الجمعة 4 أيلول (سبتمبر) 2015

عالم ما بعد إيلان

الجمعة 4 أيلول (سبتمبر) 2015 par د.احمد جميل عزم

أنقب في التاريخ لأجد حالات لجوء جماعية كالتي يقوم بها العرب والمسلمون للغرب الآن، فلا أجد الكثير؛ ربما لأني غير مختص. ويخطر لي أنّ الشعوب كانت تتنقل دائماً، ولكن في محيطها القريب جغرافياً؛ كقصة تيه بني إسرائيل في الصحراء أثناء لجوئهم، وكالحديث عن هجرات قبائل من مناطق لأخرى. وتستوقفني حالة خاصة، هي هجرة القبارصة إلى فلسطين، وخصوصاً عكا، نحو العام 1750، حيث أسس ظاهر العمر الزيداني، حينها، دولة شبه مستقلة عن العثمانيين، اعتمدت على الانفتاح على العالم، وتذويب الفروق بين “المواطنين” وعدم الاكتراث لاختلافات الأصول والمنابت.
قام ظاهر العمر بنقل قبارصة من الروم الأرثوذكس، أسسوا كنائسهم، ومنحهم أرضاً لزراعتها. وجاء التجار الفرنسيون بكثرة نسبية للتجارة، وحتى للسياحة. ومن هؤلاء القبارصة من جاؤوا هرباً من طغيان حكامهم. وما تزال حتى لحظتنا هذه في عكا، بساتين تسمى “بساتين القبارصة”، كما يكتب عادل مناع في كتابه عن ظاهر العمر؛ وحيث يوجد -كما أخبرني أصدقاء من عكا- بستان القبارصة في قرية (البهجة)، وبستان الصيقلي (ربما نسبة لصقليا) في قرية الكابري. واستطراداً في هذا الموضوع، نتذكر أنّ حسيب الصباغ، أحد أشهر رجال الأعمال الفلسطينيين والعرب، وأحد مؤسسي شركة اتحاد المقاولين (CCC)، التي تعد من أكبر شركات المقاولات العالمية، ومشاريعها رائدة عالميا، هو كما يعتقد، حفيد ابراهيم الصباغ، الكاثوليكي، الذي كان وزيرا ومساعداً لظاهر.
في الوقت الذي يتحدث العالم في كل مكان عن عولمة المعلومات، والاقتصاد، والبضائع، والصناعة، فإنّ انتقال البشر يبقى الأقل. بل أريد للعولمة أن تقلل انتقالهم، كاختراع العمالة عن بعد؛ فلا بأس أن يقوم شاب في رام الله بالاتصال يومياً مع الزبائن الأميركيين يبيعهم عقارات من دون أن يعرفوا أين هو، ومحاسب من معان في الأردن يدخل حسابات الأميركيين لدفع ضرائبهم من حاسوبه في عمان، وشخص يتصل ليشتري ساندويش همبرغر من مطعم “ماكدونالدز” المجاور له فيرد عليه هندي تدرب على لهجة الولايات الأميركية التي يتصل منها الشخص، ويأخذ الطلب ويدخله في الحاسوب ليرسله المطعم. والنتيجة أن كل شيء ينتقل أكثر من البشر.
لعل مشاهد المهاجرين في محطات القطار في هنغاريا، وعلى شواطئ أوروبا، ووصولهم أحياء وأمواتاً، وهذا التدفق لهم عالمياً، يصبح محطة تاريخية في العولمة.
لاحظت أن جزءا كبيرا من التقارير الإعلامية التي غطت خبر صورة الطفل الكردي (إيلان كردي) الذي رماه البحر على شواطئ تركيا بعد غرقه، تخصصت في رصد كيف تعاملت شبكات التواصل الاجتماعي مع الصورة، أكثر منه مع قصة وحوادث هجرته وأهله. وهناك تغطيات لأثر الصورة على الرأي العام الأوروبي واحتجاجاته المطالبة باستضافة اللاجئين. وبدأ السياسيون، بمن فيهم رافضون عادةً للهجرة والمهاجرين، يطالبون بدمج اللاجئين بعجلة الاقتصاد، وبالتالي الحياة، بدل بقائهم من دون عمل.
هل سيأتي يوم يؤرخ العالم لهجرات العرب والكرد والأفغان للغرب؟ وهل تكون قصة إيلان وصورته واحدة من مشاهدها؟ ولنشهد مرحلة تاريخية جديدة من العولمة والتغيرات الديموغرافية والثقافية؟
لا شك في أنّ الغرب المتسامح نسبياً مع شعوب العالم، والغرب الذي يَقبَل النساء والرجال الارتباط والزواج بأشخاص من أديان وأجناس وألوان وثقافات أخرى أسهل مما نفعل نحن العرب والمسلمين وشعوبا أخرى، ليس هو الغرب الاستعماري ذاته، قبل الحرب العالمية الثانية. فقد مرت شعوب تلك الدول بالكثير من عمليات التفكيك والتركيب، وأسهم تنقلهم حول العالم، مستعمرين وطغاة، بردة فعل متدرجة ومعقدة، بدأت بالموافقة على قدوم أبناء الشعوب المستعمرة للعمل والهجرة للدول الاستعمارية السابقة، ثم دمج هؤلاء كنوع من التكفير عن الذنب. فضلا عن أن تدمير البنى الاجتماعية في الغرب لصالح الفردية (اعتماد الفرد على نفسه) خفف من أهمية الحسب والنسب واللون والدين في التعامل اليومي. من هنا، ربما نكون أمام مرحلة تاريخية جديدة.
لكن، لأن كل شيء خاضع لمراجعات وتدخل قوى مختلفة، ربما تضيع قصة إيلان وغيره، كما تضيع صور “سناب شات”! فمثلا، كانت عكا وظاهر العمر وفلسطين قصة عولمة واعدة، دمرها الحكم العثماني ثم الاستعمار الفرنسي، ثم المشروع الصهيوني، فماذا سيحدث الآن؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 63 / 2181440

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2181440 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40