الاثنين 15 حزيران (يونيو) 2015

روائح الانتقام في حرائق العرب

الاثنين 15 حزيران (يونيو) 2015 par نسيم الخوري

نعم تنبعث روائح الانتقام من حرائق العرب في الشرق والغرب. انتقام هائل وحقد غير مفهوم حيال ما تختزنه أرضنا وتدمغ به سماؤنا من كنوز. فإذا كانت آلاف الضحايا التي غارت وتغور في أرض العرب غير قادرةٍ على النطق بما يحلّ في بلادنا، فإنّ الخرائب والمعالم التاريخية الصامتة التي كانت مدناً ومسحتها وتدمّرها شعوبها كما الجماعات التكفيرية بأسلحة الهدم المستوردة الفائقة الذكاء لن تقدر بدورها على مساعدة أحفادنا في قراءة تاريخ أجدادهم. تجاوزت النيران والمجازر في العراق وسوريا مثلاً حدود محو التاريخ والحضارات القديمة التي لطالما كنّا نبرزها كبطاقات هوية I.D.نفخر أو نعتزّ بها وتسمح لنا بأن نقعد فوق هذا الكرسي المرموق في صفوف وقاعات الحضارة ومنتديات الأمم.

لم تعد ولم تكن الحروب التي نشهدها على أيدي عابري القارّات المرضى من أكثر من مئة دولة في العالم نحو صحاري العرب سوى عنوان لمسائل وشياطين تسكن الإرادة البشرية والنفوس العربيّة والإسلامية بما يفوق الوصف. ولو دقّقنا في الكثير من الحروب التي تحوّلت في تاريخ البشرية إلى نوعٍ من الإفناء، نراها ترقد في أثواب الخوف السميكة التي تنتاب الأفراد كما تصاب بها الدول المستقرّة. فالخوف هو الذي يدفع الأفراد إلى الغناء بصوتٍ عالٍ في ظلمة الليل أو يدفعهم إلى الصفير لطرد الوحوش التي سرعان ما تنبت في الخيال وتصيبهم أحياناً كثيرة بشيءٍ من الرجفة والقشعريرة حتّى يبرز الضوء سواء أكان ضوء نجمة الصبح أو ضوء نارٍ أو مصباح. وإذا ما داهم الخطر أعزلاً تتضاعف قوته إلى درجة تصالح الحياة مع الموت، إن لم يتمكّن من الهروب أو الفرار أو الاختباء. تماماً هذا ما يحصل بالنسبة للعرب في انخراطهم في الحروب المتنقّلة من غصنٍ عربي الى آخر.
يمكن القول بأنّ الخوف والتوجّس هما في أساس الحروب بل هما البذرة الأولى التي تدفع إلى الزناد. زال هذا الخوف أو ذوى في أرض سوريا والعراق وتبدو الحروب بكلّ معانيها وأبعادها وتداعياتها الكارثية أليفةً لدى من يعايشونها على المستويات الأليمة كافةً. هل يمكن القول بأنّ المقاتلين في أرض الشام، على اختلاف فصائلهم قد أكلوا الحروب وقساواتها، وأفرغوا معاني الموت من مضامينه؟ على الأرجح. فقد جرّب اللبنانيون ارتياد ثقافة النار والقتل طوال عقد ونصف إلى حدود إلتهامهم لها، وأكثر من ذلك قد تسمع أو تشعر بالكثير من الحماسة غير الموصوفة لدى العديد من اللبنانيين في الحنين إليها، بالرغم من أهوالها التي ما زالت بارزة في المستشفيات والجمعيات ما بعد الحرب.

وإذا كانت الهيبة أو المكانة للدول هي البذرة الثانية التي تدفع إلى الانخراط في القتال إلى جانب التوجّس أو الخوف وتهديد الاستقرار، فإنّ ما يحصل في بلاد الشام أصبح في المنزلة الكبرى أو في البذرة الرابعة التي يمكن أن نجعلها في تربة الكيدية والانتقام. ويكون الانتقام سياسياً غير مباشر أو انخراطاً مباشراً أو بالواسطة إقليمياً ودولياً. وإذا ما سئل القارئ عن البذرة الثالثة التي لم نضعها فإنّني أشير هنا إلى هوامش المصالح الفردية والجماعية والإقليمية والدولية التي تتجمّع فوق جثث الدول الجريحة كما الحشرات فوق جثة حيوان نافق. وباسم الأمن والاستقرار تنفتح الأرض والنفوس على اقتناص المصالح والأرباح لكنها تغرق بالأطماع المادية فتطفو «ثقافة» تجارة السلاح المعلن وغير المعلن، وتصبح الحروب أثمن بابٍ لتحقيق جشع القتل كما الثراء السريع وتكديس الكنوز الفردية والدولية بهدف سعادة دول العظمة وضغوطاتها وألاعيبها وخدمة مصانع السلاح والشركات العالمية المعروفة والمجمّعات الصناعية التي تحترف صناعة وسائل القتل وطحن المدن.

قد لا أغالي في الإقرار بأنّ العبقريات الرمادية تفتّقت في هذا العصر عن أسلحة تتجاوز بمسافات مخاطر الأسلحة النووية التي بالرغم من أهوالها التي دمغت التاريخ البشري فإنّها أسلحة توازنٍ لحفظ مكانات الدول وتحقيقها يستعصي استعمالها. كيف؟
يخزّن العالم اليوم 22 ألف رأس نووي ويخزّن كلّ رأسٍ منها 33 ضعفاً لضخامة القنبلة النووية التي أسقطت فوق هيروشيما في 3 أغسطس/آب 1945. صحيح أنّ مستقبل البشرية مهدّد بهذا المعنى بمخاطر رئيس عالمي مجنون يصعب أن يفتح له الباب النووي عبر سبعة مفاتيح موزّعة على سبع مرجعيات عسكرية بما يجعله يهدأ ويجعل النووي سلاحاً عاجزاً غير قابل للاستعمال السهل، لكنّ الأصحّ أنّ التطور الهائل في تقنيات الأسلحة الأخرى يفسّر كتعويض عن العجز الذي تعيشه السلطات العظمى في الميادين النووية.

وفقاً لهذه البذور الأربع للحروب الممعنة في بلادنا يحق لنا التساؤل: كيف نعرّف كعرب ومسلمين عن أنفسنا في المستقبل البشري، وأية بطاقات نحملها مستقبلاً للتعريف بأدياننا وإنساننا وأوطاننا وتاريخنا؟ كيف نميّز نحن كبلاد منها انطلقت موازين التفريق بين الخير والشر عندما حبانا الخالق كلماته الثلاث من قبّة سمائنا العربية عن بلادٍ شاسعة تبلغ ميزانية السلاح النووي فيها خلال العقد القادم ما يتجاوز الألف مليار دولار بينما تتجاوز الميزانيات المرصودة لصيانتها 800 مليار دولار سنوياً؟ لو أخذنا فرنسا كمثالٍ متحرّك في عواصم العرب ونقاطها المشتعلة لوجدنا بأنّ ما يصرف في العام الواحد على صيانة عظمتها النووية من الصدأ يكفي لإقامة 20 مستشفى و180 مدرسة و150000 فرصة عمل. ولو دقّقنا أكثر لوجدنا هذه الميزانيات وغيرها قد سحبت من جيوبنا وأرضنا ومن أمام شعوبنا أثماناً للسلاح الحديث المتفوق على النووي لسهولة استعماله.
إلى أين من هنا؟
إلى إلقاء السلاح ومحو الحروب في الأذهان حفاظاً على منظومات القيم ومزامير السلام التي تنشدها أرضنا المشرقية... ولنا أن نأخذ العالم الغربي المفتونين به جهلاً بيده كي يتعلّم أصول التنمية والسلام وأبجديات الحضارة التي نعيش في قلبها ونغفل عن ضجيجها. فأن يحرق واحدنا ناقماً نبتة في أرض القيم فكأنّه يحرق بالتالي البشرية التي تتطلّع الى المستقبل.. أعني إلى الشرق مع كلّ فجر جديد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2165433

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع نسيم الخوري   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165433 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010