الجمعة 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2015

مختارات الموقف

الجمعة 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2015

- قراءة في الهبّة الشعبية الفلسطينية

رامز مصطفى

مهما تكن قراءتنا للهبّة الشعبية التي فجرها الشباب الفلسطيني في وجه الاحتلال «الإسرائيلي» من دون قرار لتنظيم أو فصيل، – لا يعني أنها نقيصة للفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، فالانتفاضة الأولى عام 1987 لم تكن بقرار سياسي من فصيل أو مجموع الفصائل، بل جاءت رداً بشكل مباشر على عملية دهس متعمّد لستة عمال فلسطينيين في قطاع غزة من قبل أحد المستوطنين الصهاينة، لتتدحرج الغضبة الشعبية آنذاك نحو انتفاضة شاملة في القطاع والضفة.

إنني أرى في هذه الهبة بارقة أمل جديدة، وقد فتحت ثغرة كبيرة في جدار الأفق المغلق في وجه تطلعات شعبنا، الباحث عن نيل حريته واستقلاله الوطني الناجز فوق كامل ترابه الوطني فلسطيني. ودماء هؤلاء الشبان الفلسطينيين وتضحياتهم وكفاحهم في كلّ من القدس والضفة والقطاع والأراضي الفلسطينية المغتصبة عام 1948، هي من أسهمت في فتح هذا الأفق، ملقيةً حجراً كبيراً في مياه رتابة المشهد الكفاحي لشعبنا، الذي من شأنه قلب الكثير من المعادلات إذا ما استطاعت هبة شعبنا الإفلات من محاولات احتوائها نحو انتفاضة ثالثة، والمطلوب حمايتها من الوقوع في شرك التثمير السياسي كرافعة لاستئناف المفاوضات البائسة والعقيمة.

البعض حاول بشكل بائس أن يُظهر الهبة الشعبية للشباب الفلسطيني على أنها جاءت انعكاساً لحالة الإحباط واليأس التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وهذا البعض لم يمنح نفسه ولو لبعض من الوقت القصير قبل الخلاصة المشككة حدّ الاتهام أنها مجموعة محبطة ويائسة لا أمل أو مرتجى منها. واليوم وبعد أن وصل عدد أيام الهبة إلى الأسبوعين وعشرات الشهداء والجرحى، وأعمال مقاومة بما تيسّر لهؤلاء الشبان من أدوات ووسائل وأساليب تُعِينهم على مقارعة الاحتلال وإرهاب مستوطنيه، لتعمّ هبتهم سائر الأراضي الفلسطينية من أعمال الطعن والدهس وإلقاء الزجاجات الحارقة ورشق الحجارة، وحتى إطلاق النار على الحافلة التي يستقلها مستوطنون في القدس المحتلة. ماذا سيتفوّه هذا البعض عن الهبة الشاملة، التي تذهب حثيثاً نحو الانتفاضة الثالثة؟ هل سيبقون عند رأيهم أنّ هؤلاء ليسوا سوى شبان فقدوا كلّ أمل في المستقبل؟ أجزم أنه يتغيّر تبعاً للتطورات المرشحة نحو مزيدٍ من التأزم والتصعيد والمواجهة في ظلّ استمرار الاحتلال وحكومة نتنياهو في إجرامهم وتنفيذهم الإعدامات الميدانية بحق شبابنا وأطفالنا وفتياتنا ونسائنا، وارتفاع وتيرة الاستباحات والإقتحامات للمسجد الأقصى وتدنيس باحاته.

والبعض الآخر أطلق على شبان الهبة الشعبية توصيف «جيل أوسلو»، من دون أن يُدركوا أو لا يُدركوا، أنّ هذا التوصيف لا يليق بتضحيات ونضالات هؤلاء الشبان في تصدّيهم ومواجهاتهم لقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين المنفلتين بمواكبة وحماية الشرطة «الإسرائيلية» هذا أولاً، أما ثانياً فإنّ هؤلاء الشبان ليسوا «جيل أوسلو» الذين فرطّ وتنازل، بل هم جيل ما بعد «أوسلو»، الذي اكتوى بما جلبته هذه الاتفاقات من كوارث وطنية على عناوين القضية الفلسطينية، والتي تنازلت عن 78 بالمائة من أرض فلسطين، ومن كوارثها أنّ الاستيطان ازداد وتفشّى وانفلت بطريقة غير مسبوقة، وعاصمة فلسطين مدينة القدس تهوّد فوق الأرض وتحتها، والمسجد الأقصى يعملون على السيطرة الكلية عليه، وفوق ذلك حصار مطبق على قطاع غزة، وأعداد الأسرى في ازدياد، وتنسيق أمني وفّر على الاحتلال أن يكون احتلالاً مكلفاً، بل حوّله ليكون الأرخص بسبب هذا التماهي والإفراط في التعاون الأمني الذي لم يتوقف حتى اللحظة، ولو أنّ هذا الجيل هو جيل «أوسلو» لكان تطبّع بثقافته، ومُسحت «داتا» ذاكرته الوطنية لصالح ثقافة الخنوع والإذعان والإستسلام، والتسليم بالاحتلال كأمر الواقع.

صحيح أنّ هؤلاء الشبان يفتقدون إلى القيادة ومركز التوجيه والتحرك في الشارع، ولا توجد لديهم غرفة عمليات تدير عمليات الطعن والدعس ورشق الحجارة واقتحام الحواجز وسياجاتهم المصطنعة بين مناطق الوطن الواحد. وهذه ليست من العيوب، بل غيابها أقله فيه من إيجابيات ما يجري على الأرض الفلسطينية هذه الأيام، في سياق الهبة التي تطرق أبواب الانتفاضة الثالثة وهي قريبة، بعكس ما يتمناه البعض أن تبقى على وضعها الذي بدأت به، على شاكلة الطفرة ليس إلاّ. الأمر الذي يُحتّم على الفصائل وفي ظلّ انسداد أفق المصالحة وإنهاء الانقسام، أن تشكل هذه الهبة العنوان الوطني الذي تلتقي عنده وحوله ولأجله هذه الفصائل وعلى وجه السرعة من دون أية شروط أو اشتراطات مسبقة من أيّ فصيل من الفصائل. خصوصاً أنّ هناك مؤشرات مشجعة تقع في سياق دعوات الجميع للقاء حول الهبة وضرورة رعايتها والإحاطة بها ودعمها وحمايتها، وتحديد رؤية موحدة حول الأهداف في سياق يجب تثمير الهبة أو الانتفاضة عندما نصل إليها، بالمعنى الوطني والسياسي الذي يصون دماء وتضحيات أبناء شعبنا وفي مقدمتهم الشباب الفلسطيني، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الفصائل تُدرك جيداً وعلى ضوء التجارب السابقة، ألاّ تستعجل عسكرة الهبّة أو الانتفاضة، على أن يُترك الأمر رهن التطورات، وما يتمّ الاتفاق عليه في أولويات عناوين المقاومة ومندرجاتها وأدواتها وأشكالها. وبالتالي إبقاء قطاع غزة على تحركاته الراهنة من إسناد ودعم ومشاغلة الاحتلال في مناطق غلاف القطاع، من دون أن نسمح لحكومة نتنياهو أن تهرب أو تُهرّب مآزقها المتراكمة والمتدحرجة، على حساب ما تشهده أراضي الضفة والقدس من أعمال انتفاضة.

في تموز من العام 2014 أقدمت مجموعة من المستوطنين على حرق الفتى المقدسي الشهيد محمد أبو خضير حياً. فهّبت القدس والضفة على أثر ذلك، يومها كان نتنياهو قلقاً جداً، فذهب إلى حرب ضدّ قطاع غزة حتى يُخمد الهبّة التي كانت تسير حثيثاً نحو انتفاضة ثالثة. لأنّ الضفة تمثل الخطر الإستراتيجي على الكيان ومخططاته.

وإذا أطلقت المقاومة صواريخها في هذا التوقيت فالمستفيد هو الكيان ونتنياهو. وهذا الأمر يجب أن يبقى رهناً للتطورات ليُبنى على الشيء مقتضاه.

وما يجري في الأراضي الفلسطينية منذ ما يزيد عن الأسبوعين، مختلف تماماً عما جرى خلال الانتفاضتين السابقتين عام 1987 و 2000، من حيث شمولها كلّ الأرض الفلسطينية من بحرها إلى نهرها، وهذا ما يُرعب الاحتلال وحكومة نتنياهو. فالمناطق المغتصبة في العام 1948، لطالما اعتبرها الاحتلال الصهيوني بأنها خارج أية حسابات، على اعتبار أنه يبني أوهام تطلعاته وأحلامه ومستقبله على أنّ الأرض الفلسطينية عام 1948 في أسوأ نتائج أية عملية سياسية مع السلطة راهناً أو مستقبلاً، ستُشكل «دولته اليهودية» المزعومة، وأن لا مستقبل للفلسطينيين في تلك «الدولة» الهجينة. وهو لا يدرك أن لا مستقبل له مطلقاً على الأرض الفلسطينية مهما طال الزمن. من هنا تنظر حكومة نتنياهو بعين القلق والخوف على هذا المستقبل الذي لم يعد مضموناً في ظلّ هذا التطور الخطير بالنسبة لتلك الحكومة الصهيونية.

ومن المؤكد أنّ الدوافع وراء تحرك أبناء شعبنا في مناطق الجليل والمثلث ووادي عارة والنقب، هي ذات الدوافع التي حركت شبان الضفة والقدس وغزة، حيث الاحتلال الغاصب بجرائمه وممارساته وقوانينه العنصرية يقع في أولويات تلك الدوافع. وبالتأكيد يجب البناء على تحركات أهلنا داخل ما يسمى «الخط الأخضر»، ولا يجوز في أي حال من الأحوال القول أو الإيحاء بأنّ أمرهم لا يعنينا كونهم وكما يعتقد العدو الصهيوني واهماً أنهم خارج أية حسابات فلسطينية بالمعنى السياسي أو الوطني، الأمر الذي سيوظفه الاحتلال في فرض المزيد من قوانينه العنصرية الجائرة بحق ما يزيد عن مليون وثلاثمائة ألف فلسطيني.

الهبّة الشعبية للانتفاضة الثالثة يعوّل ويُبنى عليها في تصحيح مسار ما أوقعتنا فيه اتفاقات «أوسلو» ومتطلباتها من ارتهان اقتصادي وأمني وسياسي، يُثمّره الاحتلال في فرض ابتزازه من أجل تقديم المزيد من التنازلات لصالحه، على حساب عناوين قضيتنا الوطنية. وبالتالي هذه الهبّة بشمولها كلّ الأرض الفلسطينية، تأتي ردّاً على منطق «أوسلو» الذي تنازل عن 78 بالمائة من أرض فلسطين، فهي اليوم تعيد رسم حدود الوطن الفلسطيني على مساحة 27009 كم2. وثانياً كسر فكرة السيطرة على المسجد الأقصى، التي يعمل عليها الاحتلال لتتحوّل إلى واقع مفروض، من خلال التقسيم الزماني والمكاني، وصولاً إلى وضع اليد بالمطلق عليه، لإشادة ما يسمّونه زعماً «الهيكل».

أما ثالثاً، نعم الهبّة الانتفاضة وحدها المأمول منها أن تعيد تصويب البوصلة باتجاه فلسطين وقضية القدس والمسجد الأقصى، بعد أن تمكنت الأحداث والحروب التي تشهدها العديد من دول المنطقة منذ خمس سنوات، من سحب القضية الفلسطينية من سلّم أولويات العرب والمسلمين، لتصبح في أخر سلم تللك الألويات.

- «إسرائيل»..انتهاء الفسحة
د. محمد الصياد
منذ أن استثمرت العصابات الإرهابية الصهيونية قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الذي صدر يوم السبت 29 يناير/كانون ثاني 1947 بأغلبية ثلثي أعضائها الحاضرين آنذاك، وعددهم 33 دولة (صوتت لصالح القرار 12 دولة من بينها الاتحاد السوفييتي وأوكرانيا وروسيا البيضاء وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا، في حين صوتت بريطانيا ضد القرار وامتنعت الولايات المتحدة عن التصويت).. منذ أن استثمرت تلك العصابات ذلكم القرار الظالم، وأعلنت فور انسحاب قوات الاحتلال البريطانية من فلسطين في عام 1948، عن قيام دولة «إسرائيل» - فقد كانت هذه ال «إسرائيل» المحاطة - كما تذهب مؤسستها الحاكمة - بأعداء من جهاتها الأربع، سوريا من الشمال، والأردن من الشرق، والمملكة العربية السعودية من الجنوب، ومصر من الغرب والجنوب، فيما عدا جزء من قسمها الغربي مطل على البحر (الأبيض المتوسط)، وذاك الكيان الذي أحالته تلك الإرادة الدولية الظالمة إلى دولة، ما انفك يشن الحروب المتنقلة، الواحدة تلو الأخرى، ضد الدول العربية ومعها الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة..حروب ما يكاد يفصلها عن بعضها فاصل زمني، حتى تسارع لقطعه عقلية الحروب العدوانية الهمجية التي تكون عادةً من نصيب قطاع غزة المخنوق حصاراً أو الضفة الغربية أو لبنان أو سوريا. ولهذا تستحق «إسرائيل» لقب الدولة الحربية بامتياز، لا تنافسها على صدارته سوى راعيتها الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية.
حتى الفسحة التي يُفترض أن يكون قد وفرها لها «الربيع العربي» منذ مطلع عام 2011 نتيجة للانشغالات الداخلية العربية بمصائبه الكارثية، حيث أصيبت كافة الدول العربية تقريباً ب«تسونامي» ميليشيات تنظيم داعش وأخواته فيما بقيت «إسرائيل» وحدها ترفل بنعمة الأمان والاستقرار - مع ذلك فحتى هذه الفسحة لم تمنعها من مواصلة جموحها الحربي المتدفق. فتارة ترسل طائراتها الحربية للإغارة على غزة المحاصرة، وتارة أخرى تدخل طرفاً في الحرب إلى جانب جبهة النصرة في الإغارة على مواقع الجيش السوري داخل العمق السوري. بل إنها لم تكتفِ بذلك وإنما عمدت لتصعيد عدوانها على أهالي فلسطين المحتلة، ابتداءً من التنغيص عليهم في حياتهم اليومية بمدرعاتها وجنودها المدججين بالسلاح والمرابطين على مداخل ومنافذ أحيائهم، واعتقال شبابهم وفتيانهم اعتباطياً (أو إدارياً كما يسميه الصهاينة)، وقضم أراضيهم لأغراض توسعة المستوطنات التي صارت تطوق الأحياء العربية في الضفة الغربية، إلى إتلاف مزروعاتهم، إلى تحويل الآلاف من معتقليهم إلى رهائن تبتز بهم شعباً بأكمله من خلال تحويل ليال اعتقالهم إلى جحيم..إلى تشديد الخناق على مليون ونصف مليون فلسطيني يعيشون داخل جيب جغرافي لا تتجاوز مساحته 360 كيلومتراً مربعاً.
وأخيراً وليس آخراً التجرؤ الوقح للهجوم على مقدساتهم ومقدسات المسلمين في فلسطين وهي هنا المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين واستباحته من قبل قطعان المستوطنين بتسهيل وحماية الجندرمة الصهيونية.
«إسرائيل» بقيادة نتنياهو وعصابته يعتقدون أنهم يعيشون أزهى أيامهم منذ تأسيس الدولة العبرية. وهم لذلك يشعرون بأنهم في حل من أمرهم، يستطيعون أن يفعلوا بالأرض والشعب اللذين يحتلونهما ما يشاؤون، فلا العالم العربي الغارق حتى أذنيه في أزماته ومشاكله، بوسعه الوقوف ولو لفظياً في وجههم، ولا العالم الغربي الحليف، في وضع اضطراري يجبره على حث مدللته على ضبط النفس كما يفعل عادةً لرفع العتب وشبهة التواطؤ عنه كلما ارتكبت «إسرائيل» جريمة على رؤوس الأشهاد، ولا بقية العالم المشغول هو الآخر بقضايا مؤَرِّقة من وزن مشكلة تغير المناخ، ومشكلة الغيوم الملبدة التي لا تريد مفارقة سماء الاقتصاد الصيني ثاني أكبر الاقتصادات العالمية ومعه الاقتصادات الأوروبية - ليسوا في وارد ترك هذه القضايا والالتفات إلى ما ترتكبه «إسرائيل» من جرائم.
لكنه يبدو أن خيبات نتنياهو وحساباته العنترية المهووسة، لم تنته بعد. فها هي فلسطين تعود إلى الواجهة الإقليمية والدولية من جديد بعد تغييب دولي مقصود، وذلك «بفضل» عنتريات نتنياهو إياها. فلقد أضافت حكومته المتطرفة لعمليات خنق المقدسيين وسكان الضفة بالعسكرة والضغط المعيشي والتضييق العنصري، جرعة إجرامية بالغة الخطورة متمثلة في تسليط قطعان المستوطنين المسلحين على سكان أحياء القدس ومدن وقرى الضفة، وصولاً لذروة هذه الهجمة العنصرية المستهترة، بتمكينهم من اقتحام ساحات المسجد الأقصى للإقامة وأداء الصلاة اليهودية فيه. حتى صار من الاستحالة بمكان أن يرى الشباب الفلسطيني المقهور كيف يعاملهم 200 ألف مستوطن في القدس و650 ألف مستوطن في الضفة الغربية، كما عامل النازيون ضحاياهم، من دون أن تغلي دماؤهم وتستثار مشاعرهم الغاضبة. فكان الانفجار التلقائي لأبناء القدس في وجه هذا الطغيان، وسرعان ما تلقفته حمية شباب الضفة، في سيناريو قريب من حادثة الاقتحام الاستفزازي التي اقترفها مجرم الحرب آرييل شارون لباحة المسجد الأقصى برفقة حراسه في 28 سبتمبر/أيلول 2000، والتي أدت إلى اندلاع الانتفاضة الثانية أو انتفاضة الأقصى.
شباب القدس وشباب الضفة انتفضوا عفوياً من دون ترتيب أو تنظيم مسبق من قبل جهة سياسية معينة، تماماً كما كانت حال انتفاض الشباب العربي ضد توأم الفساد والاستبداد فيما عُرف بالربيع العربي. ولذلك من المبكر الحكم على أفق تطور هذا الخروج الشبابي الغاضب إلى الشارع للاشتباك المباشر مع الاحتلال وقطعان مستوطنيه المنظمين والمسلحين تسليحاً خفيفاً. إنما الأكيد أن مخزون السخط الشعبي الفلسطيني لن ينضب سريعاً ما لم تحتويه المناورات السياسية الفلسطينية الداخلية (في اجتماع بتاريخ 9-9-2015 في مكتب رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمد الله ضمه إلى جانب رئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية المسؤول عن التنسيق المدني مع «الإسرائيليين» حسين الشيخ ومنسق أعمال الحكومة «الإسرائيلية» ليواف مردخاي، أشاد الأخير بالأجهزة الأمنية الفلسطينية، معتبراً أن «مناطق السلطة هي الوحيدة التي تشهد استقراراً وهدوءاً في محيط مملوء بالمخاطر والإشكالات (الأردن، سوريا، لبنان، مصر وغزة)».
الطبقة السياسية في «إسرائيل» يتملكها الخوف من أن تكون هذه فاتحة انتفاضة فلسطينية ثالثة تعيد «إسرائيل» وحكامها وجرائمهم إلى الواجهة العالمية من جديد. والأكيد أيضاً، أن فسحة الهدوء التي نعمت بها «إسرائيل» طوال السنوات الخمس ونيف الماضية قد ولت، وأن عليها أن تبدأ العد التنازلي للانعطافة المحتملة لهذه الهبة الفلسطينية نحو انتفاضة شاملة على غرار الانتفاضتين الماضيتين.
صحيفة «يديعوت أحرونوت» علقت على ما يحدث قائلةً: «يمكن للحكومة الإسرائيلية» أن تطلق على ما يحدث في الضفة الغربية والقدس ما تشاء من أسماء، لكن الاسم الحقيقي لما يجري، هو انتفاضة فلسطينية ثالثة، تنذر بالأخطر»، محملة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، مسؤولية الانتفاضة الجديدة، بعدما «قتل أي أمل موجود لدى الفلسطينيين». أما صحيفة «هآرتس» فحذرت من أن الانتفاضة الثالثة باتت على الطريق، وإنه بعد سنوات من الامتناع عن أي عمل سياسي والقتل العبثي للفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم، مع غياب أي أفق وأمل، فإن الانتفاضة الثالثة قد تنشب بالفعل. صحيفة «معاريف» حذرت بدورها من «الواقع الأليم واشتعال الضفة الغربية والقدس». كما حذرت من الانشغال في تسمية ما يجري إن كانت انتفاضة جديدة أم لا، مشيرة إلى أن المهم في كل ذلك أن هناك «علامات واضحة لانتفاضة فلسطينية حديدة، والوضع قابل للانفجار السريع».

- فرصة لوقف تهميش القضية الفلسطينية

صبحي غندور

ما تحتاجه القضية الفلسطينية الآن هو أكثر من حراك بطولي شبابي فردي في القدس والضفة الغربية، فهي تحتاج إلى انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة تضع حدّاً لما حصل في العقدين الماضيين من تحريفٍ لمسار النضال الفلسطيني، ومن تقزيمٍ لهذه القضية التي كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض بين “سلطة فلسطينية” في الضفة الغربية وبين “الدولة الإسرائيلية” التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية.
وكما كان من الخطأ تصغير حجم القضية الفلسطينية في مجال العمل السياسي والمفاوضات، سيكون كذلك من الخطأ الآن تحجيم عمل المقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال بحصره على جبهة القدس والمسجد الأقصى فقط. فالمطلوب فعلاً الآن هو وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كلّ المنظمّات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلة وخارجها، ففي ذلك يمكن أن يتكامل أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كل المناطق الفلسطينية، ومع أسلوب المقاومة المسلّحة حينما يضطرّ الأمر إلى ذلك.
إنّ المشكلة الأساسية تكمن الآن في الانقسام الفلسطيني الذي ازداد حدّةً بعد توقيع اتفاقيات “أوسلو” والتي ثبت، بعد أكثر من عشرين عاماً، عجزها عن تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتستفيد إسرائيل طبعاً من تداعيات الحروب الأهلية العربية، ومن الموقف الأميركي الذي يساهم الآن في تهميش القضية الفلسطينية بعدما تراجعت إدارة الرئيس أوباما عن مطلب تجميد الإستيطان، وامتنعت عن ممارسة أي ضغط فعلي على حكومة نتنياهو طيلة السنوات الماضية من عمر العهد الأوبامي.
فتصريحات “البيت الأبيض” والخارجية الأميركية وأعضاء في الكونغرس بشأن الملف الفلسطيني، كلّها تكرّر ما يقوم به معظم الإعلام الأميركي من تشويه لحقائق الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل، ومن تصوير للمشكلة الآن في القدس والضفّة وكأنّها أزمة بين طرفين متساويين يمارسان العنف ضدّ بعضهما البعض! أو كأنّ ما تفعله إسرائيل هو مشابه لما تقوم به أميركا وحلف الناتو في أفغانستان وفي أماكن أخرى من ملاحقة وقتل لجماعات “إرهابية”!. فموضوع “الاحتلال الإسرائيلي” مغيَّب عن المواقف الرسمية الأميركية ومهمَّش كثيراً في الإعلام الأميركي، كما هو الظلم أيضاً في مساواة مسألة “الإرهاب” بالمقاومة ضدّ الاحتلال.
لكن المصيبة ليست في الموقف الأميركي فقط أو في بعض المواقف الدولية الأخرى، فالأوضاع العربية مسؤولة أيضاً عن حجم المأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني. فعناصر المواجهة العربية والفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي ما زالت حتّى الآن غائبة، ووحدة الشعب الفلسطيني ومنظماته وقياداته هي العنصر الأهم المفقود حالياً، وكذلك الحدّ الأدنى من التضامن الرسمي العربي المطلوب مع الشعب الفلسطيني. كلّ ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة نتنياهو من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأميركية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟!
ربّما أهمية ما يحدث الآن في القدس والضفة هي إعادة الحيوية لقضية فلسطين، التي جرى تهميشها عمداً في السنوات الماضية، وبالتالي تصحيح “البوصلة” العربية، بعدما تسبّبت “معارك التغيير الداخلي” بفقدان معيار معرفة الصديق من العدوّ!.
لقد أوقفت السلطة الفلسطينية التفاوض مع إسرائيل، لكن ما البديل الذي طرحته؟ وهل أعلنت مثلاً التخلّي عن نهج التفاوض لصالح أسلوب المقاومة المشروعة ضدَّ الاحتلال؟ هل تّمت إعادة بناء “منظمة التحرير الفلسطينية” لكي تكون “جبهة تحرّر وطني” شاملة توحِّد الطاقات والمنظمّات الفلسطينية المبعثرة؟ ثمَّ ماذا لو استجابت حكومة إسرائيل لمطلب “تجميد الاستيطان” لبضعة أشهر، فهل يعني ذلك برداً وسلاماً في عموم المنطقة؟ وكيف لبضعة أشهر أن تصنع التحوّل في حكومة إسرائيلية قامت على التطرّف ورفض الاتفاقات مع الفلسطينيين، بحيث تقبل هذه الحكومة بدولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس، وبإنهاء المستوطنات وإعطاء اللاجئيين الفلسطينيين حقوقهم المشروعة؟!.
المراهنة فقط على أسلوب التفاوض مع إسرائيل هو مراهنة على سراب، وهو أضغاث أحلام لا جدوى فلسطينياً وعربياً منها. فما هو قائمٌ على أرض الواقع هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضات أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الكفيل حصراً بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين الإسرائيلي والدولي.
إنّ مسألة المستوطنات هي رمزٌ لمدى العجز العربي والضعف الأميركي من جهة، والاستهتار الإسرائيلي من جهةٍ أخرى بمن يمدّ إسرائيل بالسلاح والمال والدعم السياسي لعقود طويلة. فإذا كانت الإدارة الأميركية (ومعها كل أطراف اللجنة الرباعية) غير قادرة على إجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات، فكيف ستجبرها إذن على إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتسهيل بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة؟!
إنَّ الظروف الآن مناسبة جداً لفرض أجندة إسرائيلية على المنطقة يكون الهدف الأساسي فيها هو التشجيع على الصراعات الطائفية والإثنية، وتكثيف الإستيطان، وإخضاع الفلسطينيين لمشيئة المحتلّ الإسرائيلي، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى إدارة مدنية ترعى شؤون الخدمات وتشكّل امتداداً أمنياً لإسرائيل وسط المناطق الفلسطينية، مع توطين الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلة.
وإذا كانت الأوضاع السائدة في المنطقة حالياً واضحةً جداً في كيفيّة خدمة المشروع الإسرائيلي، فإنَّ مقارنة حال الوضع الإسرائيلي مع الوضع العربي والفلسطيني تجعل الرؤية أيضاً واضحة لكيفيّة الخروج من المأزق الذي هي عليه الآن السلطة الفلسطينية.
فلِمَ لا تحسم السلطة الفلسطينية أمرها بإعلان أنّها أمام خيارين: إمّا التحوّل إلى إدارة مدنية تخدم إسرائيل وأمنها واحتلالها، أو الانتقال الفعلي إلى صيغة “جبهة تحرّر وطني” تجمع وسطها كل التيارات والقوى التي تنسجم مع إستراتيجيةٍ واحدة، تطالب بالحدّ الأدنى من حيث الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس الشريف، وبناء دولة فلسطينية مستقلة على هذه الأراضي (وعاصمتها القدس)، ثمّ تفاوض هذه الدولة حين قيامها على مصير اللاجئين الفلسطينيين دون التخلّي عن حقوقهم المشروعة التي نصّت عليها القرارات الدولية.
وحينما تتحوّل السلطة الفلسطينية إلى “جبهة تحرّر وطني”، فسيكون من واجبها - كما هو من حقّها- تحديد أساليب المقاومة وأمكنتها والجهات التي تقوم بها لكي لا يحدث أي خلل سياسي وأمني في الساحة الفلسطينية، ولمنع إسرائيل من استغلال أي عملياتٍ فردية قد تسيء إلى معركة التحرّر الوطني الفلسطيني..
واقع الحال الآن أنَّ السلطة الفلسطينية تتصرّف وكأنّها دولة مستقلة ذات سيادة بينما هي مؤسسات مستباحة يومياً تحت الاحتلال الإسرائيلي، والأجدر بها (أي السلطة) أنْ تتصرّف وكأنّها جبهة وطنية لمقاومة الاحتلال حتّى لا تصل إلى مستوى الإدارة المدنية للاحتلال. عند ذلك، ستعود الحيويّة إلى الشارعين العربي والفلسطيني، وسيجد الإنسان العربي أملاً في جهةٍ ما تسير على طريقٍ سليم يجمع بين وضوحٍ في الرؤية، وبين أسلوبٍ سليم في التعامل مع مسألتيْ المقاومة والتفاوض.

- يا لوحدكٍ: فلسطين المنسية تقاتل وحدها.. والعرب يقتتلون

طلال سلمان

ينفرد المشرق العربي عن غيره من أقطار الدنيا بأن دوله تكاد تغرق في دماء مواطنيها المقتولين، في الغالب الأعم، بخلافات حكامهم وقياداتهم السياسية، بعيداً عن هموم معاشهم وحقهم في الحياة بجهدهم وعرق التعب في أرضهم التي تعطيهم شرف الانتساب إليها.
وحدها فلسطين تبذل دماءها غزيرة في معركة تتسم بقدسية استثنائية، عبر المواجهات المفتوحة مع العدو الإسرائيلي، من أجل تثبيت حقوق أهلها في أرضهم، التي كانت أرضهم وكانوا أهلها طوال التاريخ الإنساني المعروف، والتي يؤكدون ـ مجدداً وعبر مواجهات مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي أنها ستبقى لهم وسيبقون فيها، توكيداً لهذه الحقوق التي لا يمكن أن تلغيها الحروب الإسرائيلية المفتوحة على مدار الساعة، والتي تستهدف أبناء الحياة، فتية وعجائز، رجالاً ونساءً، بغير أن تستثني الأطفال.
وبينما غرقت دول المشرق، أو هي أُغرقت، في صراعات دموية غير مسبوقة في عنفها والتباهي بل المزايدة في أعداد ضحاياها على «الجبهات» المختلفة في سائر أنحاء المشرق وصولاً إلى اليمن، فإن شعب فلسطين المتروك لقدره في مواجهة عدوه الإسرائيلي واصل جهاده ـ وحيداً وأعزل ـ لتأكيد حقه في ارض وطنه ومنع جحافل المستوطنين، المدججين بالسلاح.
فجأة، ومن خارج أي تقدير، عاد فتية فلسطين إلى الميدان الذي غادروه مكرهين، ذات يوم، بوهم الحل السلمي الذي سيأتيهم بالدولة، ولو على أقل من نصف مساحة وطنهم وعبر «السلطة الوطنية» التي سرعان ما ثبت ـ بالدليل الحسي ـ أنها ليست «سلطة» إلا عليهم وكأنها وكيلة عن المحتل الإسرائيلي، فإن أظهرت تمسكها بحقوق شعبها قمعها الاحتلال فانصرفت إلى الخارج تحاول تحقيق مكاسب معنوية، أبرزها رفع العلم الفلسطيني ـ ولا دولة ـ على سارية منصوبة أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك.
هكذا، عاد الدم الفلسطيني يغطي الشوارع والطرقات الضيقة في مدن الضفة الغربية، الذي تأكد مرة أخرى أنها ما تزال محتلة، كما في غزة التي استعادت هويتها الوطنية الأقوى والأبقى من هويات التنظيمات التي كاد هوس السلطة يأخذها إلى شيء من الانفصال عن الوطن المحتل كله بعد، ومن النهر إلى البحر.
وبرغم انشغال الأنظمة العربية في عراكها مع شعوبها، فقد فرض الدم الفلسطيني المراق مجدداً على الأرض المقدسة بعنوان المسجد الأقصى نفسه على جدول أعمال عواصم الدول الكبرى التي تعبت من تنبيه رئيس حكومة العدو الإسرائيلي إلى مخاطر سياسة القمع الدموي التي يعتمدها، مطلقاً جحافل المستوطنين ليصادروا الأراضي التي مُنحت للسلطة الفلسطينية ببيوت الفقراء فيها وأشجار الزيتون التي طالما سقاها أصحابها بماء العيون.
يحمل الشبان المنذرون للشهادة رفاقهم الشهداء إلى مثواهم الأخير، ويعودون إلى ساحات المواجهة في مختلف مدن الضفة الغربية وقراها. وسرعان ما يستجيب لنداءاتهم أخوتهم في غزة كما في المدن الفلسطينية المحتلة منذ العام 1948، يافا وعكا وحيفا والقرى في جوارها، فيعلن الدم الذي يغسل الأرض المقدسة البشارة بانتفاضة جديدة، من خارج دائرة القرار العربي الرسمي المعطَل بالفتن والحروب الأهلية وحروب الأخوة ضد بعضهم بعضاً بأقوى الأسلحة فتكاً بالأحياء وتدميراً لأسباب العمران.
تتوارى أخبار «حرب الأشقاء المذهّبين» الظالمة على اليمن حيث تُهدر الدماء والثروات وتُهدم بيوت الفقراء التي بنيت بالصدقات والهبات والشرهات الملكية أو بما وفره اليمنيون من عرق جباههم في بناء بلاد إخوانهم وجيرانهم الأقربين في المملكة وأقطار الخليج التي كلها من ذهب.
تتوارى أيضاً أخبار الحروب المتجولة في العراق تحت راية «داعش» التي جمعت ضحايا أخطاء الماضي القريب تحت قيادة «أمير المؤمنين» لتصادر حاضر هذه البلاد المهدورة ثرواتها الهائلة، بل المنهوبة عياناً، على أيدي ملوك الطوائف الذين ورثوا الطغيان فنافسوه فساداً وتدميراً للدولة وإثارة للفتن، مستدرجين قوات الاحتلال للعودة ـ جماعياً أي بمشاركة أقطار الغرب كلها، وصولاً إلى أستراليا ـ في احتلال سماء العراق والتناوب على قصف أنحائه بذريعة ضرب الإرهاب.. في حين تتفسخ ارض الرافدين وتنتعش الدعوات الانفصالية بذريعة استحالة التعايش في دولة واحدة بين «السنة» و «الشيعة» وتزكية خيار التقاسم، بحيث يكون لكل مذهب دولته إلى جانب الدويلة الكردية في الشمال، مع القفز من فوق دهور العيش معاً، على اختلاف تسميات الممالك والعروش، عبر العهود مختلفة الشعار.
وتتوارى أيضاً التطورات الخطيرة في الحرب على سوريا وفيها متمثلة في اقتحام الطيران الحربي الروسي الأجواء السورية من أقصاها إلى أدناها ليساعد جيشها على استعادة المناطق التي اجتاحتها المنظمات المسلحة متعددة مصادر التسليح والإمداد، والتي تحتل بعض الأنظمة العربية المذهبة رأس قائمتها تحت شعارات مذهبية لتضاف إليها تركيا ذات المطامع العتيقة والمعلنة في اقتطاع المزيد من الأراضي السورية في الشمال.
تتقدم فلسطين بدمها لتصحح البوصلة، مقدمة العدو الحقيقي الإسرائيلي على سائر الأعداء الطارئين، ممن جذبتهم أخطاء الأنظمة في بعض الأقطار العربية فجعلتهم يتوغلون في دماء شعوبها بذريعة تحريرها من أنظمتها، متجاهلين أن هذه الهجمات قد تُسقط الدول بعد تشريد أهلها بعيداً عــن أرضهم، وعبر مغامرات يتهددها الغرق في بحور الظلمات أو المهانة والإذلال في بلاد الآخرين.
ها هي فلسطين تتقدم بدمها لتدين العدو الحقيقي والدائم لهذه الأمة، طالما استمر احتلاله الأرض المقدسة: لا يمنعها يأسها من النجدة العربية عن تقديم فتيانها ورجالها والنساء قرباناً لتأكيد حق أهلها فيها، وهم الذين كانوا عبر التاريخ أهلها.
يتساقط الشهداء في مختلف أنحاء الضفة الغربية وتتقدم غزة لتستعيد هويتها الفلسطينية، بعيداً عن أوهام الانفصال في دويلة بعيداً عن الدويلة الأخرى في الضفة الغربية. يعود شعب فلسطين إلى حقائق حياته الأصلية: هو صاحب الأرض المقدسة، هو بطل تحريرها بدمائه وتضحياته، رجاله ونسائه والفتيان والفتيات اللواتي أثبتن ـ مرة أخرى ـ أنهن ليسوا أقل من أشقائهم استعدادا للتضحية والبذل من أجل تحرير الأرض بإرادة الحياة وقوة حقهم في بلادهم التي كانت دائماً بلادهم.
ومع عودة شعب فلسطين إلى الميدان تنتبه دول الغرب، اساساً، إلى خطورة الممارسات الدموية التي تنتهجها حكومة إسرائيل العنصرية بقيادة نتنياهو، على مصالحها في المنطقة، فتبادر إلى رفع الصوت بتحذيرها من أنها لن تستطيع الاستمرار في دعمها وتنبهها إلى ضرورة الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وبدولة له فيها، وإلا فإن انتفاضة جديدة في الأفـــــق لن يستطيع جيشها وقفها أو منع العالم من تأييد مطالبها العادلة بل البديهية.
أما العرب، فمشغولون في حروبهم التي تكاد تكون الهزيمة في معظمها أشرف من النصر، لا سيما إذا كانت اليمن هي النموذج، وبذلك فلا وقت لديهم ولا إمكانات مادية ولا قدرات عسكرية لدعم نضال الشعب الفلسطيني الذي يمارس قهر اليأس مرة بعد أخرى، ويعود إلى الميدان فتياً، معافى ومستعداً للتضحية بلا حدود. وها إن قوافل الشهداء تترى في مختلف مدن الضفة الغربية وقراها، كما في غزة التي لما تلتئم جراحها العميقة بعد الحروب الإسرائيلية التي تكررت أربع مرات في عشر سنوات أو أكثر قليلاً.
إن العرب المقتتلين ولا قضية، والمتناسين قضاياهم الفعلية، وأعظمها المقدسة فلسطين، يخسرون مستقبلهم مع حاضرهم الذي دمروه بحروبهم الأهلية، بينما عدوهم الوطني والقومي يتغلغل في دولهم، موظفاً خلافاتهم لمصلحة إدامة احتلاله فلسطين وبعض أرض سوريا (ولبنان).
ولن تكون «دول الطوق» غداً، أقله سوريا والعراق، قادرة على نجدة فلسطين، بل هي ستكون بحاجة إلى من ينجدها لإعادة بنائها، ولكل نجدة ثمن... وأحياناً يكون ثمن النجدة أقسى من أن يحتمل!

- فلسطين تحاصر حصار إسرائيل.. بسكاكينها
هستيريا الخوف تطارد المستعمرين.. ومخاوف من اختراقات في غزة

حلمي موسى

برغم الحشود العسكرية في القدس وباقي المناطق المحتلة، والتي استهدفت تبديد الذعر في صفوف اليهود، استمرت العمليات وتفاقم الخوف، ولم تجد الحكومة الإسرائيلية ورئيسها، بنيامين نتنياهو، سوى مهاجمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس وخطابه الذي أشار فيه إلى إعدام صبي فلسطيني بقي حياً. وبدا أن الحملة على الرئيس وعلى السلطة الفلسطينية ترمي إلى صرف الأنظار عن تدهور مكانة نتنياهو وحكومته في استطلاعات الرأي. وواضح أن الإدارة الأميركية، التي تمهد لتدخل سياسي، آثرت الاصطفاف إلى جانب الموقف الإسرائيلي في مهاجمة المقاومة الشعبية الفلسطينية، وتراجعت عن توصيف سابق لها بأن إسرائيل عمدت إلى تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي.
وأشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى توسع في حالة الرعب التي انتشرت في داخل إسرائيل تخوفاً من عمليات يُقْدِم عليها فلسطينيون. وكان أبرز هذه الحالات ما جرى في تل أبيب، حينما سرت شائعات عن وجود شابين فلسطينيين في مجمع تجاري كبير، وينويان تنفيذ عملية طعن. وحينها تدفق العشرات من المجمع، بحثا عن أماكن آمنة يلوذون بها، واندفعت قوات كبيرة من الجيش والشرطة والمدنيين المسلحين بحثا عن الشابين. وتم إغلاق منطقة المحطة المركزية في تل أبيب، ثم أغلق أحد المحاور الرئيسية في المدينة، وساد ما يشبه الشلل. وفي النهاية أعلنت الشرطة الإسرائيلية أنها اعتقلت شابين فلسطينيين، وأنه تم الإفراج عنهما، بعدما ثبت أن لا ضلع لهما بأية أعمال «عدائية».
وحدث الشيء نفسه تقريبا في منطقة بئر السبع، عندما اختلفت صبية مع أهلها، فأخبرتهم برسالة هاتفية أنها تاركة الحياة، وأنهم سيسمعون الأخبار في القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي. وبعدما دققت الشرطة ولاحقت هاتف الصبية عبر أجهزة تحديد المكان، قامت باعتقالها وتبين أن خلافها مع أهلها شخصي، وأنها لا تنوي تنفيذ أي عمل.
وفي أعقاب موجة الشك والريبة التي سرت في نفوس الكثير من الإسرائيليين تجاه يهود ذوي ملامح عربية، ابتدع بعض اليهود من أصول عربية سبلا لإبعاد الشك، فمنهم من صار يعتمر القلنسوة اليهودية، بالرغم من أنه غير متديّن، ومنهم من صار يرتدي قميصاً كتب عليه: «لا تنفعل، أنا يمني».
وكتب موقع «ان ار جي» أمس أن «موجة الإرهاب قادت إلى الذعر: فالرعب والارتباك سادا اليوم الخميس في حيفا وجفعتايم. وأغلقت طرق رئيسية وأوقفت حركة القطار أثناء سفره، بسبب شبهات تبددت». وكل هذا جرى بعدما صرخ إسرائيلي في القطار: «مخرّب»، فبدأ الناس يقفزون من القطار فور توقفه. ووصل المستشفى عشرات من المصابين بالذعر أو بكدمات جراء القفز من القطار. وصرخت مجندات، فقام ضابط بالبدء بإطلاق النار في الهواء. وأغلقت شوارع في مدينة جفعتايم بعد نشر معلومة عن سيارة مشبوهة ما دفع الشرطة إلى إيقاف حركة السير في شوارع مركزية مؤدية إلى تل أبيب.
في كل حال، تواصلت عمليات الطعن في القدس والمستمرة منذ أسبوعين رغم القرارات الأمنية الحاسمة بنشر الجيش في الطرق. ولهذا السبب يرى المعلق العسكري في «هآرتس»، عاموس هارئيل أن الجيش الإسرائيلي لم يعد يقدم أي تقدير بشأن مدى استمرار الأحداث، وصار يكرر القول بأن هذا «وضع مختلف من الأساس، ويمكن أن يستمر لفترة زمنية لا بأس بها». وأوضح أن ذلك يعود إلى واقع أن الأحداث بدأت من أدنى وأنه لا وجود لقيادة مركزية، ما يجعل التقدير صعباً.
في كل حال، عمد الجيش الإسرائيلي إلى إخراج المجندين من قواعد التدريب، وزجهم في القدس ومدن أخرى لمساعدة الشرطة. وزاد هذا من عبء الجيش الذي اضطر أصلا إلى مضاعفة نشر قواته في الضفة الغربية، وعلى طول قطاع غزة، ما دفع إلى إلغاء معظم التدريبات في الوحدات النظامية فضلا عن تجميد العديد من دورات الضباط القيادية. وهناك تفكير في الجيش باستدعاء القوات الاحتياطية بعدما استدعى حرس الحدود بعضا من قوته الاحتياطية ووضعها تحت إمرة الشرطة. وقد أقام الجيش حواجز إسمنتية أمام بعض الأحياء العربية في القدس الشرقية لفرض المزيد من القيود عليها. ومع ذلك، فإن التقديرات تشير إلى وجود الكثير من الثغرات التي يستطيع عبرها مرور من يرغب في تنفيذ عمليات. وواضح أن أحدا لا يستطيع في ظل انتشار الجيش والتقسيم الحادث في القدس ادعاء أن المدينة موحدة أو أنها عاصمة لدولة واحدة.
وفي قطاع غزة حدث ولا حرج. فبرغم ميل سلطة حماس إلى محاولة ضبط الحركة ومنع التصعيد والاكتفاء بتظاهرات شعبية في مناطق حدودية، إلا أن حماسة الشباب تخلق وضعا يجعل الحدود الإسرائيلية في مواضع عدة مخترقة. وثمة تخوفات من جانب إسرائيليين باحتمال لجوء بعض القوى المتشددة إلى استغلال الثغرات التي يفتحها المتظاهرون في السياج الحدودي من أجل تنفيذ عمليات. وربما لهذا السبب أشارت بعض الصحف الإسرائيلية إلى نية حكومة نتنياهو إعادة بناء الجدار الفاصل مع القطاع بحيث يشبه الجدار الذي أقيم على طول الحدود مع مصر.
وفي كل حال، أضافت الهبة الشعبية الفلسطينية الواسعة إلى أعباء إسرائيل الأمنية أعباء جديدة. وثمة من يشير إلى أن كل هذه الأعباء لا يمكن مقارنتها بالأعباء التي يمكن أن تنشأ في حال انضمام تنظيم فتح إلى الهبة. وهنا يطالب هؤلاء الحكومة الإسرائيلية بالكف عن اتهام السلطة في رام الله ورئيسها والسعي للتفاهم معهما لأن لهما أيضا مصلحة معلنة في تهدئة الأجواء.
عموما تحاول الإدارة الأميركية الدخول على خط التوتر الإسرائيلي الفلسطيني. وبعدما كان كبار المسؤولين في الخارجية الأميركية قد أوضحوا ملاحظتهم «لإفراط» إسرائيلي في استخدام القوة ضد الفلسطينيين، عاد وزير الخارجية جون كيري للإعلان أن هذا لا ينتقص من حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية جون كيربي قد أعلن أن لدى وزارته «قرائن موثوقة لاستخدام مفرط للقوة ضد الفلسطينيين». واعتبر أن مهاجمة يهود لأربعة فلسطينيين في ديمونة قبل أيام هو عمل إرهابي.
ومعروف أن وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي سيعقدون اجتماعا في 22 تشرين الأول الحالي في نيويورك لبحث الوضع في الأراضي المحتلة. وقد أجل وفد الرباعية الدولية زيارة مقررة له للمنطقة للحيلولة دون انفجار الوضع، لكن انفجار الهبة دفع إسرائيل لطلب تأجيل الزيارة. كما أن كيري قال إنه سيصل إلى المنطقة قريبا للمساهمة في تهدئة الوضع و «منع الانفجار». ويعتبر هذا هو الإعلان المباشر الأول لتدخله في جولة الصراع الحالية منذ فشل جهوده في العام الماضي. وقال كيري: «خلال نهاية الأسبوع تواصلت مع رئيس الحكومة نتنياهو ومع الرئيس أبو مازن، ونحن نحاول تهدئة الخواطر». وشدد على «أنني سأصل إلى هناك قريبا، في فترة مناسبة، وأعمل من أجل استئناف الاتصالات. وسأرى إن كان بوسعنا منع الانزلاق إلى الهوة».
وحذر كيري من أن حل الدولتين «قد يضيع من الجميع» إذا خرج العنف عن دائرة السيطرة». وأكد أنه «في السنوات الأخيرة كان تزايد مكثف في البناء الاستيطاني. وهذا العنف هو ثمرة إحباط متزايد وإحباط في صفوف الفلسطينيين الذين لا يرون تغييرا». وقال إن «الوضع قد يتفجر، وأنا آمل وأصلي أن لا يحدث ذلك».
في كل حال، يبدو أن الإسرائيليين يريدون تدفيع نتنياهو ثمن الرعب الذي يعيشونه جراء تدهور الوضع الأمني، إذ أشار استطلاع أجراه المركز الإسرائيلي للديموقراطية وجامعة تل أبيب إلى انعدام ثقة الجمهور جراء موجة العنف. ويمنح أغلب الإسرائيليين درجة راسب للحكومة في إدارة الأمن في القدس. ومع ذلك، فإن أغلبية الإسرائيليين تؤيد صلاة اليهود في الحرم القدسي برغم التوتر. وقد أعطى الإسرائيليون، وفق الاستطلاع، حكومة نتنياهو 2.1 (من 5) لإدارة الوضع الأمني. وطالب 57 في المئة بمنح اليهود حق الصلاة في الحرم. وتوقع 41 في المئة نشوب انتفاضة فلسطينية كبيرة خلال عام إذا بقيت العلاقات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية على حالها الراهن. ويؤمن 61 في المئة من الإسرائيليين أن نتنياهو لا يريد حل الدولتين. وربما أن الضربة القاضية لنتنياهو هي إيمان أغلبية الإسرائيليين بأن أفيغدور ليبرمان هو وزير الدفاع المفضل لديهم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2178445

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2178445 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 25


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40