإسرائيلية» العليا بمثل هذه القوانين، وتحكم على أساسها، فإنها لا تحكم بحيادية ولا بموضوعية، بل تحكم كمحكمة احتلال «إسرائيلية» اي أداة رئيسية في تبرير وتغطية وتنفيذ عملية الأسرلة والتهويد وإزالة العوائق من طريق الاحتلال والاستيطان.

منذ العام 1967 استولت «إسرائيل» على 85% من أراضي القدس الشرقية التي كانت تحت الحكم الأردني بفعل قوانين تملّك ومصادرة مختلفة. وقد تواطأ القانون والقضاء «الإسرائيليان» منذ ضم القدس على واحدة من أكثر عمليات الخداع القانوني فداحة في التاريخ. فقد وافقت المحكمة العليا «الإسرائيلية» بمجرد صدور قرار الضم على أن يتم التعامل مع عرب هذه المدينة، سكانها الأصليين أباً عن جدّ، وأصحاب البيوت والأملاك فيها، وكأنهم قد دخلوا إلى «إسرائيل» كمهاجرين لتوّهم، والمعروف ان موعد هجرتهم الى «إسرائيل» هو يوم ضمت القدس إليها. وبما أن القدس، بما فيها بيوتها نفسها، صارت جزءاً من «إسرائيل»، فإن سكانها يُعتَبَرون، بسحر الفقه القانوني، وبين ليلة وضحاها كأنهم دخلوا بيوتهم ذاتها كمهاجرين. وهكذا قررت المحكمة في قضية الدكتور مبارك عوض أن الولادة في القدس لا تمنح المواطن العربي إقامة فيها بالضرورة، ولا تمنع إبعاده عن المدينة بسحب إقامته المسماة في «إسرائيل» «بطاقة هوية». وبموجب قانون الدخول الى «إسرائيل» يُمنَحُ المهاجرُ إقامةً، ولكن في حالة حصوله على إقامة في بلد آخر، أو في حالة حصوله على جواز سفر آخر، او في حالة مكوثه خارج البلاد أكبر فترة أكثر من سبع سنوات فإنه يخسر كمهاجر إقامته في البلاد. (وفي هذه الحالة يخسر الإقامة في بلده). هكذا بدأت عملية تطهير إثني لسكان القدس. وقد بلغ عدد المقدسيين الذي حرموا بطاقة الإقامة في بلدهم في العام 2008 وحده 4577 مواطناً.

ومؤخراً في أيار 2006 وافقت المحكمة العليا على قانون بدأ كمرسوم يتجدد سنوياً، ثم تحول الى قانون لا يَمنَحَ بموجبه الزواجُ من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الحقَّ بلمِّ الشمل والإقامة في «إسرائيل» بما فيها القدس، أي ان المقدسي او العربي من الداخل الذي يرتبط بإحدى بنات شعبه او التي ترتبط بأحد أبناء شعبها برابطة الزواج يجب عليه ان يغادر القدس عملياً اذا اراد او ارادت العيش مع العائلة.

وقد اتخذ القرار ببناء الجدار العازل حول القدس بطول 88 كم في اللجنة الوزارية لشؤون القدس في 11 ايار 2002. وفيما عدا فصله للبيوت بعضها عن بعض، وفصله لجانب من الشارع عن الجانب الآخر حرفياً، وإلغاء شوارع تاريخية مثل شارع القدس ـ رام الله، وتحويل احياء وقرى بكاملها الى معازل، فإن الجدار أخرج من القدس بين 80 و90 ألف عربي من حملة بطاقة الهوية المقدسية أو «الإسرائيلية».

وأخيراً في 11 آذار 2008 قررت الحكومة «الإسرائيلية» تسجيل عقارات فلسطينية في الطابو باسم اليهود الذين استولوا عليها من الحي المسمى «حارة الشرف» وهو الملاصق لحائط البراق (المبكى) والذي يتاخم الحرم. لقد شرد سكان هذا الحي، وهجِّروا من بيوتهم لإقامة ساحة الصلاة عند حائط المبكى أو الحائط الغربي للهيكل كما يسميه اليهود، وأصبح اسم هذا القسم من البلدة القديمة داخل الأسوار «الحي اليهودي». وجرت مضاعفة مساحته عدة مرات. ولكن مع عملية التسجيل بالطابو حوّلت الأملاك المصادرة الى ملكية خاصة للسكان اليهود كأفراد، وذلك في سابقة تتكرر حالياً في عملية خصخصة املاك الغائبين، أي عملياً تمليك أملاك اللاجئين داخل المناطق التي احتلت عام 1948، لتصفية قضية اللاجئين والقدس حتى من الناحية الشكلية. إذ أن «إسرائيل» تقوم ببعثرتها الى قضية ملكيات خاصة لأفراد مواطنين، بعد أن كانت اراضي دولة تعار لمواطنيها اليهود إعارة ولو لمدد 49 عاماً و99 عاماً.

ولكن هذه الخصخصة تتم بحماية الدولة وبتخطيطها، وهذه الخصخصة هي مشروع عام لتصفية ما هو عالق مثل قضية أملاك اللاجئين ومصير القدس الشرقية. ولكن الخصخصة التي تقوم بها الأنظمة العربية هي ترك فلسطين للفلسطينيين، وما تقوم به «السلطة الفلسطينية» هو ترك القدس للمقدسيين ليصبحوا كالأيتام على موائد اللئام.

ومن هنا لا بد من قلب المعادلة، كي تصبح القدس كلها هي حرم شريف، وفلسطين كلها هي قدس، وكي تكون القدس وفلسطين قضيتي الأمة بأكملها لا قضيتي الفلسطينيين وحدهم. في هذه الحالة يصبح المنزل المعرض للهدم قضية المقدسيين جميعهم، إذا كانت القدس قضية الفلسطينيين، وقضية فلسطين هي قضية العرب. وهو على فكرة، النهج نفسه الذي يترك الفقر للفقراء والمرض للمرضى والتعليم للأهل وحدهم. ولأن المنطق نفسه الذي يترك فلسطين للفلسطينيين والقدس للمقدسيين هو الذي يترك المرض مشكلة للمرضى والفقر مشكلة للفقراء فــي العالم العربي فإن قضية القدس تكتسب هنا رمزية من نوع آخر تماماً.

[(

[**قانون أساس : القدس عاصمة «إسرائيل» كما أقره «الكنيست» في 30/7/1980*]

1- القــدس الكاملة والموحدة هي عاصمة «إسرائيل».

2- القدس هي مقر رئيس الدولة و«الكنيست» والحكومة والمحكمة العليا.

3- تحفظ الأماكن المقدسة من انتهاك حرمتها ومن كل مساس آخر بها ومن أي شيء يمس بحرية وصول أبناء الأديان الى الأماكن التي يقدسونها أو بمشاعرهم تجاه تلك الأماكن.

4- (أ) ستحرص الحكومة على تطوير القدس وازدهارها وعلى رفاهية سكانها عـــبر تخصيص موارد خاصة بما فيهــا منحة سنوية خاصة لبلدية القدس (منحة العاصمة) بمصادقة اللجنة المالية في «الكنيست».

(ب) تعطى القدس أفضليات خاصة في نشاطات سلطات الدولة من أجل تطوير القدس في مجالات المرافق والاقتصاد وفي مجالات أخرى.

(ج) ستشكل الحكومة هيئات خاصة من أجل تنفيذ هذا البند.

يتسحاق نافون رئيس الدولة | مناحيم بيغن رئيس الحكومة)]


info portfolio

IMG/jpg/186_selwan_ns.jpg

الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 45 / 2181169

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2181169 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 35


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40