الخميس 2 تموز (يوليو) 2015

قلبي على سفرائنا في الخارج

الخميس 2 تموز (يوليو) 2015 par جميل مطر

أشفق على الفوج الأخير من السفراء المصريين الذين تقرر ترشيحهم للعمل في مواقع مهمة في الخارج.
أشفق عليهم وعلى دبلوماسيين غيرهم من مختلف الجنسيات. كلهم معرضون ليوم يتناقل فيه «الإنترنت» توقيعاتهم على مذكرات ورسائل مرسلة منهم إلى حكوماتهم في شأن ظنوا أنهم أحاطوه بأستار وابتكارات شفرية تحميه من عيون وعبث وتلاعب أطراف ثالثة. معرضون ليوم أشد وطأة من يوم وجدوا فيه جميع رسائلهم الشخصية المنقولة بالبريد الإلكتروني، وغيره من رسائل الاتصال في أيدي أغراب يقرأونها وينسخونها ويوزعونها، أو يحتفظون بها إلى يوم حساب.
مرت أيام لن تعود. كان السفير يكتب مذكرة ليرفعها إلى وكيل وزارة خارجيته، وهو واثق أن المطلعين عليها لن يزيد عددهم على عدد أصابع اليد الواحدة، أو اليدين، وبخاصة إذا تضمنت ما يمكن أن يثير فضول أجهزة أخرى غير وزارة الخارجية. أستطيع، وإن بصعوبة، أن أتماهى مع سفير هذه الأيام الذي يكتب مذكرة يعرف مسبقاً أن قراءها قد يتجاوز عددهم الألف، وربما المليون. أظن، بل لعلي واثق من، أن هذا السفير أو المبعوث الدبلوماسي الكبير، يقرأ مرتين أو ثلاث مرات كل سطر سطّره، وربما كل كلمة قبل أن يصدر أمره بتسليمها إلى «الإنترنت». المؤكد أن قراء هذا السفير صاروا بفضل تسريبات «ويكيليكس» أكثر عدداً وتنوعاً من قراء كتاب وأدباء عمت شهرتهم الآفاق، المؤكد أيضاً، والجديد في الوقت نفسه، أن مذكرات ورسائل هذا السفير صارت تترجم إلى لغات عدة وتحظى بتعليقات مهمة وتؤثر بشكل مباشر في صناع السياسة والرأي العام في دول كثيرة. كان حلم أي سفير أن يؤثر، ولو قليلاً، في فكر وقرار رئيسه المباشر، هو الآن يؤثر، من دون نية أو قصد، في فكر وقرارات رؤساء آخرين، وفي قطاعات رأي عام لم يفكر أنه سيصل اليها في أي يوم وتحت أي ظرف.
هذه السفيرة، أو السفير الذي أشفقت عليه حين علمت بأنه يتحرك من مكان إلى مكان في حراسة مشددة، لا يزور ولا يزار إلا بعلم الأمن، أمنه الشخصي والأمن الوطني وأمن الدولة المضيفة. ينام ويستيقظ والكاميرات المسلطة عليه لا تنام. ورد في رواية أحدهم عن فترة عمله في عاصمة عربية أنه اكتشف وجود كاميرا في حمام جناحه بالفندق. أضاف ساخراً أنه كان يقضي ساعات كل يوم وهو يحاول منع الاتصال المباشر بين جسمه وعدسة الكاميرا، قبل أن يقرر في النهاية نسيان الأمر برمته والعودة إلى ممارسة هواية الغناء الأوبرالي أثناء استحمامه غير عابئ بالصورة أو بمن يصور وما يصور.
ليس جديداً في عالم الدبلوماسية النقص في «خصوصية» الدبلوماسي وافتقاره إلى ممارسة الحياة بحرية مناسبة، الجديد هو الفقدان الكامل للخصوصية والحرية، إضافة إلى القيود الذاتية التي صار يفرضها التوقع المستمر لتسرب ما يكتبه. لم يعد الدبلوماسي آمناً على سرية المعلومات التي يتحصل عليها، ولم يعد واثقاً من أن ما يكتبه أو يوصي به اليوم قد يعود عليه بعد سنوات طويلة أو قصيرة بالضرر البالغ أو بسمعة جرى تشويهها.
ولكني أشفق أيضاً على الدبلوماسي، والمصري تحديداً، منذ أن أضيفت إلى مهامه مهمة جديدة، صعبة وسخيفة وثقيلة. الدبلوماسي المصري كدبلوماسيين من دول عدة، مكلف الآن بأن يقضي معظم وقته ووقت زملائه في السفارة يتابع الإرهاب بشتى أنواعه وألوانه ومصادره، ويدافع عن حكومة «بلاده» ضد اتهامات باستخدام القمع والعنف ضد خصومها. واجبه، كما نعرف وكما تعلمنا وكما علمنا، أن ينفذ ما يصدر إليه من تعليمات من دون مناقشة، فإن تصادف وكان للدبلوماسي رأي مخالف للتعليمات فليكتمه وينفذ ثم يعترض همساً إن شاء أن يعترض. أما إذا تحولت التعليمات لتصبح «استراتيجية دولة» وكان لايزال رافضاً لها فواجبه أن يستقيل إذا تعذر عليه التعايش معها وتنفيذها حرفياً.
صعب جداً أن يدافع السفير عن تجاوزات وممارسات قمعية أو غير إنسانية ومتعارضة مع روح القانون والدستور، خاصة إذا كان معتمداً لدى دولة ديمقراطية تلتزم حرية الكلمة والتعبير وتحترم القانون. صعب ولكن غير مستحيل. نادراً ما حدث، حسب علمي، أن دبلوماسياً مخضرماً يحترم مهنته ويلتزم أخلاقياتها وفنونها أوصى حكومته بزيادة استخدام القمع لحفظ الأمن، أو اقترح أساليب أشد عنفاً. هو يعرف، وحكومته يجب أن تعرف، أن مهمته العمل على نبذ العنف وتقديم الدليل على احترام بلاده والتزامها أخلاقيات التحضر.
الدبلوماسية، كما كتب دبلوماسي غربي مخضرم، هي خط الدفاع الأول عن الدولة، هي الترجمة الدقيقة «للاستراتيجية القومية». يقول شاس فريمان في مقال نشره بعنوان «أزمة أمريكا الدبلوماسية»، إن الدبلوماسية يجب أن تسبق العمل العسكري في التعامل مع أي موقف صعب مع دولة أخرى. هي الخطوة الأولى في الدفاع، وهي أيضاً الخطوة الأخيرة، فما من حرب تنشب وانتهت إلا وكانت الدبلوماسية جاهزة لتثبيت هزيمة الخصم في اتفاقيات ومعاهدات، وإقناعه بجدوى التعايش مع الوضع القائم الجديد رغم هزيمته. بمعنى آخر، الدبلوماسية، وليس المؤسسة العسكرية ولا أي مؤسسة أخرى، الجهاز المسؤول عن صياغة السلام. الآن يدرك الدبلوماسيون العرب، وإن متأخراً جداً وبعد تجارب باهظة التكلفة، أنه لا يجوز أن ينشغل الدبلوماسي عن مهمة تفادي الحرب وتسوية النزاعات وإدارة المفاوضات بمهمة تصعيد الخلافات وتعميق التوتر. ليس سراً أن بعض أقطارنا تستخدم دبلوماسييها في ما لا يجيدون، وأتمنى ألا يجيدوه، وهو التمهيد للحرب وتصعيد الخلافات وإثارة الأحقاد.
صديقاتي وأصدقائي، سفراء مصر الجدد، سوف يجدون في انتظارهم عقبة تسريبات ال«ويكيليكس» وغيرها مما سوف يستجد بفضل التقدم التكنولوجي المطرد. هم مطالبون أحياناً بتبرير ما قد يستحيل تبريره وهو من واجباتهم بشرط أن يحتفظوا بهيبتهم أمام الرأي العام، وهي الهيبة التي من دونها لا يمكن أن يحقق خلال مدة عمله في الخارج إنجازاً يذكر.
سيجدون في انتظارهم وضعاً جديداً في العمل الدبلوماسي صنعته ظروف ما بعد الحرب الباردة. أخص بالذكر ظاهرة تراجع مكانة الجهاز المسؤول عن صنع السياسة الخارجية في العديد من الدول لمصلحة مؤسسات الأمن المكلفة بحماية النظام الحاكم. سمعت من دبلوماسيين عرب وأجانب في كل مكان ذهبت إليه، الشكوى من أن مؤسسات أمنية وأشباه مؤسسات صارت تنافس وزارة الخارجية في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، وأغلبها يتدخل في صنع هذه السياسة. جاء وقت كانت الدبلوماسية تفخر بأنها ذراع الرئيس الأطول والأوحد في الدفاع عن سياساته الخارجية، وكانت لها الكلمة الفصل في قضايا حيوية تتعلق بالسلم والحرب والأمن. لم يعد الأمر كذلك. أكثر الدبلوماسيين المصريين تحديداً ضجوا بالشكوى من سلوكات إعلامية في وطنهم تنسف أولاً بأول ما ينجزون. صار مألوفاً في الإعلام المصري، والعربي عموماً، التعرض بالتشويه والإساءة لسياسات دول وثقافات شعوب وشخصيات حكام من دون وازع من ضمير أو فهم لمصلحة وطنية أو تقدير للتكلفة الباهظة التي تتحملها أرصدة الوطن السياسية، وهي أرصدة، أو ما تبقى منها بعد التبديد، منهكة.
دبلوماسيون آخرون يعتقدون أن معظم السلبيات التي أساءت إلى سمعة السياسة الخارجية المصرية، ودور مصر الإقليمي والدولي. كانت بسبب تدخل مؤسسات أمن مصرية في إصدار توجيهات مباشرة للدبلوماسيين تتناقض والتوجهات الاستراتيجية المتفق أو المتوافق عليها ومع تعليمات وزارة الخارجية ومصالح الوطن المتشعبة والمتشابكة. يعتقدون وهم على حق، أن الاختراق «غير المسؤول» لمسيرة تنفيذ السياسة الخارجية المصرية كانت سبباً رئيسياً في انحسار مكانة مصر ثم في تدهور «هيبة الدولة» في مصر، ومن ثم في ثورة نشبت لاستعادة هذه الهيبة.
كثيرون في مناصب القيادة في الدبلوماسية المصرية، كما في غيرها من الدبلوماسيات العريقة، واثقون من أنهم الأقدر على لعب دور مهم في تعزيز هيبة بلادهم، لو أعيد لقوى الحكم توازنها واستعادت السياسة الخارجية مكانتها، وحلت درجة أعلى من الشفافية محل الدرجة القصوى من التكتم والتعتيم الحاكمة للعلاقات بين مؤسسات الدولة. أتوقع أن تحاول الخارجية المصرية أن تنشط خلال الفترة القادمة من أجل تثبيت مكانتها بين غيرها من المؤسسات التي تسعى كل منها لملء مساحة أكبر من قدراتها وإمكاناتها ودورها في إعادة بناء الدولة. أتوقع أن يتقدم الدبلوماسيون الصفوف ليكونوا أول من يعلق في الإعلام على الأحداث الخارجية. أدعوهم لزيارة الجامعات الإقليمية في كل أنحاء مصر للاستماع إلى «الناس» أصحاب المصلحة الحقيقية في تنوع علاقاتنا العربية والإقليمية، وإرضاء فضولهم عن السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي.
لن يغفر التاريخ، ولن تغفر الشعوب للدبلوماسيين خطأ تقع فيه مؤسسة من مؤسسات الدولة أثناء ممارستها علاقات مع الخارج. لاحظنا كيف ألقوا على الدبلوماسية المصرية بتبعة أخطاء ارتكبها هواة أثرت سلباً في زيارة رئيس مصر لألمانيا. تابعنا أيضاً، بكثير من الانزعاج، الهجوم الذي تعرضت له الدبلوماسية النيجيرية، عندما ارتكب رئيس نيجيريا في ألمانيا خلال انعقاد مؤتمر قمة السبعة الكبار أخطاء جسيمة. منها أنه خاطب المسؤولين الألمان كممثلين لدولة ألمانيا «الغربية» غير مدرك لحقيقة أن هذه الدولة اختفت من الخريطة قبل ربع قرن لتحل محلها ومحل المانيا «الشرقية»، دولة ألمانيا الاتحادية. من الأخطاء أيضاً أنه نادى على السيدة ميركل بالسيدة ميشيل، واعتبرها رئيسة الجمهورية وليست مستشارة ألمانيا. لم يكن مفاجئاً، وإن كان ظلماً بيناً، إلقاء المسؤولية كاملة على الدبلوماسية النيجيرية التي لم تلقن الرئيس المعلومات الأساسية المتعلقة برحلته إلى قمة السبعة العظام.
أشفق عليهم، صديقات وأصدقاء، وعلى كل الدبلوماسيين العرب، كلما خطر ببالي أنهم مطالبون بشرح طبيعة ما يحدث في الشرق الأوسط، ومطالبون بتفسير ما وقع من ثورات خلال «الربيع العربي» وما وقع لها، ولا أظن أن كثيرين منهم سوف يلجأون لنظرية المؤامرة استسهالاً أو تهرباً، هم يعلمون بأنهم إن استسهلوا أو تهربوا كعادة بعض القوم هذه الأيام فقدوا احترام سامعيهم، وربما أغلقت في وجوههم مصادر معلومات وشبكات علاقات طوال مدة إقامتهم.
كانت، ولاتزال، فرصة رائعة لدبلوماسياتنا العربية مراقبة تجربة المفاوضات المثيرة التي تقودها الدبلوماسية الإيرانية مع دبلوماسيات الدول العظمى والخبرة التي تولدت عنها، وكانت، ولاتزال، مقارنة مفيدة تلك التي يجب أن نجريها بين سلوك الدبلوماسيين الأتراك في سنوات انتعاش السياسة الخارجية التركية تحت شعار «صفر مشاكل»، وسلوكهم الراهن في سنوات الانحسارمنذ أن اتخذوا موقف الدفاع عن القمع في بلادهم وتجاوزات حكومتهم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2181429

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع جميل مطر   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2181429 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40