الأحد 2 آب (أغسطس) 2015

رمزية تدمر

الأحد 2 آب (أغسطس) 2015 par د. حياة الحويك عطية

قبل سنوات زرت كوبنهاغن، وبالطبع ذهبت إلى المتحف، لأفاجأ بأنه يضم قاعة كبيرة مخصصة لتدمر وزنوبيا. حتى في الدنمارك ؟! لا كلام يعبر عن إحساس امرأة عربية في وقفة كهذه مع أصدقاء أوروبيين.
منذ خمس عشرة سنة وأنا أكتب في«الخليج» ولم أشعر يوماً بالعزاء وأنا أقرأ صحيفتي كما أحسست يوم صدرت الافتتاحية يوم سقوط مدينة الزباء بعنوان «رمزية تدمر» وكان تقييم القراء لها: خمسة نجوم.
لأنني كمواطن أرى رمزية تدمر، لأنني كامرأة أرى رمزية الزباء ولأنني كباحثة وككاتبة عملت كثيراً على هذه الحاضرة الفريدة في تاريخنا. كتبت عملاً مسرحياً عن الزباء وقدم في اختتام مهرجانات جرش لعام 1997. من لم يعمل مثلي ولم يقرأ ولم يزر، لا ينسى مسلسل «زنوبيا ملكة تدمر» الذي جمع وليد سيف، عدنان الرمحي، نضال الأشقر ومحمد القباني. أيام كانت الدراما العربية لا تزال تعرف أن إحياء رموز الفخار القومي بأسلوب حديث وراق هو واجب لا تحققه لا المسلسلات المدبلجة عن التركي والمكسيكي ولا المسلسلات المترفة التي تزيّن شخصيات غير قابلة للتزيين، رغبة في ضرب تجربة عبد الناصر مثلاً أو لتسخيف تجربة الخديوي إسماعيل. فيصبح منفذ قناة السويس مجرد رجل غارق في حقارات الحريم.
في علم الإعلام يقال إن الصورة لا تمحوها إلا صورة أخرى، ولذا حاول الغزو الإعلامي - الفني أن يمحو الصور المضيئة بصور الانحلال الأخلاقي والوطني والاستهلاكي. بالمقابل جاءت «داعش» لتمحو تلك الصور المضيئة من واقع الوجود مادياً، فلا تجد الجريمة من يحتج ويصيح إلا القلة.
هل يرى البعض أنني أبالغ إذ أؤشر إلى التحالف - لو غير المقصود بين انحطاط الفن والإعلام وانحطاط «داعش»؟ لا يحدثني أحد عن تطور تكنولوجيا المعلومات، ف“داعش” هي أيضاً أفضل من يستفيد من هذه التكنولوجيا. ولا يقولن أحد إن الدفاع عن تدمر واجب سوري أو إنساني ( بوصفها على قائمة التراث الإنساني ) لا، إنه واجب عربي، لأن ذاكرتنا هي المستهدفة، رمزية هويتنا هي المستهدفة، أجيالنا هي المستهدفة كي تصبح نبتاً شيطانياً بلا جذور، طفيليات بلا أرض، كائنات هلامية بلا ملامح، بشر من دون سلم قيم على كافة المستويات.
ليست تدمر هي الأولى، ولا ما حطمه هؤلاء البرابرة في العراق هو الأول، فقبلهم حطم الغزو الأمريكي عام 1990 مدينة أور ( إبراهيم) ومع احتلال عام 2003 جاء الطوفان الذي نهب ملايين القطع وحول مكتبات بغداد والموصل التاريخية إلى رماد ( مئتا ألف مخطوطة عربية أحرقت في مكتبة المخطوطات في بغداد ) منذ اللحظات الأولى كان عملاء الموساد الذين دخلوا مع الاحتلال يدقون بالأزاميل ألواح بابل، وخرجت الصورة في القليل من وسائل الإعلام. المخرج البرازيلي الذي حاول توثيق نهب متحف بغداد وتدميره، كان مصيره قطع الرأس وسلمت جثته إلى الأمم المتحدة قطعتين.
ليس التآمر على هذا الإرث العظيم جديداً، وليس “الدواعش” إلا الأكثر وقاحة، لنقل قمة المؤامرة، لأنهم ببساطة لا يمثلون رسمياً دولة تتحمل عبء جرائمهم، بل وللغرابة يحملونها للإسلام، إسلام الحضارة التي عملت على ترجمة كل علوم الأولين لتبني عليها حضارتها.
بدأ التدمير بأور كلدان واليوم آثار سوريا ومنها تدمر، فأية رمزية!
عندما قامت مملكة لؤلؤة الصحراء كان الساسانيون والرومان يتنازعون المنطقة فقرر أذينة أن يتخلص من الاثنين ويقيم مملكة العرب انطلاقاً من البادية السورية. قتل أذينة بعد أن أبعد الساسانيين حتى أرضهم، فورثته الزباء. رتبت أمورها مع الجيران وقررت أن تكمل عمل أذينة وتحرر بلادها من الروم فنجحت ووصلت مصر. لم يفشل مشروعها إلا بسبب الخيانة، خيانة بعض اتباعها ومستشاريها ممن اشترتهم روما أو اشتراهم جبنهم وخوفهم من طموح ملكتهم.
يوم سقطت تدمر، سقطت بعدها البتراء ومع سقوط الاثنتين سقطت جرش (في الأردن الحالي الذي كان زمن الرومان جزءاً مما يسمى: «سوريا المجوفة»). لماذا؟ لأن جرش كانت واسطة العقد في الخط الواصل بين البتراء وتدمر، قدر الجغرافيا الذي لا يستطيع أحد إلغاءه. من البتراء قرر الرومان التوجه إلى الجزيرة العربية، وفرضوا على وزير الحارث أن يقودهم لاحتلال اليمن. الوزير صالح قادهم في طرقات صحراوية متشعبة وتركهم، فضاعوا وسقط حلم احتلال الجزيرة.
من يستطيع تكذيب التاريخ ؟ حتى ولو وضع أصبعيه في أذنيه وقرر ألا يسمع دروسه ؟
دروس لا يريد أعداء هذه الأمة أن يتركوا منها شواهد، أن يتركوا للأولاد معلماً، أن يتركوا لأثدائنا حليباً نرضعه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2165958

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع حياة الحويك   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165958 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010