الثلاثاء 1 أيلول (سبتمبر) 2015

الإسفاف .. وقواعد الحوار

الثلاثاء 1 أيلول (سبتمبر) 2015 par د. فايز رشيد

من الطبيعي أن يختلف البشر في وجهات نظرهم، ذلك كان منذ بدء الخليقة، وهو موجود وسيظل ما بقيت حياة، ومادام هناك بشر يعيشون على وجه البسيطة، غير أن اللامعقول، أن يصل الاختلاف إلى حد الإسفاف في كيل الاتهامات، والأخرى المضادة بين شخصين يحملان وجهتي نظر مختلفتين، وأن يُجرى شخصنة هذا التعارض للهجوم على ذات الآخر، في محاولة تسفيهه وتحطيمه، والنيل منه ومن شخصه ومن معلوماته، إلى غير ذلك من أشكال بعيدة كل البعد عن احترام الرأي والرأي الآخر ومقولة فولتير عن (الاستعداد للتضحية ب«الأنا» في سبيل الرأي الآخر!)، بما يعمل على تحريف ثقافة الاختلاف، وضياع المعلومات (هذا إن وجدت)، وبقاء الصراخ كظاهرة، والشتم كحقيقة، والتشنج كمشهد ميلودرامي مقيت وكريه، بعيداً عن العقل والمنطق والحضارة، وأصول الاختلاف، بل يقع خارج إطار المنطق والمكان والزمان أيضاً.

تترافق هذه المسألة، مع قضية أخرى، وهي تقييم الآخر، فإذا كنا نحب إنساناً، نراه في صورة نقية ناصعة البياض بعيدة عن أي خلل، وإذا كنا نكرهه لموقف شخصي (على سبيل المثال)، نراه أسود بعيداً عن أية صفة إيجابية في ذاته أو في آرائه، فالتقييم لدينا إما أبيض وإما أسود، بعيداً عن التقييم الصحيح، الذي يقر بالإيجابيات والسلبيات، وهي الموجودة بالطبع في مطلق إنسان.
أي أننا ننفي وجود اللون الرمادي، الغريب هو انقلاب مواقف البعض منا مئة وثمانين درجة بالنسبة لتقييم ذات الشخص نتيجة لخلاف صغير في الرأي معه، فتنقلب صورته في ذات كل منا من صديق حميم إلى عدو غشيم وإلى شيطان رجيم!
مناسبة القول: ما نقرأه في بعض الصحف من لغة حوار (شوارعية) بذيئة، وما نشاهده في بعض برامج الفضائيات من أساليب اختلاف ممجوجة ومبتذلة، لا يستفيد منها المشاهد شيئاً، بل هي أقرب إلى مصارعة الثيران منها إلى لغة الحوار البشري العقلاني، وبخاصة بعد (حقن) طرفيها بعناصر الإثارة واستعداء كل طرف على الآخر!
مؤخراً زاد استعمال حتى الأحذية بين المتحاورين على الفضائيات، أحدهم لم يكتف برمي زميله (المفترض أنه كذلك) بالحذاء، بل سحب عليه المسدس، ولولا (فزعة) مقدم البرنامج لربما أطلق عليه الرصاص وقتله... لماذا؟ لأنه يختلف مع رأيه، ثقافة ما بعدها ثقافة!. تصور أنك إذا دعيت لحوار على إحدى الفضائيات العربية، فمن الضروري لك ارتداء سترة واقية من الرصاص وخوذة للرأس، وسدادة للأذنين من أجل حماية السمع لديك، ربما من احتمال تفجير قنبلة أو استعمال طلقة مدفع أو قذيفة صاروخ!
تصور أنك بحاجة إلى البحث عن أحذية مستعملة لاستعمالها في الحوار (فالأحذية البالية بمعانيها أكثر وقعاً من حيث التأثير)، فلربما يقوم محاورك برمي حذائه في وجهك، ومن أجل ألا تجعله ينتصر عليك (وهذا عيب في حقك)... عليك أن ترميه بحذاءين وذلك (حتى ترد الصاع صاعين) و(ما فيش حدا أحسن من حدا)!
ندرك أن عامل (الإثارة) هو وحده، الذي يتحكم في نشر أو مشاهدة مثل تلك الحوارات، والتي لا تعود بفائدة لا على المشاهد (الذي أصبح يترقب (الطوشة) ليتفرج عليها فقط من دون أي انتباه للحوار فهو أصبح لا يعنيه وغير مهتم بالمعلومة)، ولا حتى لمقدمي هذه البرامج إلا إذا كانوا يعتقدون أنهم (يؤسسون لمدرسة في الإسفاف؟ وإلا إذا كانوا يعملون على ترسيخ قواعد هذه المدرسة، وشخصياً لا أعتقد أن مثل هؤلاء البشر موجودون)، إلا إذا كانوا يعيشون الهاجس الشخصي وحب الإشارة إليهم بالبنان، بعيداً عما يدّعونه من أهداف.
تلك المقالات وهذه البرامج لن تعود بأية فائدة لا على فضائياتها الأم ولا على المشاهدين بالطبع.. وهي (إن استطاعت خداع كل الناس، بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، فلن تستطيع خداع كل الناس، كل الوقت)، والأجدر بالقائمين على تلك الصحف وهذه الفضائيات مراجعة النفس في مدى فائدة استمرار هذا النمط الإسفافي في الحوار، الذي استنفد أغراضه (الثانوية) منذ زمن طويل وأصبح عبئاً ليس على الفضائيات فحسب، وإنما على المشاهدين أيضاً.
الاختلاف هو ثقافة، والإسفاف هو أيضاً ثقافة (للأسف) والأخير هو حجة من لا يملك المعلومات، وهو دليل ضعف أكثر منه عنصر قوة، وإلا كان الرداحون في التاريخ هم أكثر من يملك المعلومات، وهذه المسألة مجافية للحقيقة.
المصابون بعقدة النقص هم الأكثر علواً في أصواتهم، وهم الأكثر ادعاء ب«امتلاك الحكمة والحقيقة المطلقة» وهم ليسوا كذلك، والمطلق بالطبع هو خارج القدرة الإنسانية، ف«جلّ الذي لا يسهو ولا يخطئ». هؤلاء هم المثقفون الدكتاتوريون، وقال عنهم المفكر العربي: محمد عابد الجابري: (يحتوون في أوساطهم من هم أكثر قمعاً إن تولوا المسؤولية من أكثر الدكتاتوريين تطرفاً)، ولذلك تراهم يضيقون ذرعاً بالنقد الذي يوجه إليهم، مع العلم أن واحداً من أعظم رجالات التاريخ العربي الإسلامي، وهو الخليفة العادل (الفاروق): عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، كان وهو خليفة المسلمين يفتح صدره للنقد من أي كان من عظماء القوم ومن أبسطهم، وهو لم يصغر بذلك، بل ازداد علواً وعظمة.
ألم يحن الأوان لبتر عملية الترويج لثقافة الإسفاف في الاختلاف؟ ولنلتزم بقواعد أخلاق الحوار.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165771

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع فايز رشيد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165771 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010