الأحد 19 تموز (يوليو) 2015

إلى أين من فيينا؟

الأحد 19 تموز (يوليو) 2015 par عبدالله السناوي

في العمل الدبلوماسي هناك فارق جوهري بين التقدير والتسويق.
الأول يبحث في مواطن القوة والضعف والخطوات المحتملة التالية، بينما الثاني يعمل على إضفاء القوة وإخفاء الضعف ويغيب الحديث بجدية عن سيناريوهات المستقبل.
شيء من التسويق السياسي غلب أي اعتبارات أخرى فور الإعلان عن اتفاق فيينا الذي أبرمته الدول الست الكبرى مع إيران بشأن برنامجها النووي.
كل طرف حاول بقدر ما يستطيع أن يضفي على ما توصل إليه صفة «الانتصار التاريخي» الذي حرم الطرف الآخر مما كان يستهدفه في المباحثات المطولة.
بالنسبة إلى اللاعب الأمريكي الاتفاق هو «أفضل طريقة لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي»، بتعبير الرئيس «باراك أوباما».
الكلام على هذا النحو يتسم بالواقعية المفرطة، غير أن بقيته تنحو إلى التسويق الزائد لتخفيض مستوى الانتقادات التي تتعرض له إدارته من معارضيه الجمهوريين في الكونغرس.
في التسويق السياسي يقول «أوباما» إن «إيران تمثل تهديداً للمصالح والقيم الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم من دون سلاح نووي».
هذا كلام لا يقف على أرض صلبة ولا تسنده التوجهات الحقيقية.
فالاتفاق أهم إنجاز ل«أوباما» في سياسته الخارجية بما يتجاوز تطبيع العلاقات مع الجار الكوبي المشاكس.
في الجوهر، لم تعد إيران «دولة إرهابية»، ولا من «محور الشر».
بذات القدر لم تعد الولايات المتحدة «الشيطان الأعظم»، ولا«ممثلة الاستكبار العالمي».
ما هو رمزي ينشئ أوضاعاً جديدة في طبيعة العلاقة بين إيران والغرب قد تنتقل تأثيراتها إلى طبيعة النظام نفسه.
من المرجح الآن أن يحسم التيار الإصلاحي الانتخابات النيابية المقبلة.
بالنسبة إلى اللاعب الإيراني فهو يدرك أن الاتفاق «ليس مثالياً»، بحسب تعبير وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، غير أن مقتضيات التسويق السياسي دعت الرئيس حسن روحاني، إلى وصفه ب«النصر السياسي»، رهاناً على أن بلاده لم تعد «خطراً عالمياً».
وفي الحسابات الإيرانية، فإن أمامها فرصاً كبيرة لإعادة الاندماج في المجتمع الدولي الذي يبدو متأهباً لاتخاذ خطوات راديكالية في هذا الشأن، وإعادة التمركز في الإقليم على نحو جديد، اعتماداً على الطفرة المتوقعة في مواردها بعد رفع العقوبات المالية والاقتصادية المفروضة عليها.
هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية للطفرة المالية.
الأول: أن تصب في مشروعات وخدمات أساسية وتحسين مستويات المعيشة وتنشيط الاقتصاد، بما يستجيب لمتطلبات مواطنيها الذين خرجوا للشوارع للاحتفاء بما جرى في فيينا.
وهذه مسألة شرعية لا يمكن غض الطرف عن أهميتها القصوى.
الثاني: أن تستخدم الوفرة المالية في دعم حلفائها وتأكيد مكانتها الإقليمية.
وهذه مسألة مشروع إقليمي لا يمكن تصور أن تتخلى عنه.
الثالث: أن توظف قدراتها المالية في سباق تسلح جديد يستنزف الإقليم كله.
وهذه مسألة صراعات قوة لا يمكن تجنبها بغير تفاهمات سياسية تخفض من مستوى أزمات الإقليم.
بصورة أو أخرى، السيناريوهات الثلاثة سوف تتداخل، ولا يمكن استبعاد أي واحد منها.

أين نحن هنا بالضبط؟

لا توجد معلومات موثوقة تقول بوضوح عما جرى تحت الطاولة في فيينا من تفاهمات استراتيجية في ملفات الإقليم وأزماته.
فهل يعقل أن المباحثات كلها اقتصرت على جوانبها التقنية المعقدة من دون أن تصحبها أي تفاهمات استراتيجية؟

أكثر الأسئلة جوهرية الآن: إلى أين من فيينا؟

أو ،كيف يؤثر الاتفاق في تفاعلات الإقليم وحروبه ومآسيه؟

إيران تتحدث عن تفاهمات محتملة في ملف الإرهاب، أو بالأحرى الحرب على «داعش» كأرضية سياسية تجمع الذين وقعوا على اتفاقية فيينا. غير أن أي حديث عن مثل هذه التفاهمات بلا أفق سياسي أقرب إلى الأوهام المحلقة. فالذين يتشاركون في ميادين القتال لا بد أن تجمعهم أهداف سياسية لما بعد الانتهاء من العمليات العسكرية.
ما صورة الإقليم وعلى أي نحو قد تقسم دوله؟
من دون إجابة واضحة يصعب الاطمئنان إلى ما بعد الحرب.
بالنظر إلى الاستراتيجية الأمريكية فإنها تضع قدماً في الشرق الأوسط وأزماته، وقدماً أخرى في آسيا ووعودها الاقتصادية.
لا غادرت الأولى، ولا استقرت في الثانية.
قد يكون من بين أهدافها - في توقيع اتفاقية فيينا - أن تأخذ نفساً طويلاً يسمح لها بمثل هذه المغادرة، وفق ترتيبات جديدة لم تتضح معالمها حتى الآن.
وبالنظر لإيران فإن أولوياتها الإقليمية هي على الترتيب: سوريا ثم العراق فلبنان واليمن.
سوريا مسألة حياة أو موت، والقضية تتجاوز - من منظور الأمن القومي - مستقبل النظام السوري الحالي.
والعراق يدخل في أمنها القومي المباشر، بينما لبنان ساحة قوة ونفوذ في قلب المشرق العربي، واليمن مناكف استراتيجي بالقرب من الخليج.
أرجو أن نتذكر أن إيران تقدمت إلى مشروعها النووي في التوقيت ذاته الذي تمددت فيه أدوارها الإقليمية، وراهنت على نسج الحقائق في الإقليم المشتعل بالنيران من دون تعجل، كأي نساج سجاد يأخذ وقته الطويل قبل أن ينتهي من عمله.
وأرجو أن نتذكر أن إيران رغم كل الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها تقدمت إلى الإقليم عام (١٩٧٩) برؤية جديدة غير التي كان يتبناها الشاه محمد رضا بهلوي، وهو العام نفسه الذي انسحبت فيه مصر من قضاياه إثر معاهدة السلام مع «إسرائيل».
التاريخ لا يعرف الفراغ الاستراتيجي، وعندما تتخلى عن أدوارك فإن هناك من يتقدم لملئه.
أمام التطورات الجوهرية المقبلة في معادلات الإقليم نحتاج في العالم العربي إلى أمرين رئيسيين، وإلا فإن الأمور سوف تسوء أكثر مما هي عليه الآن.
الأول: أن تحسم الدول العربية الرئيسية، في مصر والخليج على وجه الخصوص، خياراتها المشتركة في الحرب مع الإرهاب، وأن تمتلك تصوراً استراتيجياً شبه متماسك لأزمات الإقليم وسبل الخروج منها.
بتعبير استمعت إليه من وزير الخارجية المصري «سامح شكري»: «لا توجد مواقف جامدة في أي حوارات دبلوماسية بين مصر والخليج».
التعبير برسائله إيجابي في وقت حرج يستدعى الحديث بجدية والاقتراب بصورة مختلفة من الأزمات المتفجرة.
الثاني: أن نأخذ مبادرة الحديث مع إيران بصورة شبه جماعية، تطرح القضايا كلها على الطاولة، مناطق الاتفاق وحدود الاختلاف.
إيران في النهاية مكون رئيسي على أي مستوى حضاري وتاريخي في الإقليم، وليست عدواً تقطعت معه سبل التفاهمات إلى الأبد.
إذا كانت تتحدث عن «آفاق جديدة للتعاون مع المجتمع الدولي» فإنها لن تقدر على تثبيت حضورها الإقليمي ما لم تكن هناك تفاهمات استراتيجية تفتح «صفحة جديدة» على ما دعت أطراف عربية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2180721

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبدالله السناوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2180721 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40