الجمعة 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2015

مقالات جول راهن الانتفاضة 4

الجمعة 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2015 par د.احمد جميل عزم

- يا نبضها لا تهدأ

وأنا أتجه بالسيارة السياحية المستأجرة من عمّان إلى جسر الملك حسين، الأحد الماضي، كنت أستمع لأغنيات أحمد قعبور. وضحكت ابنتي وقالت إنّ صديقتها لينا “تحقد” على أغنية “يا نبض الضفة لا تهدأ”، لأنّ كلماتها تقول “لينا سقطت...”، وتسأل، لماذا من بين كل أسماء العالم، اختار لينا؟ أجبتها: ألا تعرفان القصة؟!
أخبرتها ما سمعته من قعبور يوماً؛ وقد التقيته في مكتبه في بيروت، وتحدثنا طويلا. وكان على جدار مكتبه رسومات أرسلها أطفال للمخيمات هدية له. وفي خضم الحديث معه، اكتشفت أن أغاني قعبور تشبهه ويشبهها، وأنّ أغنياته تشبه “الناس الحلوين”. قال إنّه عندما استشهدت لينا النابلسي، في نابلس العام 1976، وقرر غناء الأغنية، علّق أصدقاؤه أن المناسبة ستمضي والناس ستنسى؛ غنى وبقيت الأغنية، وبقيت الشهيدة.
عدت لفلسطين، أبحث على الإنترنت عن تفاصيل أكثر عن لينا النابلسي، وصورتها مطبوعة في ذاكرتي. كانت تشارك في مظاهرة سلمية، فلحقها الجنود. دخلت درج بناية تختبئ، تبعوها وأعدموها برصاصة بدم بارد. وكانت دماؤها ساخنة تنزف وهي على النعش. ثم نفذت مجموعة فدائية، من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، عملية فدائية ضد معسكر للجيش الإسرائيلي، باسم عملية لينا النابلسي.
في اليوم التالي لحديث الجسر ذاك، كان هناك أكثر من لينا في القدس، أكثر من حالة يلاحق فيها الجنود والمستوطنون الشبان والبنات الفلسطينيين، يختلقون قصة أو يفضلون القتل بدماء باردة، مع أن الاعتقال سهل وممكن.
كعادته، هذا “الكادر السابق” الذي يقترب من خمسينياته، يبدأ حديثه بعبارة “يا أخي...”، ويشدد على الحروف. يزيد "شو هاد؟!، هذا جيل جديد؟! عمره 14 و15!
هذا الكادر الذي كان من يقفز في مواجهة الجنود في الانتفاضة الأولى، يشاهد بقلق أبناءه وفعلهم الآن، وهم في عمره حينها. ويتحدث في الوقت نفسه عن الجيل الأصغر. تلمع عيناه وصوته، وهو يقول: هل يعقل هذا؟ من أين جاءته روح أن يقوم بالدبكة بهذا الاتقان وهو يرمي حجراً بالمقليعة؛ مشيرا للفيلم الذي انتشر لشاب يؤدي الدبكة وهو يواجه الجنود. ويسأل: ما هذه الروح، أن يضع وعاء فوق قنبلة الغاز ويضع رجلا على رجل فوقه بمواجهة الجيش؟! ويسألني: ماذا تتخيل موقف الجنود وهم يرون “الجيب” الذي يركبونه يمر فوق شاب، قرب مستعمرة بيت إيل، ثم يقف الشاب قافزا، وقد تمركز بين عجلات الجيب؟!
هل حقاً غناها قبل أربعين عاما، هل مضى أربعون عاما على قول:
في الضفة أطفالي سبعة، أصغرهم يرضع تاريخاً
أوسطهم اسمه جيفارا، أكبرهم ثائر في الضفة
يا كل العالم فلتعلم أطفالي يُتْمٌ، زرعوا الحقل وروداً حمراء
ليس جميلاً بقاء النبض متسارعاً لاهثاً والدم ساخناً أو نازفاً..
كان من حق لينا أن تكون الآن سيدة أربعينية أو خمسينية، أمّاً أو مخرجةً تلفزيونية، أو ما تشاء.
كانت، كما غنى قعبور، تصنع غدها، ولكن دمها صار يُغني. تماماً مثل بهاء عليان، الذي حرص على أناقته المعهودة، وهو يخرج من بيته هذا الأسبوع في القدس، وقد أخبر أمه، كما ورد في الإعلام، “رايح على عرس”!
بهاء كان يصنع غده، مثل لينا؛ هو الناشط الذي كان همّه دخول القدس موسوعة “غينيس” باعتبارها صاحبة أكبر سلسلة بشرية للقراءة، وهي فعالية نفذها العام الماضي. هو الذي كانت الثقافة والقراءة والمكتبات، همّه، فاض به، ووصل إلى طريقة مختلفة عن المكتبات الممنوعة، والمغدورة، والمقهورة.
عندما استشهدت لينا في أيار (مايو) 1976، كانت رجع صدى لانتفاضة سخنين وبقية أراضي الاحتلال الأول، في آذار (مارس) من العام ذاته، فيما صار يعرف بيوم الأرض (30 آذار).
في هذا الأسبوع، كان عشرات الآلاف ينزلون في سخنين تلاحماً واندماجاً مع “الضفة” والقدس.
الآن نبض كل فلسطين لا يهدأ... ويعلنها ثورة.
من حق هؤلاء جميعاً أن يستمر نبضهم ويهدأ في الوقت ذاته.. أن تترجم دماؤهم وأغنيات هذه الدماء ودبكاتها وحزنها وفرحها ودموعها إلى حرية، وكرامة، وعدالة. وأن يتخرج من في المدرسة متعلماً حيّاً، وأن تفتح مكتبة بهاء عليان أبوابها.
هل يعي العالم أن النبض لن يهدأ إلا بالحرية؟

- انتهاء المرحلة الأولى من “الانتفاضة” فهل تبدأ الثانية؟

لا يمكن القول بأنّ ما تشهده فلسطين حتى الآن، هو انتفاضة بالمعنى الحرفي والاصطلاحي. فالانتفاضة، كما قال أحدهم أو إحداهن (لا أذكر) في مؤتمر علمي، هي كأن تمسك قطعة قماش مبلولة تنفضها بقوة، فتتحرك كل ذرة في القطعة. وهكذا كانت انتفاضة العام 1987؛ بدأت شعبية كاملة، يشارك فيها كل شخص تقريباً. والفضل في ذلك كان، أولاً، للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، التي تشكلت من أربعة فصائل (فتح، والجبهتان الشعبية والديمقراطية، والحزب الشيوعي)، وحددت برامج عمل شهرية. وثانياً، تشكل حركة “حماس”، من دون إغفال دور “الجهاد الإسلامي”. وحتى الآن، هناك شرائح واسعة من الفلسطينيين تدخل فعاليات شعبية، أو هي على تخومها.
البيئة الآن مهيأة بالكامل تقريباً لتحرك شعبي شامل.
كان يوم الاثنين الماضي يوما مُربكا إلى حد ما؛ إذ بدأ الإسرائيليون بتزييف عمليات طعن، وأفعال مقاومة. مثل ادعاء مستوطنين أن فتاة مدرسة في القدس تحمل سكينا لطعنهم، وأُطلق الرصاص عليها؛ أو حدوث جدل بين فتاة فلسطينية في حيفا مع سائق أجرة إسرائيلي، فاتهمها السائق بمهاجمته على خلفية وطنية، واحتجزت من قبل المستوطنين الإسرائيليين في حيفا وصُوّرت. وكذلك قصة الشاب الذي كان محتجزا لدى الشرطة الإسرائيلية ويكيلون له الإهانات، وعندما لم يعد يستطيع الصبر على الإهانات والتنكيل، هب يدافع عن نفسه، فأردوه برصاصات كثيرة. بدا الأمر، للوهلة الأولى، غريباً؛ فالإسرائيليون يستفزون ويقودون الأمر نحو المزيد من التصعيد، لكن الأمر في الواقع يمكن فهمه. فالإسرائيليون لديهم من العدائية والتطرف اليميني، في هذه المرحلة، ما يصور لهم أنّهم يجب أن يمارسوا أكبر قدر من العنف عندما يتمكنون من ذلك. وكل الحالات التي شهدناها يوم الاثنين الماضي تقريباً، كان محورها مهاجمة مجموعة إسرائيلية لفرد وحيد وحده، واصطناع قصة تبرر التنكيل به، من دون تجاهل عمليات المقاومة التي قام بها أفراد حقاً.
سرعان ما تشكلت آلية مواجهة فلسطينية، وصار الشباب يتحركون في جماعات، وليس فرادى، بطابع مدني شعبي؛ فيذهبون لمراكز الشرطة الإسرائيلية يحتجون على الاعتقال. وصار هناك درس أول: “كونوا جماعات”. وخرجت مسيرات بالآلاف في الداخل الفلسطيني.
صرنا نرى مشاهد تذكّر بالانتفاضة الأولى العام 1987؛ عندما كانت النساء والمسنون يهبّون للوقوف بوجه الجنود لمنعهم من اعتقال شبان، أو إطلاق النار على أطفال.
لقد تجاوز الوضع في فلسطين الآن المرحلة العفوية الأولى لأي تحرك شعبي مشابه. والآن، إمّا أن تنتقل الحركة الشعبية لمرحلتها الثانية، حيث يتطور حاليا نوع من قواعد العمل غير المكتوبة بالضرورة، وحيث تنشأ لجان وأنوية وقيادات ميدانية تحدد برامج عمل، منها ما هو موقعي ومنها ما هو شامل جامع؛ أو أن يتم فقدان الزخم الشعبي.
سيكون السؤال: هل تتبلور قواعد العمل ويتم تمثلها؛ وهل تنشأ برمجة العمل الميداني، ثم يتناغم معها الأداء السياسي؟
لا توجد قوة في العالم، مهما كانت، تستطيع أن تعترض علناً على انتفاضة شعبية شاملة، يعبر الشعب فيها عن مطالبه بحقوقه. وعدم القيام بهذه الانتفاضة الآن، هو هدر للطاقة الشعبية، وترك للأمور لتفلت في اتجاهات مجهولة.
هناك واقع موضوعي، مثل تقسيم الأراضي الفلسطيني؛ (أ) و(ب) و(ج)، حيث الجيش الإسرائيلي يدخل مناطق “ب” و“ج” متى شاء فقط، ما يمنع انتفاضة بالشكل القديم. لكن تطوير آليات الاحتجاج الجماهيري، ومقاطعة البضائع، والإضرابات الهادفة المدروسة التي تمس بالاقتصاد الإسرائيلي، كلها أمور ممكنة. وهناك ما يكفي من الكوادر ذات التجربة والخبرة، ومعها طاقات شبابية كبيرة، قادرة على تحديد إيقاع الحركة الشعبية، وتقديم الصورة التي تريدها للانتفاض، وأن تحدد هي وسائل العمل، لا ما يريده الإسرائيليون.
يمكن للحركة الشعبية أن تكون شاملة؛ تضم كل مفاصل ومكونات الشارع الفلسطيني، وأن تنشأ سريعاً وتتجدد حركات التضامن العربية والدولية. هناك فرصة سانحة، لا يجدر تضييعها. ووظيفة القيادة السياسية المبادرة والنطق باسم الشعب وحركته، وتقدم صفوفه.

- الأميركيون والقيادة والشعب في الانتفاضة

أتناول في هذا المقال مجموعة أفكار أساسية، أعتقد بأهميتها لتشخيص اللحظة الفلسطينية الراهنة، وتحديدا تناول مثلث “الموقف الدولي، والموقف”القيادي“الفلسطيني، والبعد الشعبي”.
1 - العامل الدولي والعربي في تفجير الانتفاضة
عندما تم التأريخ لانتفاضة العام 1987، كان من ضمن ما قيل كثيراً أن تراجع الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية، كان من عوامل تفجير الانتفاضة. حينها، تكرس الانتباه إلى الحرب العراقية-الإيرانية، واستأثرت هذه الحرب، مثلا، بأجندة أعمال القمة العربية التي عقدت في عمّان، قبل تفجر الانتفاضة بأيام، فكانت سبباً في تحريض الشعب الفلسطيني لينتفض وينهي هذا الإهمال، وينهي السنوات العجاف في العمل السياسي والنضالي التي خيّمت بعد خروج الثورة من لبنان العام 1982. وفي هذا العام، 2015، كان الإهمال الدولي، وخصوصاً الأميركي والأوروبي، للقضية الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، شبيهاً بإهمال القمة العربية العام 1987. فالأميركيون، وتحديداً الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، رضيا بغنيمة الاتفاق النووي مع إيران، وقررا إهمال الشأن الفلسطيني، والاستسلام لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وفضلا عن الإهمال العالمي، هناك الإهمال العربي. ومن مظاهره، عدم تقديم أي شبكة أمان مالي للفلسطينيين لمواجهة العقوبات الصهيونية.
بل ويمكن المقارنة بين ما يحدث في حصار قطاع غزة، ومخيم اليرموك في سورية، وقبله نهر البارد في لبنان، من نكبة متجددة، مع حرب المخيمات في لبنان منتصف الثمانينيات من قبل النظام السوري وحلفائه، لتكون أسباباً لإنضاج ظروف التحرك الشعبي.
2 - دور القيادة والشعب
يتحدث أحد الكوادر القيادية لانتفاضة العام 1987، بأنّ أكثر ما يخشاه بشأن “الهبّة” الفلسطينية الراهنة، هو أن لا يكون هناك تصور لإدماج الجميع في الحركة الشعبية. ويقول إنّ نتائج هذا تعني، أولا، أن ينظر قلة أنّهم فقط من يناضل ومن يقرر. وثانيا، أن يَنظر الأغلبية لأنفسهم على أنهم متفرجون وضحايا ومساندون عن بعد، ما يعني شعورهم بالعجز وعدم فهم ما يحدث، وأنهم ليسوا شركاء، فلا تكتسب الهبّة زخمها، أو تفقد بوصلتها.
في الواقع، إنّ من مظاهر أهمية وجود جهة تحدد وجهة الحراك الشعبي: أولا، منع الانجراف وراء مظاهر عمل غير منسقة، وقد تكون مضرة، من مثل عسكرة العمل الشعبي على نحو غير مدروس. ولكن الأهم، ثانيا، إحداث تعبئة شعبية لفعل جماعي ذي أهداف واضحة. وثالثا، ترجمة الطاقة الشعبية سياسياً.
ليست وظيفة أي قيادة فلسطينية هي الموافقة أو دعم أو مساندة أو رفض وإيقاف مظاهر معينة من النضال، من مثل تأييد ومساندة المقاومة الشعبية والفعل النضالي الشعبي، أو منع الاحتكاك مع الاحتلال، بل مهمة القيادة أن تقود هذه المظاهر، وتدعو لها وتتقدم الصفوف والنطق باسمها.
3 - توقف تعداد الانتفاضة
من دون القيادة التي لا تؤيد الانتفاضة الثالثة وحسب، بل وتحدد مساراتها وشكلها، وتدفع ثمن ذلك، سيصعب استمرار الانتفاضة، وسيصعب أن تحقق هذه الحراكات الشعبية الأهداف الوطنية الفلسطينية. ولكن ما سيحدث أنّ العالم قد لا يتحدث عن انتفاضة ثالثة، وإنما سيصبح الحديث بدلا من ذلك عن انتفاضة 2015، ثم انتفاضة العام 2016، وربما يصبح في العام الواحد أكثر من هبّة أو انتفاضة، كأن يقال هبّة 2016 الأولى، وهبّة 2016 الثانية، وهكذا. فالظرف الموضوعي المتمثل في الاحتلال والاستيطان والعنجهية والاستفزازات، مع حالة الانسداد في وضع كثير من القطاعات الخدماتية التعليمية الفلسطينية، واستمرار تعثر الحل السياسي، وعدم نجاح كل “الخطط” الدبلوماسية الفلسطينية في إحداث أثر حقيقي في حياة الفلسطينيين اليومية، وتحقيقها أهدافهم الوطنية ووصولهم إلى حريتهم وكرامتهم، كلها ستُنضج الظروف لاستمرار الهبات وعمليات مقاومة. ويقوم الاحتلال بدوره بالمبالغة فيها، ومحاولة استخدامها مبررا للمزيد من ارتكاب الجرائم والتطهير العرقي.
السياسات العالمية والإسرائيلية تُنضج الظروف للمقاومة والمواجهة. وعدم وجود قيادة تحدد إيقاع العمل الشعبي المقاوم، يؤدي إلى جعل الحركة الشعبية المنتفضة متقطعة، وبما يعني المزيد من المعاناة وعدم الاستقرار، بقدر ما يعني استمرار النضال.

- تغيير “الشيفرة” الفلسطينية

يستخدم باحثو “علم اجتماع اللغة” تعبير “Code Switching” (وهو ما وجدت أنّ البعض يترجمه بتعبير “تبديل الشيفرة”، دلالة على تغيير المتحدث لغته أو لهجته. فما إن تجد نفسك في سياق مختلف اجتماعياً أو سياسياً... إلخ، حتى تغير طريقة الحديث باللهجة، وربما حتى منطق الحدث والفكر). ويقوم الفلسطينيون بهذه العملية ببطء منذ سنوات، والآن هناك تسريع فائق في العملية.
عندما جاءت “أوسلو” وما صاحبها من اتفاقيات، حاول البعض تغيير الشيفرة كليّاً، ووضع أسس جديدة للمنطق والفكر والفلسفة. وأذكر حيرتي وأنا أقرأ لكاتب فلسطيني يكتب حينها في مطبوعة “ثورية”، أنّه في العصر الجديد إذا استدعى الأمر التعاون مع شركة “موتورولا” الإسرائيلية فلا بأس، فالأمر الآن مصلحة الدولة الفلسطينية، وطن الفلسطينيين، بحسب منظوره يومها. وبعد “أوسلو”، صارت هناك ورش عمل للسلام بين المثقفين، وانتشر تعبير الـ“NGOs”، للتعبير عن نمط جديد من المنظمات غير الحكومية المتصلة بالتمويل الغربي وأجنداته، هذا رغم أنّ الجمعيات الأهلية الفلسطينية كانت قبل ذلك جزءا من الثورة والنضال.
لقد كان “تغيير الشيفرة” كبيراً؛ ففلسطين كانت تتقزم لتصبح الضفة الغربية وقطاع غزة، ومنظمة التحرير تتنحى لصالح “السلطة”، و“حركة التحرير” تتنحى لصالح “التنظيم”... إلخ.
على مدى سنوات، كان خطاب “أوسلو” يضعف ويختفي، بفضل الاستيطان الإسرائيلي والطمع الصهيوني الرافض لحل الدولتين، والإصرار على أخذ كل شيء، من دون أي حل وسط. وعلى سبيل المثال، صارت محاولات التطبيع مع الإسرائيليين على المستويات الثقافية والندوات واللقاءات (من قبل الـNGOs) محدودة جداً، وتجري -كما الجريمة- بصمت وسرية، وما يصل إلى العلن يواجه بناشطين يذهبون للفنادق والقاعات التي تسمح لنفسها باستضافة هذه النشاطات ويجري فضحها ووقفها بقوة الرأي العام الوطني. وتبرأ كثيرون من أي نشاط “تورطوا” فيه في الماضي. ثم تجددت عملية المقاطعة الاقتصادية، وسقط (إلى حد كبير) تقسيم فلسطين؛ فعادت الحركة الوطنية الفلسطينية تلتقي في نشاطات موحدة في كل فلسطين التاريخية، فضلا عن الشتات. ففي قرية باب الشمس، المضادة للاستيطان، التقى أبناء وبنات سخنين وعكا وأم الفحم وغيرها (من أراضي الاحتلال الأول، العام 1948)، مع أبناء البيرة وبيت لحم وغيرهما (أراضي الاحتلال الثاني، العام 1967)، وتوحدوا في رفض “مخطط برافر” (في النقب المحتلة العام 1948)، وهكذا. كان هذا تغييرا في الشيفرة، سببه الاحتلال الذي رفض عرض القيادة الفلسطينية بأن يتجرع الفلسطينيون حل الدولتين المر كالعلقم وأكثر.
كل هذا بدا أنّه وصل ذروته وبدأ الانحدار، وبدت حركة المقاومة الشعبية كمن تفقد وقودها، وأنها تتعرض لهزات لأسباب كثيرة. وتعزز المخطط الاستيطاني الإسرائيلي الذي يريد أن يخطو خطوتين جديدتين. أولاهما، تغيير واقع المسجد الأقصى والقدس. والثانية، توسعة المستوطنات في المناطق (ج)، وتحقيق طرد سريع وبطيء للفلسطينيين من هناك. وبدت انتفاضة فلسطينية جديدة فرصة سانحة لتحقيق هذا، بالقيام بعمليات طرد، مع التذرع بأنّ هذا رد فعل غاضب على عمليات فلسطينية. ومن هنا وجدنا الخطاب الرسمي الفلسطيني يحذر من ذلك، من دون الأخذ بالاعتبار بأنّ للانتفاض وسائل وأشكال كثيرة، من مسؤولية القيادة تحديدها، لا التحذير من أشكالها غير المناسبة وحسب.
العمليات الفردية التي تكررت على نحو مذهل فلسطينيا، خلال الأيام الماضية، هي “تبديل في الشيفرة”. ولجان حراسة القرى، هي “تبديل في الشيفرة”؛ يخبر المستوطنين كم هم واهمون عندما يتخيلون أن اجتياحهم الأراضي الفلسطينية يمكن أن يجري بذات سهولة اجتياح جيشهم للجيوش العربية العام 1948 أو العام 1967، كما تخبر القيادة أنّ “منطق الحركة الشعبية” يسبق الرسمي دائماً.
لدى الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، والفلسطينيين، القدرة على تغيير الشيفرة والعودة للهجة الحقيقية. حاولوا ويحاولون الحديث باللهجات واللغات التي يفهمها مسؤولو الحكومات الغربية الذين تخلوا عنهم في الأمم المتحدة نهاية الشهر الماضي؛ حاولوا إظهار أقصى مرونة ممكنة. والآن، اضطرهم عدوهم، ويضطرون هم، للحديث بلغة سيشاهدها خصومهم أكثر مما سيسمعونها. ويمكن لقيادة حكيمة أن تحدد لغة المرحلة بحكمة؛ من دون مصادرة الطابع الشعبي غير المركزي، ولكن مع برامج واضحة جامعة. حينها، سيأتي القادة الذين أهملوا فلسطين الشهر الماضي في نيويورك، لتعلم اللهجة الجديدة، والحديث مع الناطقين بها.

- فينيق أكتوبر

من العبث أن تجد شهراً أو أسبوعاً فلسطينيا ليس فيه من الأحداث ما يجعله مميزا. وبالنتيجة، لا يوجد تاريخ مميز؛ فكلها مليئة بالأحداث. ولا يمكن أن تخاطر بذكر كوكبة شهداء أو أبطال ينتمون لمكان ما، أو استشهدوا في زمن ما، إلا وظهر لك نُقصان عملك، وجاءك من يذكرك بآخرين تعرفهم، وتقدرهم، ولكنك نسيتهم. ولكن يبقى جائزاً وطنيّاً وإنسانياً أن نكون انتقائيين، أو أن نسمح للذاكرة أن تنتقي؛ فقدرة النفس على التحمل لا تسعف الذاكرة، والذاكرة تنتفض كل حين بذكريات الحدث وذكرى الأحبة.
في هذا الأسبوع من تشرين الأول (أكتوبر) 2015، بينما فلسطين تعلن “القيامة”، تأتي ذكرى حرب، وذكرى رجل (أو فتى)؛ ذكرى حرب العام 1973، وولادة خليل الوزير (أبو جهاد) يوم 10/ 10/ 1935.
المُشتَرَك في المناسبات الثلاث (الحاضر والحرب والوزير) أمران. أولهما، الخروج من الهزيمة. وثانيهما، هزيمة المنطق، أو بكلمات أدق، اكتشاف المنطق الآخر.
عندما قام الجيش المصري، بالتنسيق مع نظيره السوري، بحرب العام 1973، بغض النظر عن كل الملابسات والتداعيات السياسية والعسكرية للحرب، فإنّها كانت خروجا من هزائم عدة للجيوش، أهمها نكسة حزيران (يونيو) 1967. واستخدمت في تلك الحرب أساليب تخرج عن منطق المألوف والمتوقع؛ من مثل تدمير خطوط الدفاع الإسرائيلية (خط بارليف - الساتر الترابي على قناة السويس) بخراطيم مياه، ونجاح خطة التمويه والوصول للحرب بشكل سري.
لأنّ خليل الوزير استمر في النشاط منذ تأسيس “فتح” نهاية الخمسينيات وانطلاقتها في الستينيات وحتى استشهاده يوم 16 نيسان (أبريل) 1988 في تونس، يوجد لدينا رصيد من الذاكرة نسترجعه عنه. لكن هذا لا يعني أنّه ليس هناك من كان بسويته من حيث الاستعداد للفعل الثوري، ومن هؤلاء -مثلا وممن يجدر استكشافهم أكثر- كمال عدوان، الذي ولد في ذات عام ولادة الوزير، وأحد الذين أسسوا “فتح”، وأسسوا الثورة، ولكنه استشهد مبكرا باغتياله في بيروت من قبل كوماندوز اسرائيلي العام 1973. لكن سواء أكان الوزير، أو عدوان، أو حتى من كان أكبر منهما سناً قليلا؛ جورج حبش، طالب الطب في بيروت نهاية الأربعينيات، فإنّ كل هؤلاء وغيرهم، كانوا أيضاً خروجاً عن المنطق السائد، وصناعة منطق جديد.
لو ترك الأمر للمنطق وتحليلات السياسة، لكان عبثاً في زمن الثنائية القطبية، والقوى العظمى، والجيش الإسرائيلي “الذي لا يقهر”، أن تبدأ ثورة. لكن حتى أكثر محللي السياسة واقعية، كرائد المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية هانز مورغنتاو، لا يرى في القوة إلا أنّها أثر إنسان على عقل إنسان.
خليل الوزير وعدوان وهما شابان لم يصلا الثامنة عشرة، قررا المواجهة، بغض النظر عن دقة التأريخ لما فعلاه حينها، وجورج حبش ووديع حداد طلبة الجامعة في بيروت، كأنهما قررا التعامل مع منطق العقل والإنسان وقوته وإمكاناته الغامضة، وتفجير الكثير من منطق الزمن السائد بقوة الجيوش والمال والسياسة. ولحق بهم أحمد ياسين، الشيخ الذي افتقد بسبب المرض كثيرا من قدرات الجسد، ولكنه أطلق حركة “حماس”؛ فكان يطلق قوة عقله وقوة الإنسان من عقالهما، ويعلن أنّ للثورة منطقا آخر.
الشباب الذي يتجه الآن في فلسطين، كما رأينا هذا الأسبوع، في عمليات فردية ومبادرات خاصة للقتال والتحدي، أشبه بطائر فينيق.
هؤلاء هم نتاج الوزير، وعدوان، وعرفات، وحبش، وياسين، ونتاج روح حرب أكتوبر. ربما لولا كل هؤلاء السابقين، لما كان هؤلاء اللاحقين.
هؤلاء نتاج العقلية التي تؤمن بعقل الإنسان وقدرته على الثورة. بعقلية حبش وحداد اللذين آمنا أنهما من جامعتهما في بيروت، وعيادتهما في عمّان، يمكن أن يصنعا “حركة القوميين العرب”؛ وعقلية الوزير وعدوان، وأنهما من مخيمات اللاجئين يمكن أن يصنعا “حركة التحرير الوطني الفلسطيني”؛ وياسين وأنّه من كرسيه المتحرك يصنع “حركة المقاومة الإسلامية”.
لا يمكن أن يستمر العمل الفردي الآن، ولا يمكن إلا العودة للأطر الجماعية، كالتي أوجدها هؤلاء السابقون.
الأطر الجماعية مشلولة. لذلك، هؤلاء الأفراد الآن، كطائر الفينيق يخرج من بين رماد المرحلة، يحمل جمرة يلقيها بانتظار اشتعالها في حقل بأكمله.
من ثورة كانت جماعية، لأفراد ثوريين الآن، لثورة ستكون شاملة، يصنعون منطق الأشياء.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 75 / 2165340

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165340 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010