الجمعة 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة

الجمعة 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 par د. مصطفى يوسف اللداوي

- حلول إسرائيلية عسكريةٌ خشنةٌ وخبيثةٌ ناعمةٌ

ليس هناك أدنى شك بأن الحكومة الإسرائيلية قد وقعت في شر أعمالها، وحصدت مراً جنى ما زرعت، وشوكاً ثمر ما بذرت، وتورطت في انتفاضةٍ شعبيةٍ تعرف آثارها، وتدرك نتائجها، وقد عاشت مثيلاتها، ودفعت فيها أثماناً كبيرة، وتنازلت عن أشياء كثيرة، وتعرف أنها إن بدأت فلن تنتهي قبل أن تحقق بعض أهدافها، ويوماً بعد آخر سيكبر حجرها، وسيتعاظم أثرها، وسيتضاعف مناصروها، وستقف معها دولٌ وحكوماتٌ، وشعوبٌ جماعاتٌ، وأحزابٌ ومنظمات، وحينها ستنتظم أكثر، وستقوى شوكتها وتقسو، وستتواصل فعالياتها، وتتعدد أشكالها، وستكون صيرورتها نضالاً، واستمرارها مقاومة، وستلحق بها كل الأجيال الفلسطينية، ولن يبقَ الشباب صبغتها، بل سيلونها إلى جانبهم الشيوخ والرجال، والصبية والأطفال.

يجهد الإسرائيليون أنفسهم، ويجلدون ذاتهم، ويعتبون على بعضهم، ويتلاومون فيما بينهم، كلٌ يحمل الآخر المسؤولية عما جرى، وأنه المسؤول عن تدهور الأوضاع وفوضى البلاد، وقد كان كيانهم في ظل اضطراب العرب وانشغالهم في غنىً عن انتفاضةٍ توحدهم، وثورةٍ تجمعهم، وقدسٍ تصحح بوصلتهم، وأقصى يعيد قبلتهم، وقد كان بالإمكان العمل بصمتٍ وهدوءٍ، وحكمةٍ ورويةٍ، بعيداً عن الإعلام واستفزازات المتدينين المتطرفين، والساسة المتشددين، والمستوطنين المتهورين، الذين أشعلوا فتيل الانتفاضة، وألقوا فيها المزيد من الحطب، بما جعل إطفاءها صعباً، والسيطرة عليها مستحيلة.

يفكر الإسرائيليون، الأمنيون والعسكريون، والسياسيون والاستشاريون، والاستراتيجيون والباحثون، وكل من عنده رأي ومشورة، وخبرة وتجربة، وفكرة ومقترح، في أفضل السبل لإنهاء الانتفاضة والسيطرة عليها، والتحكم في مسارها وعدم السماح لها بالتمدد والانتشار، والتوسع والقوة، وهم يسابقون الزمن ويسرعون الخطى في محاولاتٍ محمومةٍ لاستباق الانتفاضة وقطع الطريق عليها، أو وضع العقبات أمامها، قبل أن تشب عن الطوق أكثر، وتفلت من العقال الإسرائيلي والدولي، ويشتد ساعدها وتقوى.

بعضهم ينادي باستخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين جميعاً، والعنف الشديد والقتل المتواصل، والمباشرة في إطلاق النار على كل مشتبهٍ فيه، أياً كان رجلاً أو امرأة، دون أن يُعطى الفرصة للدفاع عن نفسه، أو لبيان أنه لا يحمل سكيناً ولا سلاحاً، ولا ينوي الهجوم أو الاعتداء، وأنه لا يشكل خطراً على أحد.

ويدعو هذا الفريق الحكومة الإسرائيلية إلى السماح للمواطنين الإسرائيليين جميعاً بالدفاع عن أنفسهم أمام هذا الخطر الذي أثر على حياتهم، وانعكس على كل تصرفاتهم، وجعلهم يخافون من أنفسهم، ويشكون في بعضهم، فيقتلون بعضهم البعض خطأً، فلا تحاسبهم على تصرف، ولا تحاكمهم بتهمة القتل أو الشروع في القتل، ولا تسمح لأي جهةٍ دوليةٍ بمحاكمتهم ومساءلتهم.

يعتقد أصحاب هذا الرأي أن القوة المفرطة الموجعة، المثيرة للألم والباقية الأثر هي الحل الأنجع والأسرع، وهي السبيل الوحيد لإرغام الفلسطينيين على التراجع، وإجبارهم على القبول بالعودة إلى الهدوء الذي كان يسود المناطق، فعندما يعلمون أن ضريبة العنف كبيرة، وأن خسارتهم لا تتوقف عند قتل المشتبه فيه أو المعتدي، وإنما تطال أهله فيعتقلون، وبيته فيدمر، ومنطقته فتغلق، وبلدته فتحاصر، وغير ذلك من أشكال ووسائل العقاب الجماعي، التي تدفع المواطنين الفلسطينيين إلى كبح جماح بعضهم، ومنعهم من القيام بأي أعمالٍ من شأنها أن تثير سلطات الاحتلال عليهم، مما يجعلهم شرطةً يراقبون ويمنعون، وأولياء أمورٍ يخافون ويقلقون.

أما غيرهم فيرى أن إشغال الفلسطينيين بما هو أكبر سينسيهم الانتفاضة، وسيصرفهم عنها، وسيجبرهم على تجاوزها وعدم العودة إليها، ولا شئ يشغل الفلسطينيين ويدخلهم في كربٍ أعظم ومحنةٍ أشد، كالحرب على قطاع غزة، التي هي ضرورة وحاجة إسرائيلية، وهي كائنةٌ لا محالة، اليوم أو غداً، إذ أن الجميع يعرف أنها حربٌ مفتوحة، وأن معركتها قادمة وإن تأخرت، وأن تصفية الحساب مع فصائلها لم تنتهِ بعد، وأن تأديبهم لم يتم أصولاً، ولم يطال المسؤولين عن الاعتداءاتِ حكماً.

يقف وراء هذا الرأي عددٌ كبيرٌ من المسؤولين الأمنيين والعسكريين الكبار، الذين ما زالوا في الخدمة الرسمية، وممن شاركوا في الحروب الأخيرة على قطاع غزة، ولكنهم يعلمون يقيناً أن حملاتهم العسكرية على قطاع غزة لم تنجح، ولم تحقق أهدافها المرجوة، وأن النصر فيها مشتبهٌ فيه مع قواها المقاومة، التي تعتقد أنها انتصرت وكسرت شوكة الجيش فيها، ومنعته من تحقيق نصرٍ حاسمٍ عليها، ولهذا فإنهم يرون أن الحرب على غزة تحقق أكثر من هدفٍ في آنٍ واحدٍ، فهي تشغل الفلسطينيين عن انتفاضهم، وتجبرهم على تجنب الأخطر والأصعب، وتحقق الانتقام من غزة ومنظماتها، وتعيد الهيبة لجيشهم المهزوز وقيادته المحبطة.

لكن غيرهم وهم في غالبيتهم ساسةٌ وأمنيون وعسكريون متقاعدون، ممن عركتهم الأحداث وعرفوا خواتيم المعارك، التي طحنتهم بأحداثها وعلمتهم بأنيابها، فإنهم يرون أن حل الانتفاضة لا يكون بالقوة، ولا بإدخال المنطقة في حربٍ قصيرةٍ ومعركةٍ محدودة، بل يكون ذلك باستيعابها والسيطرة عليها، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وإعادة الاعتبار لهم ومنحهم بعض التسهيلات الممكنة والامتيازات المطلوبة، وتقديم بعض التنازلات ولو بدت أنها موجعة قليلاً، أو فسرت أنها خضوع وتراجع، كتقليص عدد الحواجز العسكرية المنتشرة بالمئات على الشوارع والطرقات ومداخل البلدات، وإعادة الانتشار في الأماكن المكتظة بالسكان العرب، وتغيير بعض القوانين التي من شأنها أن تقيد حرية المستوطنين الإسرائيليين الذين يستغلون القوانين لصالحهم، ويزيدون بتصرفاتهم من لهيب الانتفاضة المستعر.

هي أفكارٌ إسرائيلية مبعثها الفزع، وسببها الخوف، ودافعها القلق، لا نقلل من أهميتها، ولا نستخف بخطورتها، ففيها الصريح الواضح، العنيف القاسي، الهمجي الوحشي، الذي اعتدنا عليه ولم يغب عنا يوماً، وقد اعتمده الاحتلال وما زال على مدى العقود السبعة التي مضت، ولكنه لم يحقق ما أرادوا، ولم يصل بهم إلى أهدافهم المرجوة، كما أنه لم يخف الفلسطينيين ولم يرعبهم، ولم يمنعهم ولم يكسر شوكتهم.

لكن فيها أيضاً الخبيث الماكر، المخادع المناور، وهو الأخطر والأسوأ، الذي يحاول أن يدس للفلسطينيين السم في الدسم، وأن يغريهم بالكذب والضلال، والزيف والسراب والخداع، ولعلهم في الأخيرة ينجحون ويتمكنون، إن وجدوا إلى جانبهم ناصراً عربياً ومعيناً فلسطينياً ومؤيداً دولياً، وهو ما نخشاه ونقلق منه، وإن كنا نعلم أنه لا يكسر الفلسطينيين العدو مهما تجبر، إلا أن يخدعه الصديق إن تنكر، فلنحذر العصا الإسرائيلية على قسوتها مرة، ولنحذر الجزرة المدسوسة المغشوشة ألف مرة.

- الاحتلال يقتل في غزة وعينه على الضفة

يتعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل المتظاهرين الفلسطينيين في قطاع غزة، واعتراض مسيراتهم، وفض تجمعاتهم، والاشتباك مع شبانهم، وإطلاق النار عليهم، وتعمد إصابتهم في الأجزاء العلوية من أجسادهم ضماناً وتأكيداً على قتلهم، بل إنه يقنصهم باستهتارٍ واستخفافٍ بالإنسان الفلسطيني عن بعدٍ في لهوٍ وعبثٍ، وسباقٍ بين جنوده وتنافسٍ، أيهم يقتل أكثر ويصيب بدقةٍ أكبر، بينما يصورون بفرحٍ عمليات القنص والقتل، ويحتفظون بها ذكرى لهم، وشيئاً يفاخرون به غيرهم.

ينتقي جيش الاحتلال ضحاياه بهدوءٍ وأعصابٍ باردة، وكأنه يقرر في كل يومٍ بدراسةٍ وعنايةٍ مشددةٍ عدد القتلى ومناطقهم، فينوع بينهم ويشكل في أعمارهم، ويمزج بين مناطقهم، وكأنه يريد أن يوزع الدم الفلسطيني بين الجميع، ويساوي بين المناطق، فيتعمد القتل والإصابة المباشرة، رغم أن المتظاهرين لا يشكلون خطورةً عليه، ولا يهددون أمنه، ولا يقتربون من عناصره، إذ أنهم يتظاهرون بعيداً عنه، وإن اقتربوا من الحدود فإنهم لا يتجاوزون الأسلاك الشائكة، ولا يوغلون كثيراً في المناطق العازلة، ولا يقتربون من مناطق مصنفة أنها خطرة، حيث يمنع المواطنون من الاقتراب منها أو الدخول إليها دائماً.

يشعر سكان قطاع غزة المعزولون عن العالم، والمفصولون عن المحيط والجوار، والمحاصرون من الأشقاء والأعداء، بكثيرٍ من الحزن والأسى، والضيق والكرب، أنهم لا يستطيعون مشاركة شعبهم في الضفة الغربية والأرض المحتلة عام 48 في انتفاضتهم المباركة، التي أبلوا فيها بلاءً حسناً، وقاموا بعملياتٍ رائعةٍ وصمودٍ بطوليٍ كبير، أدهش شعبنا وأمتنا، وأثبت للعالمين كافةً أن هذا الشعب حرٌ كريمٌ، وأنه لا يسكت على الذل ولا يقبل بالضيم، وأنه سرعان ما يثور على المحتلين الغاصبين أياً كانت قوتهم وسلاحهم.

يريد أبناء قطاع غزة أن يشاركوا شعبهم أعمال وفعاليات هذه الانتفاضة العظيمة، ولا يحبون أن يكونوا بعيداً عنها أو غير مشاركين فيها، أو متفرجين عليها، فهم جزءٌ من الوطن أصيلٌ، وقطاعٌ من الشعب كريمٌ، وهم الذين كان لهم فضل المساهمة الخلاقة المبدعة في الانتفاضتين السابقتين، التي اصطبغت بجهودهم، وعرفت بشهدائهم، وانتهت بإنجازاتهم، وبدأت من مخيماتهم، فلا يتصورون أنفسهم بعيدين عن الثالثة الجديدة، التي هي للقدس الثانية، ولهذا فهم يخرجون كل يومٍ إلى المناطق الحدودية لقطاع غزة، يتظاهرون ويهتفون، علهم يغيظون العدو ويؤذونه، وقد يقذفونه بالحجارة رغم أن أغلبها لا يتجاوز الأسلاك الشائكة بصعوبة، ويحتاج وصولها إلى الجانب الآخر إلى مخاطرة ومجازفة، وقوة وقدرة، هو ما لا يتوفر لدى الجميع دائماً.

لكن العدو الصهيوني الذي يقف على الجانب الآخر من الحدود، يعرف تماماً أن حجارة الغزيين لن تصله، وأن هتافاتهم لن يسمعها، وأنه لن يطاله منهم أذى أو سوءٌ، وهو يرى أن من المتظاهرين أطفالٌ صغارٌ، وشيوخٌ كبارٌ، وأن الناس تخرج للتضامن وإعلان التأييد أكثر مما هي للمواجهة ورمي الحجارة، لكنه مع ذلك يتربص بالمتظاهرين ويقف لهم بالمرصاد، لا ليصدهم بل ليقتلهم، ولا ليمنعهم من اختراق الحدود أو تهديد أمنه، فهو يعلم أنهم لا يستطيعون أو لا يريدون، إذ أنهم يعلمون أن العدو يريد أن يستدرجهم إلى معركةٍ يطفيء لهيبها شمعة الانتفاضة، وتطغى بعنفها وقوتها وضراوتها على حركة الانتفاضة الغضة الفتية، بعد أن عجز عن مواجهتها بقوته العسكرية وعتاده القتالي المتفوق، وجنون مستوطنيه الأرعن.

هل يريد العدو الصهيوني أن يمنع سكان قطاع غزة من التضامن مع شعبهم، ومن الوقوف معه ومساندته، وتأييده وتشجيعه، عبر مظاهراتٍ أشبه ما تكون بالمظاهرات السلمية، والمسيرات التضامنية، والمهرجانات الشعبية، إذ أنها لا تشكل على جيش العدو وجنوده خطراً، ولو أنها تشكل خطراً فإنه خطرٌ بسيط يمكن السيطرة عليه والتحكم فيه، ولا يوجب أبداً ولا يجيز استخدام القوة النارية ضدهم، علماً أن الإسرائيليين لا يقصدون فض المظاهرات ولا تفريق الجموع، لأنهم يعرفون أن الفلسطينيين يزدادون قوةً عند التحدي، ويصرون أكثر عند المواجهة، ولا يقبلون بالتهدئة والسكون خوفاً من القوة العسكرية للعدو، أو تحسباً من بطشه واعتدائه، فهم قد تعودوا على عدوهم وخبروا أسوأ ما عنده، وذاقوا أكثره مرارةً وسماً، ومع ذلك ما خضعوا له يوماً، ولا استسلموا إليه أبداً.

لعل كل قوانين الدنيا وأعراف الكون، وتقاليد الدول وسياسات الحكومات لا تمنع شعباً من أن يقف مع شعبه، وأن يؤازره وينصره، ولو كان يخضع بالقوة للاحتلال، بل إن كل القوانين والسوابق تجيز ذلك وتقبل به وتتعامل معه، وعليه فلا يوجد أي تفسيرٍ لما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي على حدود قطاع غزة، إلا أن يكون ما تقوم به جزءاً من حقدها الدفين، وكرهها القديم، وثارها المبيت مع قطاع غزة، فتريد أن تعبر عنه ما استطاعت بالمزيد من القتل والخراب، فتنتقم منه وتعتدي عليه، وهو الذي اعتاد منذ القدم أن يمرغ أنفها في التراب، وأن يذل كبرياء قادتها، ويكسر هيبة جيشها، ويهين كرامة حكومتها.

العدو الإسرائيلي يريد أن يهرب في غزة إلى الأمام، فيجرها والفلسطينيين إلى حربٍ ومعركةٍ كبيرة، يعتقد واهماً أن الغلبة ستكون له فيها، إذا نجح في جر المقاومة الفلسطينية إلى قصف مستوطناته القريبة أو البعيدة بالصواريخ، وتهديد أمن مستوطناته ومدنه، ومنشآته ومصالحه، ولو أدت صواريخ المقاومة إلى سقوط بعض القتلى الإسرائيليين، فإن ذلك سيخدمهم أكثر، وسيعجل في قرارهم المبيت، إذ أنه سيبرر لهم استخدام القوة المفرطة، وإشعال فتيل حربٍ جديدةٍ في غزة، ستكون هي المفتاح السحري للقضاء على الانتفاضة، وإطفاء لهيبها، التي يتعذر على الإسرائيليين إيجاد مفتاحٍ لها، تستجيب له وتقبل به، وتعيد الأوضاع به إلى سابق عهدها، وإلى ما كانت عليه قبلها.

- طلبة المعاهد والجامعات خزان الانتفاضة

أبطال انتفاضة فلسطين المباركة وجنودها، والمضحون بأرواحهم من أجل القدس ومسراها، الذين تسطع أسماؤهم وتسمو أرواحهم كل يومٍ من الجنسين معاً، على مدى الوطن كله، ليسوا يائسين ولا محبطين يتحركون بلا أمل، وليسوا عاطلين وقاعدين عن العمل، وليسوا في الحياة هامشيين أو همل، كما أنهم لا يفتقرون إلى الرؤية والمعرفة، ولا إلى العلم والثقافة، ولا يشكون من انعدام الرؤية وضعف البصيرة، بل إنهم زهرة المجتمع الفلسطيني وقلبه النابض ومستقبله المشرق وغده الواعد، إنهم شباب الشعب النضر وجيله البِشِر، الذين يناط بهم الأمل، وتتطلع إليهم العيون، وتشرئب لهم الأعناق، إذ أن الأمل كبير في أن يكون الخلاص على أيدهم، والنجاة في مساعيهم، والنصر ببركة دمائهم وتضحياتهم.

يحق لنا أن نطلق على انتفاضة القدس الثانية أنها انتفاضة الطلاب، إذ تمور الجامعات والمعاهد الفلسطينية وتموج بشبابها وشاباتها كشرارات النضى، الذين يرصدون ويتابعون، ويدرسون ويخططون، ثم يقتحمون ويهاجمون، ولا يبالون بما ينتظرهم، ولا بالمصير المحتوم الذي يتربص بهم، فهم قد خرجوا لأجل القدس والمسرى، ونصرةً لفلسطين وأهلها، وثأراً وانتقاماً ممن اعتدى عليهم وبغى، وقتل واعتقل أهلهم وطغى، فلا يؤخرهم عن الدفاع عنها أحد، ولا يعطلهم عن الفعل والعمل الجاد شئ، إذ أن الرؤية عندهم واضحة، والغاية لديهم معروفة، رغم أنهم شبابٌ يافع، وأعمارهم غضة، وأيامهم في الحياة محدودة، إلا أن خبرتهم في الحياة ليست ضحلة، وأعوادهم على حداثة سنهم لم تكن يوماً أبداً طرية.

يكاد يكون أغلب الذين قاموا بعمليات الطعن والدهس، والشهداء الذين سقطوا في المواجهات، أو غيلةً وغدراً وثأراً وانتقاماً في الشوارع والطرقات، كلهم من الطلاب المتميزين المتفوقين، المنتظمين في الدراسة، والجادين في طلب العلم، من المنتسبين إلى مختلف الكليات والتخصصات العلمية، ومن أبناء العائلات العريقة والغنية، التي لا تشكو من فقرٍ ولا تعاني من فاقة، وممن كان ينتظرهم مستقبلٌ زاهرٌ وغدٌ مشرقٌ لو كانت بلادهم حرة، وإرادتهم مستقلة، ولا محتل يتحكم فيهم ويقرر في مصيرهم، ويضيق عليهم ويحرمهم من حقوقهم كشعبٍ يستحق الحياة في ظل دولةٍ مستقلةٍ وتحت راية علمٍ يرفرف.

وكما يتنافس الطلاب على التضحية والفداء، والعمل والعطاء، فإن الجامعات الفلسطينية تتنافس فيما بينها وتتبارى، أيهم يقدم طلاباً أكثر، وأيهم يكون اسمها أسمى وصوتها أعلى وعطاؤها أكبر وأعظم، ومقاوموها أشهر وأمهر، فكانت جامعة بيرزيت ذلك الصرح العلمي العالي، والمعهد الوطني الكبير الذي تخرج منه العديد من قيادات العمل الوطني الفلسطيني وكوادره الفاعلة، التي أفتخر أنني كنت يوماً أحد طلابها، وتشرفت بأن أكون حتى بداية انتفاضة الحجارة رئيساً للكتلة الإسلامية فيها، التي خاضت غمار العمل الوطني مبكراً، وقدمت أول شهيدين من طلابها، وهما جواد أبو سلمية وصائب ذهب، فكأنهما وهما الأوائل قد عبدا الطريق لمن بعدهما، وفتحا درب المقاومة للأجيال الطلابية اللاحقة، وأفسحا المجال لهم للتنافس والسباق، ومنها كان يحيى عياش، مهندس العمليات الاستشهادية، وصاحب الشهرة الأكبر بين رجالات المقاومة الفلسطينية.

لكن جامعة بيرزيت التي أحب والتي إليها يوماً انتسبت، لم تتوقف عند مهندسها الأشهر والشهيدين العلمين الأولين، بل توالى شهداؤها، وتخرج قياديوها، وتتابع طلابها، وقادوا في انتفاضة القدس الأولى والثانية الجموع وتقدموا الصفوف، وصنعوا الشعارات ووضعوا عناوين المرحلة، وألويات الشعب والقضية، ولحقت بها ومضت معها جامعة النجاح الوطنية، وهي التي لا تقل عن بيرزيت عراقةً وأصالةً، ووطنيةً وانتماءً، وسارت إلى جانبها في تنافسٍ رائعٍ، وعملٍ وطني عظيم، تكمل معها الطريق، وتفتح الجديد، وتشق دروباً كانت قبلهما عصية وصعبة، أو محصورةً في سواهم وممنوعةً عليهم، ولكنهما وهما الكبر في الضفة الغربية، كانا كفرسي رهان يتسابقان، وكتوأمين يتشابهان، يعطيان في تنافس، ويتقدمان في حب.

أما بقية الجامعات والمعاهد الفلسطينية الأخرى، الخليل وبيت لحم، والقدس المفتوحة ومعاهد البوليتكنيك والخضوري ورام الله، وكليات المجتمع العصرية وغيرهم، وهي التي تحتضن القطاع الأكبر من شباب الضفة الغربية وشاباتها، الذين ينتسبون إليها ويدرسون فيها، في الوقت الذي يمثلون فيه كل مدن الضفة الغربية وبلداتها، فما قصرت ولا هي تأخرت، وما كانت دون غيرها أو أقل من سواها مساهمةً ومشاركة، بل باتت وطلابها جميعاً يتسابقون ويتنافسون، ويعملون وينسقون، ويبتكرون ويبدعون، في صيرورةٍ لا تنتهي، وعملٍ لا ينقطع، وجهدٍ لا يكل، ونفوسٍ لا تمل، وأملٍ باقٍ في نفوسهم مهما تعمق الجرح وازداد الألم.

لا تقتصر المشاركة في انتفاضة القدس الثانية على طلاب الجامعات والمعاهد، وإن كانوا يشكلون السواد الأعظم فيها، بل إن طلبة المدارس الثانوية ومن هم دونها يتسابقون في المشاركة، ويسارعون لإثبات وجودهم وفرض دورهم، ورفع صوتهم عالياً لبيان حضورهم، وتأكيد فعاليتهم، ولعل حماستهم تفوق حماسة طلاب الجامعات، فهم لا يقلون عنهم وعياً وثقافة، ولا تنقصهم الشجاعة والبسالة، ولا الغيرة والحمية، ولا القوة والإقدام، ويرفضون أن يستثنيهم أحد، أو أن يعترض على مشاركتهم لحداثة سنهم أو لقلة خبرتهم، أو خوفاً عليهم ورأفةً بهم.

لا يستطيع أحدٌ أن يشوه سمعه الشهداء الطلاب، الذين نفذوا عمليات طعنٍ في القدس ومدن الضفة الغربية، ويتهمهم بأنهم كانوا يعانون في حياتهم، أو يشكون في دراستهم، أو أنهم كانوا منبوذين في مجتمعاتهم، أو غير مقبولين في بيوتهم وأسرهم، لهذا آثروا القيام بعمليات طعنٍ أو دهسٍ ينهوا بها حياتهم، ويتخلصوا من معاناتهم، وهذا محض كذب، وخرافة وسفاهةٌ يثيرها الإسرائيليون ويروجها إعلامهم.

بل إن هؤلاء الطلاب على العكس مما يشيع الإسرائيليون، وعلى النقيض من الصورة التي يحاولن أن يرسموها لهم، غذ تشهد سجلاتهم الدراسية على تفوقهم، ويروي جيرانهم ومعارفهم قصصاً كثيرة عن حيوتهم وروحهم الحلوة، وحبهم للحياة وإقبالهم عليها، ويتحدث أهلهم وذووهم المقربون عن طبيعتهم الجميلة، ومشاركتهم الدائمة، وإيثارهم الشديد، وغيرتهم على أهلهم، وملاطفتهم ومداعبتهم للصغار، وميلهم للمساعدة والتعاون، وعمل الخير والزيادة في الإحسان، بروحٍ وثابةٍ، وهمةٍ عاليةٍ، وقلبٍ طيبٍ لا يعرف غير الحب.

- إسرائيل تخشى الجنائز وتخاف من الشهداء

تحتجز سلطات الاحتلال الإسرائيلي العديد من جثامين شهداء انتفاضة القدس الثانية، وتمنع تسليمهم إلى أسرهم وعائلاتهم، أو تتأخر في تسليمهم لعدة أيامٍ، وتنقلهم إلى مستشفياتها الخاصة، وتحتفظ بهم في براداتها، أو تفرض على ذويهم شروطاً وتطلب منهم التزاماتٍ مكتوبةٍ وتعهداتٍ خاصة قبل تسليمهم جثامين شهدائهم، وإلا فإنها تمتنع عن تسليمهم، أو تقوم بفرض حظر تجوال في مناطق سكن الشهداء، وتقوم دورياتٌ خاصة بنقل الجثامين ليلاً إلى منازلهم، وتبقى قريبة من المقبرة إلى حين انتهاء ذوي الشهداء من إجراءات الدفن، التي تشترط فيها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن تتم بسرعة، وفي ساعات الليل، وفي حضور عدد محدود جداً من أسرة وعائلة الشهيد.

لا تكتفي سلطات الاحتلال الإسرائيلي باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في المستشفيات والبرادات، بل تتحفظ على جثت الشهداء في نفس المكان الذي تقتلهم فيه، وتمنع وصول الفلسطينيين إليهم، كما لا تسمح لسيارات الإسعاف الفلسطينية بالاقتراب منهم ونقلهم، أو تقديم الإسعاف والمساعدة الطبية لهم.

وهي إذ تمنعهم من المساعدة فإنها تحتفظ بالشهداء، وتقوم بنقلهم من مكان الحادث إلى جهاتٍ مجهولة، وذلك بعد ساعاتٍ طويلة يبقون فيها ملقون على الأرض في الشوارع والطرقات العامة، يلتف حولهم المارة من المستوطنين وغيرهم، يشتمونهم ويسبونهم، ويؤذونهم ويتعرضون إليهم بالسوء، وبعضهم يلتقط لنفسه صوراً تذكارية معهم، بينما تقف الشرطة صامتةً برضا فلا تمنعهم.

علماً أن بعض الشهداء لا تقتله الرصاصات مباشرة وإن تكن قاتلة بقصدٍ، بل يستشهد نتيجة النزف الشديد والمتواصل، حيث تبقيه سلطات الاحتلال على الأرض ينزف ويئن، ويتوجع ويتألم، ولا تقوم بتقديم الإسعافات الأولية له، علماً أنهم يكونون يتحركون ويطلبون العون والمساعدة، لكن الشرطة الإسرائيلية تصم آذانها عن صراخهم واستغاثتهم، وتمنع أحداً من الاقتراب منهم بدعوى الإسعاف، لكنها تسمح بالاقتراب لمن شاء أن يسب أو يشتم، أو أن يركل ويرفص، أو يرغب في وضع شرحاتٍ من لحم الخنزير عليه بقصد الإهانة والتحقير، والإساءة إلى مشاعر العرب والمسلمين.

وقد هدد وزير دفاع دولة الكيان الصهيوني موشيه يعالون بالاحتفاظ بالجثامين ومنع تسليمها إلى ذويهم، وتحويلها إلى مقابر الأرقام، ما لم يلتزم أهلوهم بالشروط، ويذعنوا للضوابط والممنوعات، ويتعهدوا باحترام التعليمات والالتزام بالأوامر والتوجيهات، والتي تقضي بعدم إثارة الشارع، ولا استغلال الجنائز والخروج في مظاهرات، ولا التحريض على سلطات الاحتلال، وتأليب المواطنين عليهم، ليزداد حنقهم، ويتفاقم غضبهم، وتتعالى صيحاتهم بالثأر والانتقام، ويخرج من بينهم من يقوم بعمليات طعنٍ أو دهسٍ جديدة، نتيجة التحريض والتأجيج الناتج عن مسيرات الجنائز ودفن الشهداء، التي يصاحبها في العادة خطاباتٌ تحريضية، ومظاهر عسكرية لافتة.

قد لا يكون احتجاز الجثامين ومنع تسليمها إلى ذويهم، فقط بسبب الخوف من المضاعفات الأمنية المحتملة، ولمنع تحول الجنائز إلى مظاهرات، لكن قد تكون هناك أسبابٌ أخرى، ربما تم الكشف عن بعضها خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، حيث تبين بالدليل القطعي، وعبر تقارير مصورة وموثقة لصحافيين أوروبيين، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستخدم أجساد الشهداء الفلسطينيين في تجارة الأعضاء البشرية، إذ تقوم بانتزاع الأعضاء الحية والصالحة من أجسادهم لتزرعها في أجساد مرضى إسرائيليين، وقد تتذرع أحياناً بأنها تقوم بعمليات تشريح للجثث لمعرفة أسباب الوفاة، والكيفية التي تمت فيها عملية القتل، بحجة أنها تجري تحقيقاتٍ عسكرية لمعرفة سلوك جنودها، ومدى التزامهم بالقوانين العسكرية المعطاة لهم.

لعل محافظة الخليل التي قدمت أكثر شهداء الانتفاضة، هي أكثر المحافظات الفلسطينية معاناةً من سياسة احتجاز جثامين الشهداء، إذ أن أغلب جثامين شهدائها من الرجال والنساء ما زالت محتجزة، ورغم الوعود المتكررة بتسليمها إلى ذويهم، إلا أن سلطات الاحتلال تكذب وتتنصل من التزاماتها في اللحظة الأخيرة، وتدعي أنها لم تقم بتسليم الجثامين نظراً إلى أن ذويهم لم يلتزموا بالشروط، ولم يفوا بالتعهدات، وقد بدا منهم أو في مناطقهم أو من بعض سكانها ما يشير إلى عدم التزامهم، وخطورة الأوضاع في مناطقهم، علماً أن بعض الجثامين تعود لشهيداتٍ سقطن في مدينة الخليل، وفي محيط الحرم الإبراهيمي.

الحقيقة أن الإسرائيليين الذين يخافون من المقاومة، ويتحسبون منها كثيراً، ويشكون من ضراوتها في السنوات الأخيرة، ويعترفون أنها باتت توجعهم وتؤلمهم، وأن إمكانياتها وقدراتها لم تعد كما كانت من قبل، مسدساً وبندقية وبضعة طلقاتٍ نارية أكثرها فاسدة لا تصلح، بل أصبحت صاروخاً وقذيفة، وقنبلةً وعبوة، وبات المقاومون يجتازون الحدود، ويخترقون الحصون، ويصلون إلى أبعد مما يتوقع العدو ويتخيل، في الوقت الذي لا يخافون فيه من الموت الذي هو عندهم شهادة، لا تنهي دورهم، ولا تضع نهايةً لمقاومتهم، بل تنقلهم من مقامٍ إلى آخر، يستبدلون بها البندقية برايةٍ ومنهجٍ، ومن قبل شهد بهذا كبيرهم الماكر شيمعون بيريس عندما قال، إن انتفاضة الجنائز أشد خطراً من انتفاضة الحجارة، وهي التي تمد في عمرها وتطيل في أمدها.

فكما يخاف الإسرائيليون المقاومة ورجالها، ويحفظون أسماءهم، ويذكرون أفعالهم، فإنهم يخشون الشهداء وأثرهم، ويخافون من فعلهم في أقوامهم وبين أهلهم، ويعلمون أنهم يقودون الجموع أحياءً وشهداءً، ويتقدمون الصفوف ولو كانوا جثامين أو تحت التراب، وأنهم يتقدمون على الأحياء قدراً، ويسبقونهم مكانة، وأن كلمتهم بعد الشهادة أقوى، وسيرتهم أنقى، وفعلهم أنضى، وأمرهم أمضى، وأن ما لم يحققوه والبندقية أو السكين في أيديهم، فإنهم يحققونه وهم صورةٌ تعلق، واسم يذكر، وشهيدٌ لا ينسى، لهذا فإنهم يخشون أن يسلموه إلى ذويه مخافة أن يذيع اسمه، ويشتهر عمله، وينتشر فعله، وترتفع في الأرض راياته، وتسمو بين الفلسطينيين غاياته.

- وقف الانتفاضة مطلب الأصدقاء والأعداء

إنها أصواتٌ فلسطينيةٌ وعربيةٌ ودوليةٌ، صادقةٌ وناصحة، ومخلصة ومتعاونة، وليست متآمرة ولا معادية، ولا نتهمها ولا نشكك فيها، ولا نظن فها ظن السوء عندما توجه النصح والنقد إلى الفلسطينيين، شعباً وقيادةٌ وقوى، فهي تحب فلسطين وأهلها وتشفق عليهم، وتساندهم في نضالهم وتؤيدهم في حقوقهم، وتدافع عنهم وتضحي من أجلهم، وهي تتابع وتراقب، وترصد وتحصي وتدقق، ولها فيما يجري رأيٌ ووجهة نظر، ولا نستطيع أن نحجر على رأيها، أو نمنعها من بيان موقفها وشرح وجهة نظرها، وقد رأت أن هذه الانتفاضة ستوجع الشعب وستؤلمه، وستؤذيه وستضره، لأن الدول العربية منشغلة بهمومها الداخلية، وحروبها وصراعاتها البينية، والدول العظمى مشغولة جداً بالقضايا الكبرى المستجدة، وتطوراتها المتسارعة، ولا يبدو أن دولةً عربية أو غيرها قادرة على الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني ومساندته في انتفاضته الثالثة.

ويرون أن خسائر الفلسطينيين تتضاعف بسرعةٍ مفرطة، وأعداد الشهداء في تزايدٍ مستمر، وهم في أغلبهم من الشبان والشابات، الذين يستشهدون ويقتلون بدمٍ بارد، أو يعدمون وتتم تصفيتهم عمداً ودون سببٍ يسمح، في الوقت الذي لا يقتلون فيه من العدو إلا قليلاً، ولا يؤذونه كثيراً، وسلطات الاحتلال الإسرائيلي تحاول مواجهة الانتفاضة بالقوة المفرطة، وقد سمحت لمواطنيها ومستوطنيها باستخدام أسلحتهم الخاصة في قمع الفلسطينيين وصدهم، وشرعت لهم قتلهم بالجملة دون محاسبةٍ أو محاكمة، الأمر الذي يخيف هذا الفريق من الأمة ويقلقهم، ويشعرهم بالأسى والألم، ويدفعهم للتفكير السلبي بضرورة وقف هذه الانتفاضة، والبحث عن سبلٍ جديدةٍ للمقاومة ومواصلة النضال، لحماية الشباب، والحيلولة دون وقوع المزيد من الخسائر.

وأصواتٌ إسرائيليةٌ أخرى لا نثق في أصحابها، ولا نصدق كلامهم، ولا نبني على تصريحاتهم، ونتهمهم ونشك في صدقهم، ونعلم يقيناً أنهم يسعون لصالح كيانهم، ويتطلعون لتحقيق أهداف شعبهم، تعتقد أنه بغض النظر عن أعداد الشهداء الفلسطينيين، الذين يقتلون يومياً في مدينة القدس، وفي مختلف مدن وبلدات الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن الحكومة الإسرائيلية خائفة مما يجري، وقلقة من المستقبل، وتخشى من تداعيات الأحداث وآثارها على البنية الداخلية الإسرائيلية، وعلى علاقاتها الخارجية، وأنشطتها الاستيطانية، وعلى أسواقها التجارية ومشاريعها الاقتصادية المحلية والدولية، وترى أن استمرار هذه الأحداث، التي يروق للفلسطينيين تسميتها بالانتفاضة، قد يؤدي إلى عزل إسرائيل دولياً، وتشويه صورتها، وقطع العلاقات الاقتصادية معها، ووقف التعامل المالي مع مؤسساتها المالية وبيوت المال والمصارف المختلفة، ولهذا فإنهم يدعون حكومتهم إلى البحث عن أفضل وأسهل وأسرع الطرق لإنهاء الانتفاضة ومنع استمرارها.

ويعتقد إسرائيليون استراتيجيون ومفكرون كبارٌ من هذا الفريق، ممن يخططون لكيانهم، ويجتهدون في البحث عن حلولٍ لمشاكله، ومخارج آمنة من أزماته، أن الحل الأمني والتعامل العسكري الخشن وحده لا يكفي، وإن كان ضرورة لا يمكن الاستغناء عنه، ولكن وقف الانتفاضة وإخماد لهيبها يتطلب وسائل أخرى عديدة، ليس بالضرورة أن تتقدمها القوة ويطغى عليها الحل العسكري، فهي لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة وحدها، وقد أثبتت الانتفاضات السابقة أن فرضية القوة وحدها فرضيةٌ فاشلة، وأنها تزيد في عمق الأزمة وإطالة أمدها، لذا فإنهم في سبيل الحل الناجع والسليم والطويل الأمد، في حاجةٍ ماسةٍ إلى تعاونٍ دولي وإقليمي معهم، خاصةً تعاون الدول العربية التي ترتبط معهم باتفاقياتٍ وتفاهماتٍ، معلنة أو سرية، وعليهم أن يقنعوا الدول العربية المعنية بجدوى وقف الانتفاضة وأنها في صالح كل الأطراف، الفلسطينية والإسرائيلية وغيرها.

لا يخجل الإسرائيليون من مواقفهم، ولا يستحون من مطالبهم، إذ يلحون على الدول العربية للتعاون معهم في وضع حدٍ لهذه الانتفاضة، ومنع استمرارها وامتدادها، وتعزز مطلبها ببيان خطورة استمرار الانتفاضة على كل الأطراف، وأن الفلسطينيين سيكون الأكثر تضرراً منها، لذا ينبغي عليهم أن يكونوا متعاونين ومتفهمين، فتطالبهم بعدم تخصيص برامج إعلامية تحريضية أو تعبوية، أو استضافة شخصياتٍ تقود العنف وتدعو إليه، وألا يسلطوا الأضواء على الصورة والمشاهد المؤلمة، التي تزيد من احتقان الشارع الفلسطيني والعربي، وألا يسمحوا في بلادهم بمسيراتٍ ومظاهراتٍ مؤيدة للانتفاضة وداعية لاستمرارها، وتطالبهم أيضاً بالتوقف عن نقل وإذاعة تصريحات وأقوال المتطرفين الإسرائيليين، ودعوات أعضاء اليمين الديني المتشدد، وألا يجعلوا من سلوك بعض المستوطنين هو السلوك الإسرائيلي العام.

وفي السياق نفسه وجه المختصون الإسرائيليون في المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، فريق السايبر العامل في فضاء الانترنت، وجلهم من الطلاب والطالبات، لفتح حساباتٍ جديدة على الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي، وتفعيل القديم منها، للتواصل مع العرب، الفلسطينيين وغيرهم، في الداخل والخارج، في محاولةٍ مدروسة لبيان عيوب وسلبيات الأحداث، وخطورة الاستمرار فيها، ونتائجها السلبية على مستقبل العرب ورخائهم، وعلى اقتصادهم واستقرارهم، والعمل بصورة جادة ومنظمة لخلق بيئة عربية معارضة للانتفاضة، ومناخ سلبي لا يتعاون معها ولا يقدم الدعم والإسناد إلى القائمين عليها.

نقول للإسرائيليين الذين ينصحون العرب العقلاء والفلسطينيين أصحاب الشأن بضرورة وقف الانتفاضة، وإنهاء عمليات العنف التي تشهدها الأراضي الفلسطينية، حقناً للدماء، وحرصاً على المصالح الفلسطينية ومستقبل الشعب كله، فإننا نقول لهم كذبتم وخسئتم، إذ ما صدقوا القول ولا أخلصوا النصح، فهم لا يحبوننا ولا يسعون لصالحنا، ولا يعملون لأجلنا ولا يتطلعون إلى مستقبلنا، ولكنهم عرفوا أن هذه الانتفاضة تضر بهم وبمستقبل كيانهم، وتعزلهم وتضيق عليهم، وأنها تؤسس لمقاومةٍ شعبيةٍ جديدةٍ، قويةٍ وصلبة، وثابتة ودائمة، وستجبرهم مع الوقت على الخنوع والقبول بشروطهم، والتسليم للفلسطينيين في حقوقهم التي انتفضوا من أجلها، وضحوا في سبيل تحقيقها.

أما إن كنا نبرر موقف ورأي المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني، ولا نغضب منهم ولا نتحامل عليهم، فإننا نشكرهم على حرصهم وخوفهم، ونؤكد لهم بأن الشعب الفلسطيني قد اعتاد على الوحشية الإسرائيلية، وقد خبر عنفهم وإفراطهم في القوة والقتل، وسجل شهدائنا يشهد، وقوائم معتقلينا تنطق، وليس في تاريخهم معنا فترات هدوءٍ ودعةٍ، وسلامٍ ومحبة، بل دوماً يقتلون ويبطشون، ويعتدون ويظلمون، فهذه هي سياستهم العامة وسلوكهم الدائم الذي لا يتغير ولا يتبدل، ولا يكون عنيفاً في الانتفاضة ومسالماً في غيرها.

- قنابل الغاز المسيلة للدموع تقتل وتخنق

تخدع الحكومة الإسرائيلية العالم عندما تدعي بأنها تحاول إخماد الانتفاضة والسيطرة على الأحداث باستخدامها قنابل الغاز المسيلة للدموع، شأنها شأن أغلب دول العالم الحرة والمتحضرة، التي تحترم حقوق الإنسان وتقيم وزناً للقانون الدولي، وتخشى الرقابة والمساءلة والحساب، ولكنها تستخدم القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين وفض الجموع الاحتجاجية والنقابية والسياسية، كونها لا تلحق ضرراً كبيراً، ولا أذىً شديداً، وتدعي بأنها تتبع سياستهم نفسها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتتجنب القتل أو إلحاق خسائر جسيمة في صفوف المتظاهرين الفلسطينيين، وتضيف أنها لا تلجأ إلى الأعيرة النارية إلا عند الضرورة القصوى، وعند تعرضها للخطر الشديد، وذلك لإحباط محاولات الطعن أو الدهس أو إطلاق النار أحياناً.

العدو الإسرائيلي الذي يكذب دائماً ولا يعرف الصدق أبداً، كذب في الأولى وفي الثانية، وهو يعلم أنه يكذب فيهما ولا يقول الصدق، ولكنه يريد من العالم أن يصدقه وأن يؤمن بروايته، وأن يكذب الرواية الفلسطينية وأن ينكر الأدلة والشاهد، والصورة والبرهان، التي تفضح ممارساته، وتكشف كذبه وخداعه، وتبين بالدليل القطعي أنه ومستوطنيه يعتدون بغير مبررٍ، ويقتلون دون سبب، ويبادرون بإطلاق النار ويتعمدون الإصابة في الرأس أو في الجزء العلوي من الجسد، لضمان القتل أو الإصابة الشديدة، والشواهد على ذلك بالآلاف وهي كلها تكذبهم وتخزيهم إن كانوا يشعرون بالخزي أو العار.

أما في الأولى فهم كاذبون مخادعون، يستخدمون الاسم نفسه ولكنهم يلجأون إلى مواد أخرى ومكوناتٍ مختلفة، أكثر سماً وأسرع قتلاً، وسماء فلسطين التي باتت تتلبد كل يومٍ بالسحب البيضاء السامة، تؤكد بأن قنابلهم تختلف عن تلك التي تستخدمها أغلب أجهزة الشرطة العالمية، فهي قنابلٌ متطورةٌ، تطلق كميةً كبيرةً من الغاز الخانق، الذي يحرق العيون، ويطبق الصدور، ويحول دون التقاط الأنفاس، فلا يعود لدى الإنسان قدرةً على التقاط نفسٍ أو إخراج آخر، في الوقت الذي تحمر في عيونه، وتتساقط بغزارةٍ دموعه، ما يؤدي في كثيرٍ من الحالات إلى الاختناق والموت، خاصةً إذا أطلقت القنابل في مناطق مغلقة، وأماكن محدودة المساحة، فيتركز فيها الغاز الخانق، ويتحول بسرعةٍ إلى غازٍ قاتلٍ.

اعتاد جنود الاحتلال الإسرائيلي على إطلاق قنابل الغاز على جموع الفلسطينيين في كل مكانٍ من فلسطين المحتلة، دون مراعاةٍ لوجود أطفالٍ صغارٍ، أو نساءٍ حوامل أو يحملن أطفالهم الرضع، أو شيوخ مسنين ورجالاً عجزة، ما أدى في كثيرٍ من الأوقات إلى سقوط العديد من الشهداء، الذين إما يستشهدون اختناقاً، أو تصيبهم أزماتٌ قلبية أو تنفسية تؤدي بهم إلى الوفاة بسرعة.

وفي بعض الأحيان يقوم الجنود الإسرائيليون بإطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع على البيوت والمنازل، وقد يكون سكانها نائمين فيها، أو محشورين في غرفةٍ ضيقةٍ تجنباً لإصابتهم بالأعيرة النارية، وأحياناً يستهدفون سيارات الإسعاف أو طواقم الصحفيين وغيرهم، الأمر الذي يزيد في ارتفاع حالات الوفاة اختناقاً، وخاصة من الأطفال والمسنين والمرضى، الذين لا يتحملون استنشاق الغاز الخانق قبل أن يكون مسيلاً للدموع.

تظن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن إطلاق قنابل الغاز أمرٌ مشروع ومباحٌ قانوناً، وأن المجتمع الدولي لا يحاسبهم عليه، ولا يعتب عليهم فيه، ولهذا فإنهم يفرطون في استخدام هذا السلاح، ويطلقونه بكثافةٍ، ويلجأون إليه بسببٍ أو بدونه، وقد لا يكون الجنود مدربين على استخدامها جيداً، أو يتعمدون إطلاقها على المتظاهرين فتصيبهم مباشرةً، وتلحق بمن تصيبه أضراراً كبيرةً إذا أصابت الرأس أو العين، أو كانت الإصابة من مكانٍ قريب، خاصة إذا علمنا أن قنبلة الغاز المسيلة للدموع أثقل وزناً من الطلقة، فهي مصنوعة من الألومنيوم، وفيها مواد كيميائية، وتنطلق بسرعةٍ كبيرة، مما يجعل أثرها قاتلاً أحياناً.

يستخف كثيرٌ من الناس بقنابل الغاز المسيلة للدموع، ويظنون أنها عادية، ويمكن للإنسان أن يتحملها، أياً كان سنه أو صحته، وربما هم يقارنون قنابل الغاز الإسرائيلية بمثيلاتها في الاسم التي تستخدمها أجهزتهم الأمنية والشرطية في قمع المتظاهرين وفض الجموع، والتي تطلقها في الأماكن العامة المفتوحة، وبصورة غير مباشرة، ويظنون أن أثرها محدود وفعاليتها مؤقتة، ويمكن السيطرة على تأثيرها بالبصل أو الكمامات الواقية أو المناديل المبتلة بالماء، أو الابتعاد النسبي عن المكان.

ربما الكثير من الناس ممن يقرأون خبر إطلاق سلطات الاحتلال الإسرائيلي لقنابل الغاز لا يشعرون بخطورته ولا بأبعاده على المواطنين، لأن الكثير منهم لم يجربه ولم يتنفسه، ولم يضيق صدره به، ولم يختنق وهو يحاول أن يسترد أنفاسه، ولم يصب أحدٌ أمامهم بالعمى المؤقت أو الدائم، ولم يروا العشرات يتقيأون ويغمى عليهم، ولم يشهدوا موت البعض أمامهم اختناقاً، كما لم يسمعوا عن حروقٍ داخلية لا تشفى، كحرق البلعوم والرئتين، هم ربما يعتقدون أن قنابل الغاز تؤدي في أسوأ الاحتمالات بصورةٍ مؤقتةٍ ولفترةٍ قصيرةٍ إلى ذرف الدموع بغزارة، والسعال وضيق التنفس، واحمرار العيون، وتعذر الرؤية في محيط التجمع أو المظاهرة، مما يدفع بالمتظاهرين والجموع إلى مغادرة المكان والتفرق.

من المؤكد أن القنابل المشروعة والمباحة، والتي يجيز القانون الدولي استخدامها، تختلف كلياً عن القنابل الإسرائيلية، فهي أشد وأقسى، وأكثر ضرراً وأسرع خنقاً، وتنتشر وتتمدد بسرعة، وتنتج عند إطلاقها كمياتٍ كبيرة من الغاز المتعدد الصفات والوظائف، وهي للعلم في أغلبها مستوردة من الولايات المتحدة الأمريكية ومن بعض الدول الأوروبية ومنها بريطانيا، الذين يبررون توريدهم هذه الأنواع من الأسلحة إلى الكيان الصهيوني، بأنها أسلحة مشروعة وغير ضارة ولا تؤدي إلى القتل، ولكنهم لا يعلمون أن الحكومة الإسرائيلية تستخدمها بكثافة، فتجعل البسيط شديداً، والقليل كثيراً، والضار قاتلاً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 44 / 2165851

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.مصطفى اللداوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165851 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010