الخميس 19 آب (أغسطس) 2010

العملاء... وتحالف «الملائكة» مع الشياطين

الخميس 19 آب (أغسطس) 2010 par نصري الصايغ

[**I ـ بلد معروض للاستعمال الخارجي*]

عدد العملاء في لبنان يتكاثر. يقال : البلد مكشوف، أو، معروض للاستعمال، أحياناً بمقابل زهيد، وأحيانا بمقابل من دم. هذا الوصف غير دقيق. البلد مكشوف، لأن هناك من كشفه من الداخل، وعملية كشفه وعرضه للاستعمال الخارجي، ليست حديثة العهد، وإن كانت العهود الأخيرة، وفرت للحرام مكاناً لائقاً في مرتع الحلال.

عدد العملاء في لبنان متنوع وخصب ومن مستويات عدة واختصاصات مميزة ومتمايزة.. يتوفر في لبنان ما لا تجده في غير بلدان : العمالة فيه، ليست احتكاراً لطائفة أو مذهب، ليست اختصاصاً للمنبوذين والمعدمين في وطنهم اللاوطن. ليست حكراً على ذوي الدخل المحدود والأخلاق المعدومة. وجهة الاستعمال، لبعض اللبنانيين، ثرية جداً. لذا، طالت أناساً من مطارح مدهشة، علماً وتقنية وأمناً وتربية وسياسة... أي، عملاء، من كل الاختصاصات والطوائف والمذاهب وما تيسّر من مواقع رخيصة القيم.

إنما السؤال : لماذا هذه الكثرة؟ مئة وخمـسون ملفاً لعملاء جدد. ماذا عن عملاء لا يزالون خارج الملفـات؟ كم يبــلغ عددهم؟ العــدد مهم جداً، لأنه يدل على الرخص الوطني، على سقوط المحرم وانتشار المسـموح. ولأنه يشير إلى أن المسألة ليـست في الانكــشاف الأمــني فقط، بل في ان البلد مكشوف، بثقافته وسياسته وتساهله وطوائفه ومذاهبه واقتصاده وقيمه. ولأن هذا الانكشاف، يحرض ويغري على ممارسة الممنوع والحرام، ولو بلغ عند البعض، مرتبة الخيانة، التي تستحق الإعدام.

لبنان، من هذه الوجهة، حالة خــاصة. مشــاع للاستعمال... هذا لا نجده في أي بلد عربي. العمالة والتجسس استــثناء. انكشاف عميل يقلب بلداً رأساً على عــقب. عندنا، نقــلب الشفاه.. نقــول : معقول؟ وهذا يعني، ان العمالة معقــولة في نســبة ما. ثم ان انكشاف عميل واحــد في بلد ما، كل عــقد من الزمن، يثير استنــكاراً وإدانة... عــندنا، للعميل حضانات وأمل بتسويات، وأحكام قضائية تراعي «حساسية الوضع اللبناني»، انطلاقاً من فلسفةٍ، هي الأشد رخصاً وركاكة، «ما لبنان هيك!». وغالباً ما يُحوَّل ملف العمالة إلى محكمة النسيان.

[**II ـ الخيانة سياسة رابحة*]

من أين نبدأ؟ أو، هل يجوز أن نبدأ من السياسة أولاً، ومن السياسيين أولاً مضاعفة؟ أليس التوجه إلى البيئة الحاضنة للعمالة، تعميماً والتباساً؟ أليس الحديث عن ثقافة مبتذلة، استبدالاً لموقع متهم بمواقع مائعة؟ فلبنان، لا ثقافة تستأنس الحضور فيه. هو ملتقى ثقافات متعارضة ومتعادية. هو ملتقى هويات متناقضة ومتباذلة. هو انفتاح انشطاري، يستقبل «السلف» الصالح والطالح، و«الموديل» الحديث ويزايد فيه. هو مكان البحبوحة لاستهلاك القيم العليا والقيم السفلى. يتساكن فيه الشياطين مع الملائكة، ويعقدون فيه صفقات باسم السماء والآلهة معاً. هو عربي وفينيقي ومسيحي واسلامي وأصولي وحداثي واشتراكي وعولمي. وهو في الوقت نفسه، يقاتل «إسرائيل»، ويرفض الهزيمة ولا يستسلم. يتعرض للاجتياحات والاحتلالات، ويتحرر بقواه ودمائه... وهو أيضاً، منشطر بين ولاءات سياسية، بلغت حداً جعل الإقامة فيه، فوق قنبلة موقوتة.

المسألة في السياسة. السياسة كتعبير عن مصالح وأهواء وعصبيات. السياسة كحالة الغاء لغير السياسي أولاً، وجعل العلم في خدمة السياسة، والثقافة كأجيرة للسياسة، والصحة كعيادة ضرورية للاستثمار السياسي، والمدرسة كرصيد من كلمات وأفكار في النص السياسي، والجامعات كثكنات لتخريج ضباط ذوي اختصاص، يتعسكرون في السياسة.

كل ما في لبنان، هو في خدمة السياسة. والسياسة فيه تجارة طائفية، لها فروع في البلدان العربية والأجنبية.

وعليه، لا يشرب اللبنانيون من منبع واحد، لأسبـاب سياسية. لا يدرسون في كتاب واحد، لأسباب سياسية (وهي في جلها نفاق رائج ومتداول وكثير الأرباح). وإذا التقى اللبنانيون على أمر ما، فهو إما على زغل، نسميه التسوية الضرورية، وإما على مصلحة. ويؤمن الفساد المعمم، مصالح الأفرقاء جميعاً، أكانوا من عائلة «الملائكة» أم من أصناف الأبالسة.

الاقتصاد اللبناني وأمواله، لا ملائكة فيه. ولا نقول أكثر.

والقابضون على السياسة في لبنان، ليسوا كثرة. انهم أقل من أصابع اليدين. وهؤلاء، مسؤولون عن انكشاف البلد برمته للخارج، حتى كأن لبنان، قد فقد أوعيته الداخلية، وبات أجوف من جوانيته، ولا حياة فيه إلا بمقدار اتصاله بالخارج.

وفي هذه السياسة، يرى البعض ان الخيانة في لبنان، وجهة نظر. أي، لها ما يبررها وما يشرعنها.

وآمل ألا يُفهم مما جاء أعلاه، انني أسـاوي بين من يطلب الدعم الخارجي، لتحرير بلده، أو انشاء دولته الحقيقية، وبين من هو مستعد للتحالف مع الشيطان، ليهزم خصماً سياسياً أو تياراً سياسياً او تجمعات طائفية.

[**III ـ قبلة كونداليسا وسندويشات عوكر*]

لا حاجة إلى التفلسـف. بلد رخو ينتج «مواطناً» رخو الــولاء. لبنان، يعيش فيه شبابه حالة طلاق مع مصيره ومستقبله... يقولون : بلادنا الهجرة. وطننا، هو الاقامة خارجه. مستقبــلنا في بلاد مجهولة... مَن من اللبنانيين، يعنيه وطنه لبنان. اي كل لبنان. الأكثريات، يعنيها وطنها الطائفي، وليذهب الآخرون إلى الجحيم. أليس لأننا كذلك، نعيش في خوف دائم من الفتنة؟ أليس لأن سعادة فريق تقـوم في الأساس على بؤس الفريق الآخر. والأفرقاء في لبنان، أسسوا سياسـاتهم على الطوائف.

وعليه، لا وطنيَ فاعلاً في لبنان. ولا سيادة لقيم وطنية بالمرة. القيم الوطنية الصلبة، هامشية جداً. هي من صنف القيم «الكلوشارية»... هي قيم عليا مدانة ومداسة. قيم احترام القانون موطئ سخرية من الأكثرية. من يحترم القانون غير محترم أبداً. من يحاسب من؟ نحن في أبأس حال، ونتبهور بالحداثة. لا أحد يحاسب محميات طائفية/ مالية/ سياسة. بلغ عدد الفاسدين عشرات آلاف الاضعاف عدد العملاء. من يحاسبهم؟ عفواً، السؤال غلط. المفروض ان يقال : هم سيحاسبوننا. الفاسدون يحاسبون الأبرياء.

وطن، في قبضة حفنة من السياسيين المستهترين، وبلغ استهتارهم ان سفكوا دماءنا في حروب بلا هوادة. متنا نحن، ونجوا هم، ومطلوب ان نلتزم موتنا، وإلا حاسبونا على ما تبقى من كرامة حياتنا...

سياسيونا اليوم، سلالة سياسيين سابقين، قيل فيهم عن حق، إنهم من سلالة أبناء القناصل. والأصح، هم من سلالة خدم القناصل.. ويسألونك عن العملاء؟

فلنتفرس قلــيلاً بتاريخنا السياسي. قبل الاستقلال، كان حكامنا بنسبة 99 %، يأتون إلينا، إما من باب المندوبية الفرنسية، وإما من درج الجنرال سبيرز. كانوا يقيــمون الى موائد الأجــانب. كانوا رؤساء ورؤساء حكومات ومجالس... طبقة تدفع ثمن ارتهانها لقاء منصب سياسي.
نحن أولاد هذه الطبقة السياسية الملعونة... وبعضنا يحن إليها، لأن الطبقات الوارثة، أشد التصاقاً بالأبواب العالية، المنتشرة ما بين اميركا وبريطانيا وفرنسا و«المجتمع الدولي»، إضافة إلى الأبـواب الواطئة إقليمياً.

عرفنا «عائلات سياسيــة» ينام في مخـدعها كـل من «مر من هنا». تجلو دولة، فتنتظم العائلات في إعادة ترتيب بيوتــها، لينام في مخادعها، القادم الـجديد. وحــدث ان قدم ذات زمن، «الإســرائيلي» برمته، فنــام وأنجب له ذرية تشبـهه، منتـشرة في أكثر من تيار سياسي، على امتداد الخراب اللبناني... يستقبل أرييل شارون، وتذبح بيروت.

ومؤخراً، حدث ما يلي : كان لبنان يُقصف. تهجر أبناؤه من الجنوب والبقاع والضاحية. كان لبنان يحترق. «روما المقاومة» تدمَّر مرة أخرى. الناس في الملاجئ وتنتظر البواخر للنجاة. للمرة العشرين بعد المئة، كانت طائرات «إسرائيل» تقصف وتقصف، وكونداليسا رايس، تشد على زنود «الإسرائيليين» وتطالبهم بالمزيد...

وفي عز هذا الجحيم، حدث ما يلي : قبّلها رئيس حكومة لبنان. واستُدعي عدد من قادة لبنان، لوجبة سريعة في السفارة الأميركية، فلبوا جميعاً. في هذا الوقت تحديداً : شرب الجنود «الإسرائيليون» الشاي في ثكنة مرجعيون.

فمن حاسب من؟.. لا حساب، بل مكافأة. إنهم اليوم، كما في الأمس، أركان في السلطة.. لقد تجرأوا على محاسبة من كان يموت قهراً أو مقاومة. انها السياسة فقط. وسياسة لبنان يصنعها سياسيون متداولون منذ عقود. ولقد أنعم على هؤلاء السياسيين بشعب، أكثريته تغفر الخيانة، وتجد فيها عملاً ضرورياً ووطنياً.

العميل، مهما بلغت مرتبته ومكافأته، يقبض راتباً او منحة، ويبيع معلومات يستفيد منها العدو. فماذا عمن قبض ويقبض وسيقبض إلى دهر لبنان الداهرين؟

عندما تكون السياسة في لبنان بهذا الرخص وبهذه السوية، وتساوي بين العدو والصديق، تصير العـمالة، وهي خيار فردي حقير، أكثر يسراً.

[**IV ـ حل بعيد المنال*]

لبنان، بحاجة إلى زمن سياسي آخر، وسياسيين من جنس ديموقراطي، وهذا بعيد المنال، ليصبح بلداً آمنا بمقدار أمانته لقيم الانسان، (لا الطوائف)، ولقيم العدالة والمساءلة واحترام القانون.

لبنان بحاجة إلى لبنان آخر. النسخة المعروفة مضروبة، ملغومة، يسهل دخول فيروس العمالة والرخص والخيانة إلى ملفاتها الهامة. لبنان الآخر، المنتظر، لا إرهاصات له.

المقاومة بشرت بزوال الاحتلال، ولقد زال معظمه. لكن، على ما يبدو، ان لبنان الجديد الديموقراطي، ليس من اختصاصها، وأهل الاختصاص من الديموقراطيين الحقيقيين، ليسوا على قيد الحياة السياسية. فلنؤجل سؤال : ما العمل؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2178195

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178195 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40