الأربعاء 22 تموز (يوليو) 2015

تطبيع كوبي يانكي بشروط غيفارية

الأربعاء 22 تموز (يوليو) 2015 par فيصل جلول

ليس استئناف العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية حدثاً عادياً بل محطة تاريخية، وحدث استثنائي في تاريخ أمريكا اللاتينية، خصوصا أن العلاقات المستأنفة لم تتوج بهزيمة النظام الكوبي أو انهياره من الداخل، وليست أيضاً تتويجاً لهزيمة بل لتراجع أمريكي في الصراع مع كوبا، فكيف ولماذا تم تطبيع العلاقات بين البلدين، وما سيناريو المستقبل بالنسبة لأحد أهم ما تبقى من أنظمة اشتراكية في العالم؟
لم تكن العلاقات الأمريكية الكوبية السيئة خلال نصف القرن المنصرم انعكاساً للحرب الباردة فحسب، ذلك أن المجتمع يتمتع بثقافة مقاومة للهيمنة والتدخل الخارجي في شؤون الجزيرة الداخلية منذ زمن بعيد.
فقد قاوم الكوبيون قروناً من الاستعمار الإسباني لجزيرتهم، ولم يرضوا باستبدال الإسبان بالمستعمر الأمريكي الذي سيطر على بلادهم مطالع القرن العشرين، ومنحهم الاستقلال وفق دستور ينص حرفياً على التدخل الواسع في شؤونهم الداخلية ومراقبة ماليتهم وعلاقاتهم الخارجية.
وكان من أثر هذا التدخل إلزام الكوبيين بتأجير قاعدة غوانتانامو للبحرية الأمريكية هذه القاعدة التي ينظر إليها الكوبيون، حتى اليوم، كجرح في كبريائهم يجب أن يلتئم بأقصى سرعة.
وكعادتهم في كل مكان استعمروه، حرص الأمريكيون على تأسيس لعبة سياسية في كوبا، تتيح لهم التحكم في مصير هذا البلد، وتحرمه من كل هامش مناورة استقلالي.
هكذا حولوا الجزيرة الكوبية ماخوراً حقيقياً وعاصمة لمافياتهم، وجعلوا اقتصادها يدور حول الماخور، فلا تعيش الجزيرة إلّا على إيقاع واشنطن وحاجاتها ورغبات نخبتها.
كان باتيستا الرئيس الكوبي الأخير قبل الثورة نموذجاً للزعماء الذين تُلوح بهم واشنطن لأمريكا اللاتينية هو الأفضل والأكثر طاعة، وبالتالي الأكثر «ديمقراطية» باعتبار أنه جاء إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع التي كانت تفوح منها رائحة الدعارة السياسية والتمييز العرقي والفساد العابر لضفتي المحيط.
وكان فقراء كوبا يتطلعون إلى الإطاحة بهذه الدمية، وهو ما وقع على يد 12 مقاتلاً بقيادة فيدل كاسترو وشقيقه راؤول وتشي غيفارا وآخرين.
ما كان بوسع هذه القبضة المصممة من الرجال أن تطيح نظاماً مدعوماً بأكبر قوة عسكرية في العالم، لو لم يكن الشعب الكوبي بأكثريته الساحقة يرفض هذا النظام وحماته، فكان دخول كاسترو في عام 1959 إلى هافانا مظفراً بعد شهور طويلة من قتال العصابات في جبال سييرا مايسترا، ومنها إلى المدن مِن بعد.
كوبا المنتصرة على اليانكي رفعت رأسها عالياً، وكادت، بعد سنتين، أن تتسبب بحرب نووية عندما استقبلت على أراضيها الصواريخ السوفييتية بعيدة المدى والتي يمكنها أن تصل إلى قلب الولايات المتحدة الأمريكية، وقد انتهت الأزمة بتسوية بين موسكو وواشنطن، خرج منها النظام الكوبي مظفراً ومحمياً، ولكن محاصراً حتى الموت.
وفي حين ظن كثيرون أن هذا النظام لن يعيش بعد نهاية الحرب الباردة فقد فاجأ العالم بصمود أسطوري إلى حد إغراء الأمريكيين بالتطبيع معه بدلاً من حصار بلا أفق، ويسمم العلاقات الأمريكية بمجملها مع أمريكا اللاتينية.
وعليه يمكن القول إن واشنطن ما كان يمكن أن ترضخ، وبالتالي تغلق الملف الكوبي لولا اشتراط معظم دول أمريكا اللاتينية الاعتراف بكوبا وكسر الحصار عنها لاستمرار الشراكة بين الطرفين.
بعد أكثر من نصف قرن رضخت أمريكا للأمر الواقع الكوبي وبادرت إلى تطبيع العلاقات مع الجزيرة دون تنازلات كوبية كبيرة، بل يمكن القول إن التطبيع تم على الطريقة الصينية، وبما يناسب الكوبيين والأهم بما يحفظ استقلالهم وكرامتهم الوطنية.
والظن الغالب أن تحافظ كوبا على مكتسباتها الوطنية وعلى نظامها المستقل بعد الانفتاح، مستندة إلى الثقافة السياسية المقاومة التي ميزت دائماً وعي الكوبيين والتي يمكن أن تحصنهم إزاء مغريات ما وراء المحيط، وتعينهم على الاحتفاظ بمكتسباتهم وإنجازاتهم الاجتماعية الكبيرة، ولاسيما المساواة بين السود والبيض، بالمقابل لم تقدم واشنطن تنازلات مهمة للتطبيع مع النظام الكوبي فهي لم تتخلَ عن غوانتنامو ولم تساوم على الكوبيين «البيض» الذين تعاونوا معها طويلاً من أجل إسقاط النظام الكوبي، ومازالت تضمر تقلب النظام الكوبي بوسائل كوبية ناعمة وبخاصة بعد الانفتاح السياحي والرأسمالي الذي يسهم بخلق طبقة وسطى ليبرالية تعمد إلى تغيير قواعد اللعبة، وبالتالي طي صفحة النظام الكوبي.

وثمة من يراهن في الغرب على انهيار هذا النظام بعد وفاة كاسترو وشقيقه راؤول إلى غير ذلك من السيناريوهات الافتراضية التي لا نرى مستندات صلبة على صحتها في المجتمع الكوبي.

من جهة ثانية، ربما يراهن الكوبيون على التغيير الأمريكي بعد انهيار نظام القطب الواحد وحاجتهم إلى شركاء جديرين في كل أنحاء العالم، وبخاصة أمريكا اللاتينية التي تغيرت وتتغير بالاتجاه الذي يرضي الكوبيين وليس واشنطن.
بعبارة أخرى يعتقد الكوبيون أن مقاومتهم للهيمنة الأمريكية فتحت الباب واسعاً أمام انتفاضات لاتينية مظفرة في أكثر من بلد وصعود رؤوساء اشتراكيين أو إصلاحيين إلى سدة الحكم، ينظرون إلى كوبها بوصفها قبلتهم وليس واشنطن.
قبل أقل من نصف قرن اغتيل تشي غيفارا أيقونة الثورة الكوبية أثناء دفاعه عن فقراء بوليفيا، ومن بينهم سكانها الهنود الذين لم يتنكروا لدماء هذا البطل التي سالت على أراضيهم وحملوا إلى سدة الحكم إيفو موراليس كصدى لشعار غيفارا الشهير «لكي نتغلب على الإمبريالية نحتاج إلى أكثر من فييتنام وأكثر من كوبا»، وإذا كان صحيحاً أن هذا الشعار لم يطبق بواسطة حرب العصابات فقد تحقق بواسطة الديمقراطية التي استخدمها اللاتينيون كسلاح فعال للوصول إلى الحكم وتغيير وجه القارة.
بعد أكثر من نصف قرن يحق للغيفاريين في كوبا، وفي مختلف أنحاء العالم أن يرفعوا شارة النصر، فقد صار رأس قارتهم مرفوعاً بوجه الهيمنة والظلم، كما أحب سيمون بوليفار، من قبل، وتشي غيفارا في القرن العشرين.. شكراً كوموندتي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 75 / 2165326

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع فيصل جلول   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165326 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010