الجمعة 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2015

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة

الجمعة 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2015 par د. مصطفى يوسف اللداوي

- الآمال المرجوة والأهداف الممكنة

ينظر البعض إلى انتفاضة القدس الثانية، على أنها انتفاضة الثورة والتحرير، والاستقلال والسيادة، والعودة والدولة، وأنها خاتمة النضال، ونهاية الأحزان، وبداية مواسم الأفراح، وأنها بقدر الوجع والألم، والحزن والسقم، والقتل والاعتقال، والتدمير والتخريب، ستكون نتيجتها سعادةٌ وفرح، ونشوةٌ وابتهاجٌ، وستتلوها احتفالاتٌ ومهرجانات، وأفراحٌ وليالٍ ملاح، وأن ليلها سينجلي عن صبحٍ أبلجٍ، وسيبدد نور النهار ظلمات الاحتلال وليله الأسود الحالك، وسيفرح بعدها ذوو الشهداء، وسيرضى الجرحى والمرابطون، والأهل في الوطن والشتات، إذ تحققت أمانيهم، ونالوا ما كان يطمحون إليه ويأملون فيه.

لعل هؤلاء يظلمون الانتفاضة، ويحملونها أكثر مما تحتمل، ويتوقعون منها أنها ستحقق ما عجز عنه الأولون، وما تأخر عن إنجازه السابقون، وأنها ستكون أقوى من الانتفاضات التي سبقتها، والمقاومة التي عبدت لها الطريق، واستخدمت في مسيرتها الرصاصة والقنبلة، والصاروخ والقذيفة، وكان للاستشهاديين فيها دورٌ كبيرٌ وأثرٌ فعال، وسقط خلالها آلاف الشهداء والجرحى، واعتقل آلافٌ أمثالهم وأكثر، ومع ذلك فما حققت الكثير مما نأمل من هذه الانتفاضة المقدسية المباركة الثالثة، وإن كانت تخيف المحتل، وتربك حكومته، وتنشر الذعر والهلع خوفاً من الطعن بين سكانه.

إنهم يثقلون كاهل الفلسطينيين في الوطن، ويأملون منهم أكثر مما يتوقعون بأنفسهم أو يستطيعون بقدراتهم، ولعلهم بما يأملون منهم يكبرون حجر الانتفاضة أكثر مما ينبغي، وينسون أنها انتفاضة سكينٍ لا أكثر، وأن كل طعنةٍ تكلف الشعب شهيداً أو أكثر، ويُكلفُ ذووه من بعده الكثير، إذ يُسجنون ويُعتقلون، وتدمر بيوتهم وتهدم، وتسحب هوياتهم ويطردون من القدس إن كانوا من سكانها، وقد تضيق عليهم سلطات الاحتلال أكثر، ليكونوا درساً لغيرهم وعبرةً لسواهم، لئلا يمضي على دربهم أحد، أو يقلدهم آخر.

نحن لا نحبط أحداً، ولا نقتل آملاً، ولا نسبح عكس التيار، ولا نتحدث بلسان غيرنا ونعبر عن أماني سوانا، بل نتحدث بلسان الشعب في الوطن وأهلنا في الميدان، بلغةٍ واضحةٍ رصينةٍ موزونة، ونريد أن نكون واقعيين ومنطقيين، فلا نخطئ الحساب، ولا نسيئ التقدير، ولا نرفع السقف عالياً ثم نعجز، أو نضخم الأهداف ثم نضعف عن تحقيقها، أو لا نستطيع الوصول إليها، فنحبط أنفسنا والأمة، ونضر بالشعب ونلحق بالقضية الأذى، ونخسر ما ضحينا، ونفقد الشهداء وما قدمنا.

الفلسطينيون في الوطن إذ يشكرون الأمة العربية والإسلامية على مواقفها وتضامنها، وتأييدها ومساندتها، فإنهم يأملون منهم أن يفكروا بعقل من يقيم على الأرض، ويسكن في الوطن، ويقاتل في الميدان، ويعاني ويقاسي، ويجد صعوبةً في الحركة والانتقال، وحمل السكين والسلاح، ويواجه بصدره العاري الخطر، ويتحدى بإرادته ويقينه جيش الاحتلال وآلة قتله الهمجية، وألا يظنوا أن المواجهة مع الاحتلال لعبةٌ سهلة، ومعركةٌ بسيطةٌ، فالعدو الصهيوني خبيثٌ ماكر، ويعرف ماذا يريد منا وماذا يخطط لنا، وهو القادر بسلاحه وعتاده، وقدراته وإمكانياته على أن يتقدم ويتفوق، أو هكذا يتوقع ويأمل.

ولعل الفلسطينيين في الوطن في هذا على حقٍ تام، فلا يشكك فيهم أحد، ولا يكابر عليهم آخر، رغم علمهم بصدق المتضامنين، وإخلاص المحبين، وأمل ورجاء المناصرين، ولكن صدق الأولون عندما قالوا أن أهل مكة أدرى بشعابها، فإن أهل فلسطين أدرى بعدوهم، وأعلم بمواجهته، وأقدر من غيرهم على مقارعته، في الوقت الذي يخاطبون الأمة كلها ويأملون منها أن تصدق قولهم، وأن تؤيد فعلهم، وأن تساندهم في انتفاضتهم التي يعرفون أهدافها، ويدركون أبعادها، ويعلمون يقيناً أنها ليست إلا خطوة كبيرة على طريق النصر والتحرير، وأنه سيكون لها ما بعدها يقيناً.

اعتاد الأسرى والمعتقلون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، أن يخوضوا إضراباتٍ عن الطعام، أو يمتنعوا عن الزيارة أو غيرها، ويضعون قائمة شروطٍ وعدة مطالب، تتعلق أغلبها بتحسين شروط اعتقالهم، واحترام حقوقهم، وتمكينهم من الاستفادة مما نص عليه القانون وسمحت به الاتفاقيات، ولكنهم لا يطالبون بالإفراج عنهم وإطلاق سراحهم، رغم أن هذا هو الأمل والغاية، وهو أسمى المطالب وأنبل الأهداف، لكن كونهم يعرفون أن هذا الهدف يستحيل على العدو تنفيذه إلا بقهر عمليات التبادل، فإنهم لا يحبطون أنفسهم ويضعون هذا الهدف الكبير ضمن سلسلة أهدافهم المنطقية والمعقولة، والممكنة التنفيذ والسهلة الإنجاز.

وعليه فإن انتفاضة القدس وفلسطين الثانية قادرةٌ بإذن الله، بتضحيات أبنائها وصمود شعبها، وإرادة المرابطين والمرابطات، والثابتين والثابتات، على أن تفرض على سلطات الاحتلال العودة بالأوضاع في المسجد الأقصى ومدينة القدس إلى ما قبل العام 2000، عندما كانت القدس مفتوحة أمام أهلها، والأقصى مشرعٌ للمصلين الفلسطينيين، والزائرين المسلمين، فلا يزاحمهم فيه أحد، ولا تحد من أعدادهم سلطة، ولا يفرض الاحتلال عليهم شروطاً، ولا يحاول تغيير تركيبة السكان فيها، وطرد العرب منها.

كما أن انتفاضة القدس قادرةٌ بإذن الله على منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي من مواصلة الاستيطان، ومصادرة الأراضي، وطرد السكان، وهدم البيوت والمنازل، وإبعاد المواطنين والأهل، ومداهمة البلدات والقرى، والتجوال في المدن ووضع الحواجز على الطرقات، وقادرةٌ على رفع الحصار عن قطاع غزة، وإكراه العدو على القبول بمشاريع التخفيف عن سكانه، وتسهيل حياته، وبناء ميناءٍ ومطارٍ له، يرتبط من خلالها بالعالم، ويتحرر بهما من قيود الجوار وشروط الأقوياء.

وهي قادرةٌ بإذن الله ما صمدت وبقيت، وما واصل أبناؤها المقاومة والمواجهة، وما وقف إلى جانبهم إخوانهم وأشقاؤهم العرب والمسلمون، على المطالبة بالإفراج عن الأسرى والمعتقلين، وتحريرهم من قيدهم وسجنهم، وفي مقدمتهم قدامى الأسرى والمعتقلين، والأسرى المرضى والأطفال والنساء والمسنين، أو تحسين شروط اعتقالهم، ومنع الاعتقال الإداري التعسفي، والتعذيب الوحشي في السجون.

تلك هي بعض الأهداف التي يتطلع إليها شعبنا من انتفاضته، والتي يسعى لتحقيقها بنضاله وتضحياته، ولعله سيمضي حتى يحققها أو بعضها، وسيرغم قادة الكيان وحكومته على القبول والإذعان، وله في انتفاضتيه السابقتين خير أسوةٍ ومثال، فالأولى أجبرته على الاعتراف بالشعب، والثانية أكرهته على الانسحاب من غزة، أما الثالثة فستكون نتيجتها بإذن الله أكبر مما نأمل، وأشد ألما مما يتوقع العدو ويخشى.

- الخليل تتقدم وشهداؤها يتسابقون

عجيبٌ أمرُها مدينةُ الخليل، مثخنةٌ بالجراح، ومسربلةٌ بالدماء، ومقيدة الأطراف، ومكبلةٌ بالقيود والأغلال، ومحتلة الأرض ومسكونة القلب، والاستيطان ينخر في كل مكانٍ فيها، والمستوطنون يجوبون بالسلاح في شوارعها، ويعتدون بوحشيةٍ على سكانها، وقد احتلوا طرقاتها وأزقتها الضيقة، وسكنوا بيوتها، وسوروا أسواقها، وملأوا طرقاتها وأغلقوها بمكعبات الإسمنت الضخمة، وسيطروا على حرمها الإبراهيمي، واستولوا على أغلبه، ومنعوا الآذان من على مآذنه، وكانوا قد سفكوا دماء المصلين فيه، ولكنها تأبى إلا أن تتقدم الصفوف، وتسبق الجميع، وتعلم الكل دروساً في التضحية والفداء، والمقاومة والجهاد، فما إن يرتقي منها شهيدٌ حتى يتبعه آخر، ويتلوه جديد، في مدينة الخليل أو في بلداتها وقراها، أو من الخليل ولكن في عموم الوطن فلسطين.

ويبقى اسم مدينة الخليل يتقدم الأسماء، ويسبق البلدات، وفي كل يومٍ تزف شهيداً أو أكثر، وتحيي عرساً أو تقيم احتفالاً، ولكنها تذيع قبل الشهادة نبأ طعنٍ أو دهسٍ، وإن كان بعضهم يقتلون اشتباهاً وريبة، وخوفاً وجزعاً، خاصةً في محيط الحرم الإبراهيمي وفي الطرق المؤدية إليه، إذ فيها وفي المدينة القديمة سقط أكثر الشهداء، ودارت أغلب العمليات، ولكن معين شباب الخليل لا ينضب، وسيلهم لا يتوقف، وهديرهم لا يهدأ، ولا هم يتراجعون، ولا يجبنون ولا يخافون، بل يتدافعون ويتزايدون، ويتنافسون ويتزاحمون، في مسيرةٍ نحو الشهادة يخشاها العدو، ولا يعرف كيف يفسرها ولا السبيل إلى مواجهتها، إذ كيف يصدون رجلاً أقسم على الله سبحانه وتعالى أن ينتصر أو يستشهد، وأن ينتقم ويثأر، أو يزرع في الأرض جسده ويروي ثراها بدمه، لتنبت من بعده رجالاً يصبغون الأرض، ويلونون سماء الوطن.

إنهم يعلمون أنهم على الحق، وأنهم يقاتلون من أجل حق، ويصدون عدواً بحق، اغتصب أرضهم، وعاث فيها فساداً، قتلاً واعتقالاً، ومصادرةً وبناءً، وجعل الحياة فيها مرةً ذليلة، والإقامة فيها حزينة أليمة، فماذا تراهم يفعلون، وكيف يتصرفون، ليس إلا أن يثبتوا أنهم رجالٌ لا يطأطئون الرأس، ولا يحنون الجبهة، ولا يهينون النفس ولا يسلمون الراية، ولا يخضعون للقوة القاهرة، ولا للاستعباد المذل، فما عيشهم إلا عزاً أو عيش الآخرة، وهذا ما عرفه عنهم الإسرائيليون وخافوا منه، حتى غدت مدينة خليل الرحمن التي يدعون أنها المدينة المقدسة التي اشتراها أنبياؤهم بأربعة شواقل، وسكنها أجدادهم وبنى فيها ملوكهم حصوناً وقصوراً، تطاردهم كشبح، وتلاحقهم ككابوس، فبزت غزة ونافستها، وهي التي ظنها المحتلون أنها ملعونة، وأن الموت يسكن في جبناتها وتحت أقدام جنودها، ويقفز من جوفها موتاً سراعاً، حتى هربوا منها، يضربون كعوب أقدامهم ببعضها فرحاً، أنهم من الموت نجو، وفي الحياة كتب لهم فيها يومٌ آخر.

العدو الإسرائيلي بجيشه ومستوطنيه ومتدينيه، وحكومته وأجهزته الأمنية، ينتقمون من مدينة الخليل، ويثأرون لأنفسهم منها، فيحاولون قتل أكبر عددٍ من شبانها وفتياتها، ويبادرون لقتلهم دون تحذيرٍ منهم، أو اشتباهٍ فيهم، فمن بين قرابة سبعين شهيداً هم شهداء انتفاضة القدس، قدمت محافظة الخليل وحدها ثلاثين شهيداً، وما زال عدد الشهداء في ازدياد، وأفواج الراغبين في الثأر والانتقام يتتابعون ويتزايدون، فما منعهم دمٌ مهراق، ولا صور أجساد الشهداء التي في الأرض تغرس، وسرادقات الزفاف تنصب، ووفود المهنئين لا تتوقف، وأمهات الشهداء قد حبسن دموعهن، وأخفين حزنهن، وكظمن غيضهن، ولكنهن أقسمن أن يلدن أبطالاً، وأن يأتين بأولادٍ ينتقمون، وأن ينجبن أجيالاً يحملون الأمانة، ويرفعون الراية، ويمضون على طريق المقاومة.

كأن العدو الصهيوني قد صمم أن ينتقم من أبناء محافظة الخليل أكثر من غيرهم، ليكسر شوكتهم، وليحد من شره اندفاعهم نحو الشهادة، ويمنع غيرهم من الالتحاق أو المواصلة، فقتل الفتيات واستهدف الأمهات، ونكل بهن أحياءً وشهيداتٍ، واحتجز جثامين الشهداء، ومنع ذويهم من استلامهم للصلاة عليهم ودفنهم، وما زال يرفض تسليمهم، في الوقت الذي يعجل بهدم بيوتهم، واعتقال إخوانهم وأقربائهم، ليضغط بذلك على العائلات ويرهقها، ليعلم المقاومون أن أهلهم من بعدهم لن ينعموا بالراحة، ولن تستقيم لهم الحياة كما يرجو الشهيد ويتمنى.

لكن فلسطين كلها وأهلها جميعاً لا يتركون الخليل وحدها، ولا يتخلون عنها، ولا يتركونها تقاتل ويتولون بعيداً عنها، ولا يقولون لها كما قال اليهود لنبيهم عند القتال وساعة الحرب، اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون، بل يقولون لها ولأبنائها، نحن معكم وإلى جانبكم، نساندكم ونؤيدكم، ننصركم ونخفف عنكم، ونقاتل معكم ونصمد وإياكم، نصنع النصر معاً، وننسج خيوط العزة سويةً، فإن كنتِ قد سبقت فأنت لنا الرائد ولزحفنا القائد، نتأسى بك ونقتدي، ونتعلم منك ونهتدي، فافعلي يا خليل الرحمن ما تؤمرين، فستجدينا معك إن شاء الله من الصابرين.

شهداء الخليل فلذات أكبادها، ومن عيون عائلاتها، ينتمون إلى بطونها الكبيرة، وأسمائها اللامعة الشهيرة، الذين تضرب شهرتهم في عمق الأرض ومدى التاريخ، وهم قرة عين أهلهم، ومهجة فؤادهم، وليسوا فقراء ولا معدمين، ولا بائسين ولا محبطين، بل إنهم يغلون شباباً، ويمورون ثورةً، ويتقدون حيويةً، ولكنهم لا يستعظمون الحياة أمام فلسطين وقدسها، وأمام الأقصى وأهله.

إنهم رجالٌ ينتمون إلى فلسطين وينتسبون إلى هذا الوطن، قد عرفوا أن الكرامة تعني الرأس المرفوع، والقامة المنتصبة، والصوت العالي المسموع، والإرادة الحرة، والعزة والشمم، والإباء والسنم العالي، وهذا كله لا يكون بالذلة والخنوع، ولا بالخوف والجزع، إنما يكون بالقوة والبأس، والشدة والعزم، فمضوا وكأنهم يشقون طريقهم إلى مجدٍ هم يعرفونه، وشرفٍ يرومون نيله، فهنيئاً لنا بهم، وهنيئاً لفلسطين بخليلها وأبنائها.

- قراءة في مشروع كيري حول الأقصى

للوهلة الأولى وقبل الدخول في تفاصيل اتفاق كيري – نتنياهو حول الأقصى، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن مباشرةً، أن هذا الاتفاق إنما هو مصلحة إسرائيلية، بل هو مسودة مقترحات إسرائيلية قديمة وقد كانت جاهزة ومعدة، نقلت إلى جون كيري، الذي حملها وسوقها وعرضها بصفته وشخصه، وحاول تمريرها على الفلسطينيين والعرب بضمانة ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية، مدعياً أنها لصالح كل الأطراف، وأنها تعيد الأوضاع في المسجد الأقصى ومدينة القدس إلى ما كانت عليه قبل الأحداث، وأنها تحفظ حق الفلسطينيين والمسلمين فيه، ولا تحرمهم من شئٍ كان لهم، في الوقت الذي توقف فيه مسلسل القتل المستعر بين الطرفين.

لا يستطيع أي عربيٍ أو مسلم أن يعتقد ولو للحظةٍ عابرة، أن جون كيري جاء إلى المنطقة وهو يحمل حلاً لصالح الفلسطينيين، وأن مشروعه لتسوية الأزمة جاء منسجماً مع الطلبات الفلسطينية، واستجاب إلى شروطهم التي يطرحونها.

فالأصل لدينا يجب أن يكون الشك والريبة، لا الثقة وحسن الظن فيه، ولا الاعتقاد ببراءته ونزاهته، وأنه لم يأت منحازاً إلى الكيان الصهيوني ولا منتصر له، فهذا الاعتقاد إن كان فهو للأسف نوعٌ من السفه وقلة الوعي، ونقصان الخبرة وغياب التجربة، فما يأتِ من الإدارة الأمريكية خيرٌ لنا أبداً، ولا يرتجى منها الحل ولا الدواء، إذ هي المشكلة والداء، والتاريخ على ما نقول خيرُ شاهدٍ ويحمل أكثر من دليل، فكيف نرجو من نصير العدو وراعيه، وربيبه الذي يؤيه، أن يكون عنده الشفاء ومعه السلامة.

كيري جاء إلى المنطقة هازاً طوله ومستعرضاً مواهبه وقدراته، ومتبختراً ببلاده وقوتها، ليهزأ من العرب والمسلمين، وليضحك على ذقونهم، ويذر الرماد في عيونهم، ويوحي إليهم بأنه أرغم الإسرائيليين على الخضوع والقبول بشروطه، والالتزام بالحفاظ على القدس وأقصاها على الحال الذي كانت عليه قبل الأحداث.

غاب عن المفاوضين الفلسطينيين والعرب أن مقترحات كيري هي أحلامٌ إسرائيلية، وهي مخططاتٌ عندهم مدروسة، قد عملوا عليها وانتظروا الوقت المناسب لتنفيذها، فهو قد كرس بمقترحاته السيادة الإسرائيلية الكاملة على القدس الشرقية والمسجد الأقصى، وهي سيادة باطلةٌ بموجب القانون الدولي الذي يصف الكيان الإسرائيلي بأنه دولة احتلال، وباطلةٌ أيضاً بموجب اتفاقيات وادي عربة للسلام، المبرمة بين الكيان الصهيوني وحكومة المملكة الأردنية الهاشمية، التي أعطيت الحق بإدارة ورعاية المسجد الأقصى وبقية الأوقاف الإسلامية في مدينة القدس.

تفضل جون كيري على الفلسطينيين بادعاء أنه أجبر الإسرائيليين على السماح للمسلمين بالصلاة في المسجد الأقصى، والدخول إليه ساعة يشاؤون، ولكنه في الحقيقة ثبت السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، التي تستطيع أن تحدد صفات المصلين وأعدادهم، والأوقات التي يجوز أن يدخلوا إليه فيها، وظهر الإسرائيليون وكأنهم يتصدقون على الفلسطينيين ويحسنون إليهم، إذ يسمحون لهم بالصلاة، ويأذنون لهم بالدخول.

لكنه بالمقابل ثبت حق اليهود “وأصحاب الديانات الأخرى” بالدخول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه بعد إبلاغ إدارة الأقصى والتنسيق معها، ليخلو لهم الطريق، ويهيئوا لهم الفرصة، ويزيلوا من أمامهم العقبات، التي قد تكون أحياناً بعض المصلين المسلمين أو المرابطين فيه، لئلا يقع بينهما تصادمٌ أو خلاف.

إن الحفاظ على الوضع القائم الذي نفهمه نحن، والذي يجب على العالم كله فهمه، هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإعادة القدس إلى حضنها العربي والإسلامي، وإلى ما كانت عليه سابقاً تحت رعاية ومسؤولية وزارة الأوقاف الأردنية، التي يجب عليها أن تدرك وتعلم أن الكاميرات التي فرضها الجانب الأردني المفاوض، وطلب نصبها في جميع أنحاء المسجد الأقصى، لا تحقق السيادة العربية على المسجد، ولا تمنع الإسرائيليين من الانتهاك والاعتداء، ولا تحقق شيئاً إضافياً غير ما نرى ونشاهد، وما تسجله عدسات وسائل الإعلام وأقلام الصحفيين، الذين يسجلون الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى، بل إن الشرطة الإسرائيلية قد تستفيد كثيراً من التسجيلات في مراقبة كل ما يجري داخل الحرم، أي أن الكاميرات قد تكون في صالح العدو وتخدمه أكثر.

ونذكر الحكومة الأردنية بصفتها الطرف العربي المفاوض إلى جانب السلطة الفلسطينية، أن حائط البراق وباحته كان ضمن المناطق التي احتلها جيش العدوان الإسرائيلي في حرب حزيران 67، وقد قام الإسرائيليون بفرض سيطرتهم عليه، وأقاموا فيه حائط مبكاهم، ومنه أخذوا في التمدد والاتساع، والانتشار والسيطرة، وكأن ما اغتصبوه حقٌ لهم، لا يجوز تغييره ولا إعادته إلى ما كان، لذا فإن إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه تعني السيادة العربية الكاملة على كل مرافق المسجد الأقصى، بما فيها حائط البراق الذي يمثل لدى المسلمين جميعاً بداية المعراج، وعند الفلسطينيين والعرب رمز ثورة البراق، وذكرى الشهداء الأبطال، شمشوم وحجازي والزير، الذين قادوا ثورة البراق، وقدموا فيها أرواحهم فداءً للقدس وأقصاه.

ونحذر الحكومة الأردنية من مغبة الوقوع في الفخاخ الإسرائيلية، التي تتطلع إلى تشكيل لجنة تنسيق دينية، بين وزارة الأوقاف الإسلامية في الأردن ووزارة الأديان الإسرائيلية، تقوم بالتنسيق الديني بما يشبه التنسيق الأمني الفلسطيني الإسرائيلي، فهذا مقترحٌ يضر بنا، وينقص سيادتنا، ويتنازل عن حقنا، فلا نقبل به ولا نوافق عليه، فهو يخضع حقوقنا كلها للمناقشة والحوار، ويجعلها في موضع القبول أو الرفض.

أيها المفاوضون العرب، ما لهذا الحل ثار الفلسطينيون وانتفضوا، ولا لأجل هذه المقترحات ضحى الشباب بأرواحهم واستشهدوا، بل إن غايتهم كانت تخليص القدس والأقصى، وتحريرهما وتطهيرهما من الإسرائيليين، وإنهاء أي سيادة سياسية أو دينية لهم عليهما، والتأكيد على أن هذه الأرض المقدسة بما فيه الأقصى الشريف، أرضٌ محتلةٌ ومغتصبة بقوة السلاح، وأن سكانها وأهلها يخضعون لسلطة الاحتلال، التي يجب عليها احترام القوانين الدولية والالتزام بها، فلا تطرد سكانها، ولا تحدث فيها تغييراً ديموغرافياً، ولا تغير في تركيبتها السكانية، ولا تجري على الأرض تغييرات من شأنها تغيير الواقع الذي كانت عليه الأرض والمقدسات قبل الرابع من يونيو/حزيران عام 1967.

- انتفاضة القدس والتضامن العربي والإسلامي

لا شك أن أغلب الدول العربية باتت اليوم مهمومة بمشاكلها الداخلية، وتحدياتها الخارجية، وأزماتها البنيوية، وحاجاتها الخاصة، وصراعاتها البينية، وبعضها يتهددها خطر التفكك والتحول إلى دولٍ فاشلة وحكوماتٍ ساقطةٍ، لا أنظمة تحكمها، ولا قانون يسودها، ولا أمن يطمئنها، ولا سلام يجمعها، ولا اقتصاد يقيمها، ولا جيش يحفظ أمنها وسلامتها، ولا احترام ولا تقدير لها بين الدول، إذ لم تعد مستقرة ولا مفيدة، بل باتت خطرة ومنبعاً للشر، ومصدراً للفوضى والاضطراب، وما ذلك إلا لغياب حكمة القادة والحكومات، الذين ضاقت عيونهم عن المصالح العامة، وتفتحت على المنافع الشخصية، والمكاسب الفئوية والخاصة، فما عادت تهمها شعوبها ولا سكان أوطانها، ولو بقي منهم القليل، وهاجر أو هرب قبل السحق والموت الكثير.

هذه الحكومات أو أغلبها مشغولةٌ بذاتها عن انتفاضة القدس وتحدياتها، وقد لا تعنيها القدس بقدر عواصمها واستقرار الأوضاع لهم فيها، فبعضهم لا يرى فيمن تحتل القدس عدواً، ولا يشعر تجاهها بالخطر، ولا يتوقع منها الغدر، ويرى أنها أقرب إلى أن تكون صديقاً أو حليفاً، وناصراً ومعيناً، ومستشاراً وخبيراً، في مواجهة التحديات التي يواجهون، والأزمات التي يلاقون، إذ كلاهما يسميها إرهاباً، ويتعامل معها على أنها كذلك، قتلاً واعتقالاً، واتهاماً وتشويهاً، وتضييقاً وحرماناً، وعلى هذا قد يلتقون أو ينسقون، ويتعاونون ويتبادلون المعلومات والمخططات، لتكون ضرباتهم شاملة، واستئصالهم عميقاً.

لكن الشعوب العربية ومعها الإسلامية، رغم الجرح الغائر في جسدها، والدم الناعب بغزارةٍ من جراحها، والألم الذي يسكن قلوبها ويعيش في حنايا صدورها، والحسرة التي تملأها، والشتات الذي تعيشه، والتيه الذي تعاني منه وتقاسي، والهجرة التي باعدت بين أبنائها، وشتت أهلها، إلا أنها تهفو للقدس، وتتطلع للأقصى، وترنو عيونها إليها وإلى المقيمين فيها وفي أكنافها، والمرابطين والمرابطات في مسجدها، والمدافعين عن عروبتها وإسلاميتها، والمضحين في سبيلها بأرواحهم وكل ما يملكون، لتبقى القدس لنا عاصمة، والأقصى لنا مسجداً.

لا يأس يسكن قلوب أمتنا، ولا قنوط يهيمن على شعوبنا، وهي ليست مفلسة ولا محبطة، بل إن الأمل لديها اليوم أكبر وأعظم، وأكثر صدقاً وأشد تجذراً، وهي تندفع نحو النصر، وتسير باتجاه العزة التي هي لها، وهي ترى الشباب اليافع، والفتيات النضرات، يتسابقون بسكاكينهم، ويهرولون بفؤوسهم، ويندفعون بقوةٍ نحو العدو ليغرسوا في صدره خنجراً، أو يسكنوا أعناقهم سكيناً لا تخرج، وهم يعلمون أنهم لن يعودوا إلى بيوتهم إلا على الأكتاف محمولين، شهداء يلاقون ربهم، لكنهم سعداء بخاتمتهم، وراضين عن جهدهم، ومستبشرين بغد أمتهم ومستقبل شعبهم.

في المغرب كانت جحافلٌ سيارةٌ، وشعوبٌ هادرةٌ تهتف للقدس وتغني، وتزحف إليها وتمضي، وتجوب شوارع مدنها الكبيرة، رايتها واحدة، وشعارها مشترك، ووجهتها نحو القدس معروفة، تردد بصوتٍ واحدٍ مجلجل، “بالروح بالدم نفديك يا أقصى”، و“الانتفاضة مستمرة حتى تعود الأرض حرة”، و“لا لتهويد القدس”، و“كلنا ضد الاحتلال”، وغيرها من الشعارات التي تجمع، والكلمات التي توحد، مما نعرف عن المغرب وأهلها، التي لهم في القدس مكانٍ وبابٌ، ودربٌ وطريق، وإليها قد رحل الجدود وفيها قد سكنوا، وكانوا لها عمَّاراً وعنها مدافعين، فاليوم إليها يتطلعون ومن أجلها يخرجون.

وفي غير مكانٍ من عالما العربي، تخرج كل يومٍ مسيراتٌ تضامنية، وتنتظم احتفالاتٌ مؤيدةٌ ومناصرة، بعضها يخرج على استحياءٍ وبأعدادٍ قليلة، مما تسمح به الحكومات أو تساعد عليها الظروف الصعبة، وبعضها تخرج حاشدةٌ لاهبةٌ كبيرة، لها أولٌ وليس لها آخر، عيونها على القدس مصوبة، وقلبها على الشعب الصامد في فلسطين يتطلع، تهتف للقدس شعاراتٍ حفظتها، وتردد كلماتٍ آمنت بها، وكلها أمل أن تكون انتفاضة السكاكين كانتفاضة الحجر، تعيد الألق والأمل إلى القضية الفلسطينية، فتوحد أبنائها، وتجمع كلمة فصائلها، وتساعد في رفع الضيم والأذى، والشدة والعنت عن الشعب المعنى المحاصر، والمضطهد بسوء إدارة سلطته وفصائله، الذين لا يرون بعيون شعبهم، ولا يحسون بمعاناته، ولا يعرفون ألمه، ولا يهمهم شفاءه، بقدر ما يعنيهم بقاءهم في مناصبهم ومراكزهم.

وحيث العرب والمسلمون في الشتات، في المهاجر الجديدة والقديمة، يخرجون بحريةٍ أكبر، ويتضامنون بصدقٍ أكثر، رغم المعاناة التي قاسوها، والألم الذي ذاقوه، والأهوال التي عاشوها في البحار وفوق لجة الأمواج، إلا أن عظم ما واجهوا لا ينسيهم القدس، ولا يمنع تعلقهم بها، وحرصهم عليها، وتضامنهم مع أهلها، فكانت جماهيرٌ عربيةٌ على موعدٍ جامعٍ في شوارع هولندا وبلجيكا، وبريطانيا وفرنسا، وألمانيا والنمسا، وغيرها من الدول العربية التي تحتضن اليوم آلاف العرب الوافدين إليها، الذين لم يسكنوا بعد في دورها، ولم يلتئم شملهم بين جنباتها، إلا أن القدس عندما نادتهم لبوا النداء، وعندما استصرختهم أجابوا صرختها، وهبوا لنجدتها، وأخذوا معهم أطفالهم وصغارهم، واعتمرت نساؤهم الكوفية الفلسطينية، وزين بها رجالهم صدورهم، وذيلوها بالقدس عاصمةً، وبالأقصى أمانةً، وكانت قلوبهم قبل حناجرهم للقدس تهتف، ومن أجلها بكت عيونٌ وذرفت حزناً عليها دموعٌ.

الشعوب العربية والإسلامية حيةٌ صادقةٌ، مؤمنةٌ واثقةٌ، قويةٌ عفيةٌ، أبيةٌ عزيزةٌ، بصيرةٌ مدركةٌ، وما زال الأمل يسكن قلوبها ويعمر صدورها، ولا يوجد ما يهدد هذا الأمل، ويزعزع في صدروهم هذا اليقين، مهما أصاب الأمة من وهنٍ وضعفٍ، ومر عليها مرضٌ وسقمٌ، فإنها تبقى مؤمنة بحقها، ومتمسكةً بدينها، وحريصةً على ثوابتها وقيمها، والقدس بالنسبة لها قيمةٌ وآيةٌ من كتاب الله تتلى ولا تبلى، وتقرأ على مدى الزمن وتبقى، فلا يضعفها جور حاكم، ولا بطش محتل، ولا تآمر جاهلٍ أو حاقد.

- مشاهدٌ يومية وأحداثٌ دورية

كثيرةٌ هي المشاهد المؤلمة التي تشهدها أرضنا الفلسطينية في ظل انتفاضة القدس وقبلها، على مدى الوطن كله وامتداد شعبه في أرضه وشتاته، فلا يكاد يخلو يومٌ من مشاهد قاسية، وأحداث مؤلمة، باتت تجوب الأرض الفلسطينية كلها، وتوحد بالدم بينها، وتجمع بالمعاناة بين أطرافها، وتصبغ بالحزن أيامها، وتقوي بالإحساس الوشائج بين أبنائها، وتعمق بيقينٍ الأمل بين أهلها، حتى أصبحت مشاهد يومية، ومظاهر طبيعية تميز الأيام كلها، وتجعل منها حالاً واحداً لا يتغير، وزمناً متشابهاً متصلاً بلا انقطاع.

تحول الشطر الشرقي من مدينة القدس، حيث المسجد الأقصى وبواباته، والأحياء العربية الإسلامية فيها، بالإضافة إلى القرى والبلدات المقدسية، إلى ثكنةٍ عسكريةٍ إسرائيلية، وقد غصت شوارعها بمئات الجنود وعناصر الشرطة المدججين بالسلاح، وبدورياتٍ عسكرية راجلة وعرباتٍ عسكرية صغيرة وكبيرة، محصنة ومصفحة، وبدورياتٍ غيرها على ظهور الخيل، تجوب الأماكن الضيقة، وتدخل إلى الشوارع المخصصة للمشاة فقط، بالإضافةٍ إلى عناصر أمنية متخفية بلباسٍ مدني، ومجموعاتٍ إسرائيلية مستعربة بأزياء فلسطينية، وكأن مدينة القدس تحتل من جديد.

جميع الدوريات على أهبة الاستعداد، يحملون بنادقهم الآلية، وأصابعهم على الزناد جاهزة، وآخرون بالزي المدني أو من المستوطنين والمتدينين، يحملون مسدساتهم ويشهرونها باستفزازٍ وتحدي في وجوه المارة، يهددون بها ويتوعدون، ويستعدون لاستخدامها ضد أي فلسطيني يشتبهون فيه، أو يعتقدون أنه ينوي مهاجمتهم والاعتداء عليهم، وهم يعلمون أن قانونهم معهم، وحكومتهم تؤيدهم، ولا يوجد من يتهمهم ويحاسبهم، وعناصر الشرطة والجيش حولهم تحميهم وتدافع عنهم، وتعتقل كل من تشك فيه، أو لا يعجبها شكله أو هيئته، أو يلفت نظرها صوته وحديثه، أو حماسته واستعداده، ولا ينجو من الاعتقال أو الضرب امرأة ولا طفل ولا شيخ عجوز يمشي على عكازة.

لا تخلو بوابات المسجد الأقصى جميعها من مئات المستوطنين الإسرائيليين، والمتدينين المتطرفين، والمئات من طلبة المدارس الدينية الشبان، الذين يستفزون المارة، يسبونهم ويشتمونهم، ويؤذون مشاعرهم ويخدشون أحاسيسهم، ويستفزونهم بشتم العرب وسب الإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويرفعون أصواتهم بالشتائم والكلمات البذيئة والنابية، بينما تحميهم عناصر الشرطة الإسرائيلية، التي يحتمون بها وتدافع عنهم، حيث يستغلون وجودها للقيام بمزيدٍ من الاستفزازات والإهانات، في حين تقوم الشرطة بضرب وسحب واعتقال كل من فكر من العرب، من الرجال أو النساء، بأن يرد على طلاب المدارس الدينية اليهودية عليهم شتائمهم وإهاناتهم.

جميع المستوطنين الإسرائيليين لديهم القدرة على استخدام السلاح، بعد أن سمحت لهم قراراتٌ حكومية وأخرى تشريعية وقضائية، بجواز استخدام الأسلحة النارية للدفاع عن النفس، أو لرد الخطر وصده، وقد تبين بالصور الموثقة، أن مستوطنين مارةً، أطلقوا النار على فلسطينيين كانوا يتواجدون في محيط الأحداث، دون أن يكون لديهم علمٌ مسبقٌ أنهم مشتبهٌ بهم، أو أنهم قاموا بالطعن فعلاً، وقد سأل أحد المستوطنين بعد أن نفذ بيده عملية القتل، إن كان الفلسطيني القتيل قد طعن أو قتل أحداً، الأمر الذي يشير إلى أن الإسرائيليين يتعمدون استخدام الأسلحة النارية وتنفيذ القتل، بغض النظر عن وجود مبررات .

استغل المستوطنون الأحداث وانفلتوا من عقالهم، وكأنهم خنازير برية خرجت من حظائرها، يجتاحون من في طريقهم، فيدهسون ويصدمون، ويقتلون ويجرحون، ثم يدعون أنهم كانوا يدافعون عن أنفسهم، وأن من قتلوهم كانوا ينوون مهاجمتهم أو طعنهم، وهم يعلمون أنهم كاذبون، وأنهم فقط يحاولون تبرير فعلتهم، وتبرئة أنفسهم من الجريمة المقصودة، إذ يدسون في ثياب الضحية الفلسطيني سكيناً، أو يضعونها في يده، أو يلقونها بالقرب منه، والصور التي تنشر إثر كل حادثة تفضح ادعاءاتهم، وتكشف بشاعة أفعالهم.

كما عمد المستوطنون كعادتهم إلى مهاجمة البيوت والمنازل الفلسطينية في مختلف مدن الضفة الغربية، وخاصة تلك القريبة من المستوطنات الإسرائيلية، أو القريبة من الشوارع والطرقات العامة التي يرتادونها، ويمطرونها بالحجارة، ويكسرون النوافذ الزجاجية والأبواب الخارجية، كما يقومون باعتراض سيارات الفلسطينيين المارة، ويقذفونها بالحجارة، يهشمون زجاجها، ويؤذون ركابها، وفي حال توقف بعضها ونزول سائقها ، فإنهم قد يقتلونه بتهمة محاولة دهسهم والاعتداء عليهم.

أما في مدينة القدس وبلداتها العربية، فإنهم لا يكتفون بمهاجمة البيوت والمنازل وقذفها بالحجارة، بل يقوم بعض المستوطنين باقتحامها، ويخرجون السكان عنوةً وبالقوة العنيفة منها، وأحياناً تحت سمع وبصر جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين يكتفون بالمشاهدة، أو بحماية المستوطنين في حال تعرضهم للخطر، الذين يقومون برمي أثاث سكانها العرب خارج البيوت، ويجبرونهم على المغادرة تحت تهديد السلاح، ثم يحتلون البيوت ويقيمون فيها، ويأتون معهم بنساء وأطفالٍ للإقامة في البيوت المغتصبة، بينما تقف الشرطة الإسرائيلية عاجزة عن إخراجهم، وتطالب العائلات الفلسطينية المتضررة باللجوء إلى البلدية أو القضاء للنظر في قضيتهم، والمطالبة بإخراج المستوطنين منها، على أن يبقى الحال على ما هو عليه حتى يقول القضاء كلمته.

يظن الإسرائيليون أن الإجراءات المشددة، والعقوبات المغلظة القاسية التي قررها رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو ضد المتظاهرين والثائرين الفلسطينيين وذويهم، أنها ستحد من اندفاعهم، وستضع حداً لغضبتهم، وستجبرهم على العودة إلى بيوتهم، والقبول بالمستجدات اليهودية، وستجعلهم يغضون الطرف عن استفزازات المستوطنين والحاخامات، ومحاولات الاقتحام المتكررة التي يقوم بها ساستهم المتطرفون، ووزراؤهم ونوابهم المتشددون، لكن الواقع أثبت غير ذلك كلياً، وأسقط معادلتهم، وسيفشل مع الأيام رهانهم، وسيعلمون أن الفلسطيني قرر أن يقاوم بعنادٍ، فيستشهد عزيزاً، أو يثبت صامداً، وأنه لن يسمح أبداً لمخططاتهم أن تمر أياً كانت التضحيات والدماء المبذولة، حمايةً لمقدساتهم، وحفاظاً على وجودهم الخالد في الأرض المقدسة.

- مراسم وفاة ودفن الانتفاضة

في الخفاء وفي العلن، وعلى مشهدٍ ومسمعٍ من العرب والمسلمين، بدأت المراسم الرسمية لإعلان وفاة الانتفاضة، والشروع في إجراءات دفنها ومواراتها تحت التراب، والتخلص من شبحها المخيف، وحضورها الكابوس، فقد نشطت الجهود والمساعي الدولية لإنقاذ الكيان الصهيوني من الورطة التي أوقع نفسه فيها، والأزمة التي خلقها بسفاهته لنفسه، فهو لم يصعد شجرةً ولم يستطع النزول عنها، بل حشر نفسه في جحرٍ ضيق ولم يعد قادراً على الخروج منه، فبات يصرخ ويضرب برجيله في الأرض، فعفر نفسه وحلفاءه، وزاد من أزمته وتعثر أكثر في حفرته، وبات خروجه منها صعب، إلا أن تمتد إليه أيدي رحيمة ومحبة، وصادقة معه وله مخلصة، لتنتشله من أزمته، وتخرجه من حفرته، وتنعشه بعد أن ضاق صدره وتحشرجت نفسه.

بدأت الإجراءات الرسمية بإقناع الحكومة الإسرائيلية بالتراجع عن سياساتها التي اتبعتها في الحرم القدسي الشريف، فاستجاب نتنياهو وحكومته للنصيحة، إذ لا يملك صدها ولا ردها، ولم يعد يستطيع المعاندة أو المناورة، فهو كالغريق يستجيب لأي يدٍ تمتد له، يظن أن فيها النجاة، وأنه بغيرها يغرق ويموت، في الوقت الذي لا يريد أن يبدو في هذه المعركة وحيداً، فهو في حاجةٍ إلى كل شريكٍ وحليفٍ يقف معه ويسانده، ويصد عنه الاتهامات ويدافع عنه في المحافل الدولية، فما عاد يستطيع إنكار الصورة، ولا نفي الشهادة، ولا التنصل من المسؤولية الرسمية عما يقوم به جنوده ومستوطنوه.

إجراءات استخراج شهادة الوفاة والدفن في حاجة إلى أكثر من طرفٍ وجهةٍ، إذ لا يستطيع طرفٌ وحده أن يقوم بكل الإجراءات المطلوبة، فهي معقدةٌ ومركبة، وصعبةٌ ومتعددة، وقد لا يقبل أهل المتوفى خبر الوفاة، فكان لا بد من وسيطٍ دولي مقبول، وعنده القوة ولديه الإمكانية للحوار والوساطة، وإن كان منحازاً وغير نزيه، ويؤيد العدو ويدافع عنه، إلا أنه الوحيد القادر على لعب هذا الدور في هذه المرحلة، في الوقت الذي تنأى كل الأطراف عن الوساطة والتدخل، لعلمها بأن الحكومة الإسرائيلية ستتفلت من أي اتفاقٍ ولن تلتزم ببنوده، وستنقلب عليه في أقرب فرصة.

لهذا تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية، وجاء وزير خارجيتها جون كيري إلى المنطقة، حاملاً حقيبته المليئة بالأفكار الغريبة والحلول المسمومة، التي سبق وأن أعلن عنها ناطقون باسم البيت الأبيض والخارجية، الذين أعطوا الحق للحكومة الإسرائيلية بقتل الفلسطينيين بحجة الدفاع عن النفس، وصد الخطر، ومنع الاعتداء، في الوقت الذي نزعت فيه الشرعية عن مقاومة الفلسطينيين، ووصفت دفاعهم عن أرضهم وقدسهم ومسراهم بأنه إرهابٌ، ودعت السلطة الفلسطينية ورئيسها إلى التنديد بأفعال الفلسطينيين واستنكارها، والإعلان عنها بأنها مرفوضة ومدانة.

بدأت الجلسات تعقد والخيوط تنسج والمؤامرات تحاك، وشرع جون كيري في لقاءٍ أول مع الملك الأردني عبد الله الثاني، ستتلوه لقاءاتٌ أخرى مع مسؤولين عرب، يطالبه بالتخفيف من لهجته، والتراجع عن شروطه، وعدم المطالبة بما أعلنه ووزير خارجيته، بإن إسرائيل دولة احتلال، وعليها أن تحافظ على الأوضاع في مدينة القدس والمسجد الأقصى دون أي تغيير أو مساسٍ بحاله الذي كان عشية الاحتلال.

جُل ما يريده كيري بالاتفاق مع الإسرائيليين هو عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الانتفاضة، أي أن يعود الإسرائيليون إلى محاصرة المسجد الأقصى، ومنع المصلين من الدخول إليه والصلاة فيه، أو تحديد أعمارهم، في الوقت الذي تنظم فيه الحكومة الإسرائيلية زيارات اليهود الدينية والسياسية إلى المسجد الأقصى، في أوقاتٍ محددة، وبعلم إدارة المسجد الأقصى أو السلطة الفلسطينية، ونسيان ما حدث، والترحم على الشهداء الذين سقطوا، والقبول ببعض الهبات والمساعدات والتسهيلات التي من شأنها أن تعزي ذوي الضحايا وأن تنسيهم حزنهم، وأن تعوضهم عن مصابهم.

هو لا يريد أن يفرض على الإسرائيليين الاعتراف بالحق الفلسطيني في مدينة القدس، ولا احترام حقوقهم في الصلاة في المسجد الأقصى، والدخول إليه في أي وقتٍ يشاؤون، بل يريد من العرب أن يمدوا للإسرائيليين حبل النجاة، وأن ينقذوهم من هذه الورطة، بالدعوة إلى وقف الانتفاضة ومنع عمليات الطعن والدهس، بحجة انتفاء الأسباب التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة وتفجر الأوضاع في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية، وبعد ذلك يمكن الحديث والحوار، إذ أن الحوار في ظل التشنج وسيادة العنف، سيؤدي إلى مزيدٍ من التأزم، وسيحول دون التوصل إلى اتفاقياتٍ دائمةٍ ومريحة، تحقق مصالح الطرفين معاً.

ينتظر كيري أن يلتقي بمحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، ليطلعه عن خبر الاتفاق على نعي الانتفاضة وإعلان وفاتها، وسيطالبه بأن يكون أحد الذين يشاركون في إعلان النبأ، فهو من أهل البيت ومن سكان الدار، الأمر الذي سيجعل الفلسطينيين يصدقون هذا الخبر ويعتقدون به، ولن يثوروا ضده ولن يخرجوا عليه، وفي المقابل سيمنحه حزمةً من الوعود التي يحملها في حقيبته كعادته، وهي حزمة وعودٍ لا تنفذ، وسلسلة بنودٍ لا يتم الالتزام بها، ولكنه يجد نفسه مضطراً أن يعد بما لا يملك، وأن يتعهد بما لا يستطيع، وعلى رئيس السلطة الفلسطينية أن يصدقه، وأن ينفي عنه أي سابقة في التهرب والكذب والتخلي عن أي وعودٍ والتزاماتٍ قطعها على نفسه سابقاً.

يرتكب رئيس السلطة الفلسطينية وأي زعيمٍ عربي ومسلمٍ آخر، جريمةً كبرى إذا وضع يده في يد جون كيري، أو صدق كلامه، أو اتفق معه على ما يريد، أو سكت عما يخطط ويتآمر، أو شارك في وأد الانتفاضة والانقلاب عليها، فالانتفاضة لم تمت ولم يعلن أصحابها وأهلها الشرعيون وفاتها، وهم أصحاب الحق الحصري والشرعي في إعلان وفاتها، وهم يعلنون ويؤكدون بالدم أن انتفاضتهم فتيةٌ قويةٌ، وأنها عفيةٌ عصيةٌ، وأنها شابةٌ نضرة، تجري الدماء في عروقها، وتسري الحياة في أوصالها، وتنمو مع الوقت وتكبر، وتقوى وتشتد، وتتجذر وتتأصل، وهي أبعد ما تكون عن الموت أو السكون، أو الفناء والعدم، وستبقى حتى تحقق الأهداف الموعودة، وتصل إلى الغايات المرسومة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2166097

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.مصطفى اللداوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2166097 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010