الخميس 9 تموز (يوليو) 2015

​جولة في غانيه تال !

الخميس 9 تموز (يوليو) 2015 par د.عادل محمد عايش الأسطل

غانيه تال أو جانيه تال – ج مصرية- أي تل الحدائق أو تل الجنّات- هو اسم لإحدى المستوطنات الإسرائيلية من مجموع ألـ 21 مستوطنة التي كانت جاثمة على أراضي قطاع غزّة، والممتدة على طول الساحل للمتوسط من بيت حانون شمالاً إلى مدينة رفح جنوباً، ولكنها كانت تتركز بكثافة على أراضي مدينة خانيونس، والتي بُدء العمل بها كنقاط استيطانية، منذ بداية سبعينات القرن الفائت، ترتيباً على فكرة أرض إسرائيل الكبرى، ومن ناحية أخرى للاستثمار الاقتصادي والتوسعة على السكان اليهود، وللضغط على العرب من أجل كسر لاءات الخرطوم التاريخية التي كانت اتُّخِذت للتو وتحديداً في أعقاب نكسة 1967، وإرغام العرب على التفاوض مع الدولة الإسرائيلية.
كان الانتقال إلى مزارعنا الماكثة بالقرب من شواطئ خانيونس، لا يستغرق أكثر من نصف ساعة وسواء كان مشياً على الأقدام، أو على ظهور الحمير، باعتبارنا لا نقِل عنها قوّة في ذلك الزمان، من خلال طرق تم رسمها في الصحراء الصغيرة وعلى طول كثبانها الرمليّة، قبل قيام الإدارة المصرية بغرسها بأشتال الأحراش، بهدف مكافحة التصحّر والاستفادة من بيئة خضراء، وعلى الرغم من أنها لم تسلم من المحتطبين ورعاء الشاء، إلاّ أنها أصبحت غابة ممتدة، بعد تأليف طاقم من الحراس الجائلين يصفرون على الحمير والجمال، لطرد المعتدين عليها والمغتصبين لحرمتها، والتي بقيت على ذات الحال، حتى انهيار الإدارة المصرية في أعقاب العدوان الإسرائيلي عام 1967.
إلاّ أنّنا اضطررنا إلى بذل المزيد من الوقت والجهد، بسبب عملية الالتفاف نحو طرقٍ أخرى للوصول إلى المزارع، بعدما صحونا على أنباء تفيد بأن هذه المنطقة والتي تزيد قليلاً عن 2كم 2، محظورُ التجوال فيها، بأمر صادر عن قيادة الجيش الإسرائيلي، والذي سارع إلى وضع علامات بائنة، وتسويرها بالأسلاك الشائكة، ولم تمضِ بضعة شهور قليلة، حتى تم الشروع في إقامة المستوطنة، والتي تحمل الاسم أعلاه، من خلال تسوية المكان بأحدث المكائن والمعدّات.
نحن الفلسطينيين كمواطنين، كان لا يهمنا في ذلك الوقت وأمام المشهد الاستيطاني الواضح، سوى جمع الفروع والأغصان من أمام الجرافات الإسرائيلية، بهدف توفير المزيد من كميّات الحطب بعد الحرمان الطويل من اقتنائها، والتي كانت تصل إلى حدِّ حدوث معارك طاحنة بين المواطنين وأنفسهم، فيما لو تجرّأ بعضهم على ما يحتجره البعض الآخر، ولكن ذلك لا ينفي أننا كنّا نستمع بشراهة، إلى شعارات الشجب والاستنكار والتحذير العربية بخاصة.
كان بعض من هم أسنّ منّا، يسخرون من الإسرائيليين، بسبب أنهم يريدون الارتزاق من الصحراء باعتبارها قاحلة، حيث لا ينفع فيها الزرع، ولا يجمّ فيها الضرع، لكنهم فشلوا في اعتقاداتهم، عندما لم تمضِ بضع سنوات، حتى شوهدت (غانيه تال) وكأنها اسم على مسمى، (مدينة الأحلام)، حيث المساكن إلى اليمين تقابل شروق الشمس ومزارع متطورة منتجة تخضع لشروق الشمس وغروبها في آنٍ معاً، بلغ إنتاجها في المتوسط، أكثر من مليون دولار أمريكي في اليوم الواحد، بسبب أنها تنتج أنواعاً من خضار خاص، إلى جانب ميزة التصدير الفوري، بحيث تصل إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية في يوم قِطافها.
منذ افتتاحها تولى الفلسطينيون مسألة العمل بها، حيث احتوت أكثر من 5000 منهم، في ذروة المواسم، يعملون على مدار 8 ساعات، وهناك أوقات إضافيّة لمن يرغبون في تعظيم أرباحهم اليوميّة، وتجدر الإشارة إلى أن أي إصابة عمل، كان يقابلها المزيد من التعويضات والتي تكون خياليّة في بعض الأحيان.
كان المواطنون العاديّون والعمال بخاصة طليقي الحريّة، فيما إذا أرادوا الدخول إلى أعماق (غانيه تال) أو الخروج منها، ويكفي أن يراهم الحارس اليهودي بعينيه، والذي ربما يكون (المختار– العمدة) بذاته، كونه يحمل نصيباً من الحراسة، كأي مستوطنٍ أخر، وفي حال عدم الاطمئنان لأحدهم، يُطلب منه ترك البطاقة الشخصيّة، ويتم استرجاعها عند المغادرة.
ذات مرة دخلت إلى المستوطنة من البوابة الرئيسيّة، وكان وقت الظهيرة، للاطلاع على شيء ما، وكان الحارس قد غلبه النوم، ولما هممت بالمغادرة، انتبه وسأل فيما إذا كنت قد نسيت استرداد بطاقتي، بسبب عدم توجهي إليه، فأخبرته بأن لا بطاقة لدي وبأنه كان نائماً، فعجب قليلاً لكنه سرعان ما أمرني بالانصراف من المكان.
ظل الحال على هذا المنوال حتى ثلاث سنوات منذ سريان مفعول الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر عام 1987، حيث بدأت إجراءات التشديد في عملية الدخول والخروج، وتشديد آخر وبدرجة أكبر على طول الحدود حول المستوطنة تحسباً لحدوث أية أعمال ثورية ضدها (سكاناً وممتلكات)، وكانت تلك الإجراءات تتزايد كلما تصاعدت تلك العمليات، وكان حدث المزيد منها وسواء تلك التي تقوم بها المقاومة على اختلافها، أو التي يقوم بها مواطنون عاديون، بهدف الاستيلاء على أشياء أخرى، والتي ساهمت في إجراءات احترازيّة وانتقاميّة في ذات الوقت، تصل إلى إغلاق المستوطنة، حتى أمام العمال المعروفين أيضاً.
خلال الانتفاضة الثانية – انتفاضة الأقصى 2000- وصلت التطورات الأمنيّة إلى مناحٍ خطِرة ومُزرية في آنٍ معاً، عندما تم تشديد إجراءات الحراسة من خلال تشييد أسوار أخرى غاية في الغلوّ والتطور، فعلاوةً على تكثيف الدوريات المحمولة والراجلة، فقد تم تزويدها بمجسات إليكترونية حساسة، وكاميرات تصوير ليلية، واللجوء إلى كهربتها كإجراءات تكميلية قاتلة، فضلاً عن تشغيل أسلحة النار بصورة متواصلة ومكثفة ومخيفة، باتجاه أي متحرك ليلاً أو نهاراً، إذا ما تم الاعتقاد بأنه يُمثل تهديداً، والتي كانت تُصيب بصورة مباشرة، البيوت والممتلكات وخاصةً القريبة من المكان.
لم يسمح للعمال الفلسطينيين بالدخول، حتى الالتزام بالوقوف عُراةً حفاةً، في طابور طويل، والخضوع للتفتيش الدقيق لملابسهم ومتعلقاتهم الشخصيّة الأخرى، وانطبقت تلك الإجراءات على مدار الوقت وسواء كان صيفاً أو شتاءً، وصلت ذروتها بإغلاق الباب تماماً أمام الفلسطينيين، واستبدالهم بصورة نهائية بالعمال الأجانب، والذين تم جلبهم من دول شرق آسيا – تايلند، الفلبين، سيريلانكا ودول أخرى -، وبرغم أنهم أعلى سعراً وتكلفة، وأقل إنتاجاً، لكنهم كانوا يمثلون حلاً مهمّاً أمام نشاطات المقاومة والمشاغبين العاديين، بعد أن تلقّت عمليات اقتحام وتسلل ونصب كمائن، تم خلالها قتل إسرائيليين، وقنص الأشياء باعتبارها غنائم حرب.. اشتداد الهجمات العسكرية التي تقوم بها جهات فلسطينية مختلفة، وعلى رأسها حركة حماس ضد المستوطنات الإسرائيلية وخاصة (غانيه تال)، جعلت من الصعب أن تستقيم الأمور لسكان المستوطنات وجلبت المزيد من العثرات أمام التقدم في العملية السياسية الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والمترتبة على اتفاقات أوسلو، على الرغم من قيام السلطة الفلسطينية بتضييق الخناق ضد تلك الجهات، للحيلولة دون الاستمرار في شن المزيد من الهجمات، وقد قامت إلى نشر قوات عسكرية وشرطيّة للمراقبة وللمحافظة على الهدوء، ولكنها لم تكن فاعلة تماماً، حين اكتشاف أن تلك الهجمات لا توال مسامرّة، والتي كانت مفزعة أكثر للمستوطنين والجيش الإسرائيلي بشكل خاص.
في أوائل عام 2004، وفي ظل تحكّم اليمين الإسرائيلي بالسلطة في إسرائيل، في أعقاب فوزه بأغلبية مقاعد الكنيست في الانتخابات التشريعية، أعلن “أريئيل شارون” الذي كان ترأس الحكومة في ذلك الزمن، عن خطة فك الارتباط عن قطاع غزة، والتي تعني انسحاب الجيش الإسرائيلي، وإخلاءه تماماً من المستوطنين، مع إبقاء السيطرة على منطقة (دلفي) الحدودية مع مصر.
وللإشارة، فإن هذه الخطة، لم تكن خاضعة لبنات أفكار “شارون” وحسب، بل جاءت كنتيجة لأفكار متفرّقة بناءً على دراسات استراتيجية (سياسية وعسكرية) معمّقة، قام على أثرها “إيهود أولمرت”، في ديسمبر/كانون أول 2003، وكان حينها يشغل منصب نائب رئيس الوزراء، بالإعلان عن تلك الأفكار، في إطار خطّة فك الارتباط، وما سمّاها بخطوة إسرائيلية أحاديّة، وكان من جملة الدوافع باتجاه تحقيقها:
- تبييض الصورة الإسرائيلية وبخاصة اليمينية، والتي تراكمت عليها الأوساخ من كافة الجوانب، كون سياساتها باتجاه الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، أصبحت محلاً لانتقادات محلية ودولية صارخة، باعتبار أن إسرائيل تقوم بتقديم تنازلات مؤلمة من أجل السلام.

- حرف الأنظار عن أوضاع حقوق الإنسان المتدهورة في الأراضي الفلسطينية، بسبب الانتهاكات المتواصلة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد السكان الفلسطينيين، ومن ناحيةٍ أخرى، جلب المزيد من الوقت لعرقلة تنفيذ الرأي الاستشاري الذي صدر عن محكمة العدل الدولية، من خلال خلق حقائق جديدة على الأرض، والتي تشمل كافة أنحاء الضفة الغربية.

- الحصول على التأييد الأمريكي، بما يسمح بكتابة المزيد من المعاهدات السياسية والعسكرية والاقتصادية معها، والحصول على دعمها الكافي أمام الجهات والمحافل الدولية وخاصة ضد تلك الجهات التي ترغب في توجيه اللوم لإسرائيل، برغم علم الإسرائيليين بأن التأييد الأمريكي للخطّة لا يُعتبر نهائياً، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من خطة خارطة الطريق.

- تكفّل الولايات المتحدة ودول غربيّة وعربيّة أخرى بدفع التعويضات كاملة.

- زيادة الأمل في أن تؤدّى هذه الخطّة إلى زيادة الثقة مع الأنظمة العربيّة، والتقليل من كميّة العداء المتواجدة على مدار المدة الفائتة.

- الخلاص من الهجمات العسكرية الفلسطينية.

- تقليل النفقات الأمنيّة للمستوطنات.

- فقدان العامل الاقتصادي، بسبب زيادة تكلفة العمالة وقلة الإنتاج.

- ليس هناك ضرورة من استمرار السيطرة على منطقة القطاع باعتبارها ساقطة دينياً، سيما وأن لا أثر يهودي يمكن التعلل به للبقاء، وخاصة أمام أصحاب التوراة وقارئيها.

- تواجد فتاوى دينيّة، تفيد بقبول التخلّي عن أجزاء من أرض إسرائيل، درءاً لأخطار قد تصيب النفس اليهودية.

- والأهم، قطع الطريق أمام المجتمع الدولي، وإثبات أن إسرائيل هي من تصنع الحلول سعياً إلى السلام، والسلطة الفلسطينيّة هي التي تهدف إلى نسفه.

- كما أن الخطة في حقيقتها تعزز الاحتلال الإسرائيلي، والذي يمهّد لفرض السيطرة من خارج القطاع ولتسهيل فرض الحصار عليه.

- فضلاً عن أن من السهل إعادة احتلال القطاع، في حال لم تحقق الخطّة أهدافها، أو كانت هناك تهديدات مباشرة أو غير مباشرة والتي تهدف المس بالأمن الإسرائيلي.

أحدثت هذه الخطة ردود فعل إقليميّة ودوليّة، ومؤسسات مجتمعيّة وحقوقيّة رسميّة ومستقلّة أخرى، والتي كانت ما بين مُرحبة ومُنتقدة، بأن عجلة السلام بدأت في الدوران، وتم تصويرها على أنها مقدّمة لإنهاء الاحتلال، وهي تدور إلى الخلف لدى المعارضين لها والمُقللين لشأنها، باعتبارها إجراء أحادي الجانب، يتم خارج أي تسوية تفاوضيّة مع الجانب الفلسطيني.

أحدثت خطة فك الارتباط جدلاً واسعاً على المستوى الداخلي الإسرائيلي، فقد واجه رئيس الوزراء “أريئيل شارون” معارضتين حاميتين: معارضة حكوميًة، وأخرى استيطانية، على الرغم من تمرير الخطة على الكنيست الإسرائيلي، بعد القراءة الثالثة في 16 فبراير/شباط 2005، بأغلبية 59 مقابل 40 صوتاً وامتناع 5عن التصويت، وتجدر الإشارة إلى أن مجموع أصوات الأحزاب العربيّة المسجلة في الكنيست، هي التي رجّحت تمرير الخطّة.
فبعض الوزراء ومنهم من هم ينتمون إلى الحزب الحاكم نفسه، أعربوا عن معارضتهم للخطة باعتبارها ضارة بالاستراتيجية الإسرائيليّة ككل، وتنازلاً من غير حساب (للإرهاب والإرهابيين) من جهةٍ أخرى، وأعلنوا بأنهم يشعرون بخيبة أمل من سياسة “شارون” غير الحكيمة، والتي كانت مُخالفة بالمطلق لوعوده التي قطعها على نفسه قبل انتخابه، وعزز ذلك الشعور لديهم، رفضه عرض الخطة على استفتاء شعبي.
الأمر الذي اضطر “شارون” نهاية المطاف، إلى اتخاذ قرار بعزلهم عن الحكومة والاستغناء عن خدماتهم، ووصل به الحال إلى التنكّر لمساهماتهم في وصوله إلى الفوز برئاسة الوزراء، وبشأن تسمين سطوة حزب الليكود على الساحة السياسية الإسرائيلية، وبالنسبة لهم فقد خضعوا لقرار العزل حتى على الرغم من قناعتهم بمزايا الخطّة آنفة الذكر، بسبب أن المخاوف لديهم باتت أكبر من تلك المزايا، وفي ضوء أن أكثرها لم تخضع للحسابات كفاية، كما وأنها ليست مضمونة العواقب.
وأمّا المعارضة الاستيطانية، فقد كانت أشد وطأة، سيما وأنها بدت على صنفين (قومي- ديني)، وبغض النظر عن موافقة بعضاً من المستوطنين للمغادرة طواعيةً، مقابل التعويضات - الباهرة- التي كان الكنيست قد أقرها في أوقات سابقة، فقد تمثّلت معارضة أصحاب النظر القومي، في تخوّفاتهم من أن تُودي الخطة بالمصير المثالي للصهيونية، وتمثّلت نظرة أصحاب التوراة، في حُرمة التخلّي عن أي جزء من أرض إسرائيل.
في أعقاب صدور أمر احترازي من المحكمة العليا الإسرائيلية بوقف تنفيذ الخطة، في أعقاب تقديم المستوطنين طلباً لإحباطها، كان القرار داعياً لأن يبتهج معارضي الانسحاب من الإسرائيليين بشكلٍ عام، والمستوطنين بخاصة، الذين شرعوا بإظهار السرور والفرح، وسارعوا إلى مزاولة طقوس الانتصار، والتي على رأسها، نهوضهم بشراهة أكبر، إلى وضع حجر الأساس لأبنية استيطانية جديدة.
لكن احتفالاتهم توقفت تماماً، عندما بدأ الجيش الإسرائيلي مهمّة إخلاء من آثر البقاء قسراً، وخاصة الذين رفضوا مغادرة المستوطنات في الفترة ما قبل 15 سبتمبر/أيلول 2005، ونشأت في مقابل ذلك، مواجهات طاحنة وأعمال فوضى، والتي لم تسفر عن تأخير تنفيذ الخطة حتى دقيقة واحدة، وإن أسفرت عن أضرار ماديّة ومعنويّة والتي كانت ما بين خفيفة ومتوسطة.
السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس “أبومازن” وصفت الخطّة بأنها جيدة، ولكنها غير كافية إلى الحد الذي يُرضي الطموح الفلسطيني، وإن لخدمة المرحلة نفسها على الأقل، إلى جانب أنها كان يجب أن تكون ضمن العملية السياسية الجارية، وليس في إطار انفرادي ودون التنسيق معها، على الرغم من تواجد تنسيقات ظاهرة معها، باعتبارها قيادة فلسطينية جديدة، بعد أن كان “شارون” مصراً على عدم إشراك الجانب الفلسطيني، والرئيس “أبوعمار” تحديداً، بشأن تنفيذ الخطّة، بسبب اتهامه صراحةً برعاية وتمويل الإرهاب الفلسطيني، وبأنه ليس شريكاً للسلام.
ومن ناحيةٍ أخرى، قامت السلطة إلى التقليل والسخرية أيضاً، من أن المقاومة (حماس والحركات المنضوية تحت جناحها، وجهات نضالية أخرى)، كانت السبب من إقدام “شارون” على اتخاذ مثل هذه الخطوة وإصراره على تنفيذها، واستبدلت ذلك بأن السياسة الإسرائيلية هي التي قضت بذلك، نتيجة المخاوف من تصاعد الضغوطات الدوليّة باتجاهها، والتي ما فتئت تمثّل حرجاً أكبر لإسرائيل.
حركة حماس، اعتبرت أن الخطّة جاءت تحت ضربات المقاومة فقط، ومن ناحيتها، عملت على التقليل- إلى الحد الصفري - من العملية السياسية التي اعتمدتها السلطة، والتي استمرّت على مدار أكثر من 10 سنوات متتالية، باعتبارها مضيعة للوقت ليس إلاّ، وأردفت بأن المقاومة وحدها، هي السبيل الوحيد أمام الفلسطينيين لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ولتحرير الأرض والإنسان...
كان غياب آخر دبابة إسرائيلية عن أنظار مواطني القطاع الذين احتشدوا بكثافة بمحاذاة حدود المستوطنات، بمثابة جرس الانطلاق لمارثون فلسطيني مفتوح، نحو إمكانية الفوز بما يمكن الفوز به، من تلك الأشياء التي تركها المستوطنون، أو الجيش الإسرائيلي على حدٍ سواء، حيث لم تمضٍ ساعةً أو بعض الساعة، حتى أصبحت تلك المستوطنات أثراً بعد عين، وصل الأمر في نهاية المطاف، حتى إلى تقطيع الإسفلت ونقله إلى أماكن آمنة، وكان الدال عليها، هو علامات قليلة لا يلمحها سوى المتمرسون فقط.
الشرطة الفلسطينيّة اضطرّت إلى تغيير موقفها، بشأن إعلانها عن أنها سيقوم بالتصدّي لأيّة أفعال غير منتظمة، من خلال إطلاقها جملة من التحذيرات، بعدم اقتراب المواطنين من حدود المستوطنات، وذلك للمحافظة على النظام العام، وللتحذير من نتائج قد تضر بهم، كأن تكون هناك أجسام زرعها المستوطنون أو لتواجد بقايا من مخلفات الجيش الإسرائيلي، لتترك كلٌ في وجهته، إلاّ من بعض العراقيل الصغيرة، التي كانت مهمّتها توضيح بعضاً من الهيبة فقط، لكن كان واضحاً بأنها سلّمت أمرها إلى الله، بعد أن فشلت في إثباتها.
لم يكتفِ المواطنون باغتنام الأشياء المتروكة والتي كانت متواجدة بكثافة وفي كل مكان، بل قاموا بمحاولات الاستيلاء على الأراضي التابعة لتلك المستوطنات، باعتبارها أراضٍ حكومية – لا تزال مسجّلة باسم المندوب السّامي البريطاني - من خلال وضع أيديهم عليها، وذلك بعد معارك ومغامرات طاحنة بينهم أنفسهم، حتى أصبح بعضهم - الأقوياء – في عداد الإقطاعيين ولو إلى أجلٍ قريب، في أعقاب بسطهم سيادتهم على حفنة من الأفدنة، بعد أن كان لا يتحصّل إلاّ على قليلٍ من الأرض المسجّلة والمملوكة باسمه.
من داخل إسرائيل، وردت اتصالات متسائلة، فيما إذا بقيت المستوطنات كما هي؟ وكان الجواب كما يلي: للأسف (لا) لأنها لم تبقَ على حالها، إذ ليس هناك مجال للإنكار، سيما وأن الطائرات الإسرائيلية المسيّرة، التي ما كسلت برهة واحدة، عن التجوال في أعالي الجو، كانت تعرض صوراً متحرّكة إلى العالم ساعة بساعة توضّح بجلاء قطعة الأرض المحترقة، فضلاً عن جحافل الصحافيين الذين يصطحبون أطناناً من الكاميرات والمجاهر الرقميّة وعلى اختلافها، لأجل رصد الأحداث أولاً بأول، فمنها ما ترصد أعمال الخراب والدمار، ومنها ما ترصد السرور الفلسطيني لبلوغ بعضاً من أمانيه، أو لجلاء المستعمر الصهيوني عن جزءٍ مهم من أرضيه.
جميعها باءت بالفشل، عمليات الترقيع (الكسولة)، التي اتبعتها السلطة الفلسطينية، لأن تعود المستوطنات إلى سابق عهدها من العزّ والنماء، فبعد أن كانت تعول أكثر من 10 آلاف من المستوطنين اليهود الذين يشكّلون سكان تلك المستوطنات، ومثلهم أو أكثر من الفلسطينيين الذين يعتاشون منها، فهي لم تعُد تُدر ايّة دخول، لأنها ببساطة تم تحييدها، بسبب أنها لم تكن تشكل شيئاً ذا قيمة لديها ولا لدى أصحاب المال الماكثين في شمال القطاع وتحديداً في محافظة غزة، بسبب وقوعها في الجنوب، ولأن الجانب الزراعي بشكلٍ خاص، لا يحتل جزءاً من مركز الشعور لديهم، كالجانب الصناعي الذي يمتهنونه منذ الأزل، أو كالجانب التجاري الذي يحافظون عليه بشدّة، مع أن هناك نسبة من صغار المستثمرين كانوا قد وصلوا بالفعل إلى العمل، لكن الحظ لم يحالفهم.
تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن أكثر من 90% من تلك المستوطنات، تقع في منطقة الجنوب (الفقيرة بلا حدود)، والتي تبدأ من الأطراف الجنوبية لمحافظة دير البلح في الشمال إلى أطراف محافظة رفح الشمالية، وقد كانت أربع مستوطنات كبرى من مجموعة (غوش قطيف) تجثم على أراضي خانيونس- في الوسط – وهي (نيتسر حازاني، غانيه تال، نافيه ديكاليم، كاديد) إضافة إلى بؤر استيطانية صغيرة (ترفيهية، تقع على شاطئ البحر، أو ما هي نقاط مصلحيّة يقيم عليها بعض الأفراد المستوطنين).
من الأمور اللافتة، أنه وبعد عشرة أعوام من استلامها في العام 2005، وعلى الرغم من إطلاق اسم (المحررات) عليها (ككل) بدلاً من المستوطنات، إلاّ أنه لم يتم تغيير أسمائها لدى عامة الناس على الأقل، حتى خلال حكم حركة حماس للقطاع، حيث لم يتم التطرق لهذا الموضوع بشكلٍ جدّي، كما لم يتم تكثيف عملية الترقيع، لأجل نهضة المنطقة على الأقل، وإن كانت هناك بعض المبررات القوية لديها، والتي تتصل بالحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع وتداعياته، أو التي تتصل بعزوف المستثمرين عن الاحتكاك بها.
لكن تلك المبررات لم تكن فاعلة أمام الكثيرين من الناس، فضلاً عن أنها لم تسلم من الانتقاد الحاد ومن تحميلها المسؤولية أيضاً، وسواء كان ذلك خلال هبوط الأسعار أو ارتفاعها، باعتبارها السبب في خسران المزارعين عند هبوط الأسعار ترتيباً على فيضان إنتاجها، وكسر المستهلكين عند ارتفاع الأسعار، لتعمّدها جفاف ذلك الإنتاج.
حتى هذه الأثناء وبعد جولة بسيطة في داخلها، لا تُعتبر المحررات (ككل) مُجدية، لا لخزينة حماس ولا حتى لسكان الجنوب أيضاً، وبالمقابل، وعلى الرغم ممّا هي عليه من الشح والقلّة، فإن اليمين الإسرائيلي لا يزال مكلومًا، بسبب حنينه لأرض إسرائيل، وبسبب فشله من نوال الهدف من تركه لها وانسحابه منها، وكما يقول زعيم اليمين في إسرائيل “نفتالي بينت” ألماً وحسرة: بدلاً من الشرعيّة، حصلنا على تقارير وسلسلة لا تنتهي من العمليات الميؤوس منها، وبدلاً من الأمن حصلنا على صواريخ على مطار بن غوريون، وبدلاً من التطوير حصلنا على دارفور.
وختاماً، فإذا كان عزاء اليمين الإسرائيلي الوحيد في استفادته من خطة الانسحاب الشارونيّة، بعدم تكرارها مرّةً أخرى في الضفة الغربية، فهل هو كافٍ، عزاؤنا نحن الفلسطينيين في جلاء الإسرائيليين عن القطاع، وسواء كان رغبةً منهم، أو رغماً عنهم؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2178528

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع عادل الاسطل   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178528 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40