الاثنين 23 آب (أغسطس) 2010

المأزق الأفغاني والدروس غير المستفادة

الاثنين 23 آب (أغسطس) 2010 par د. عبد الاله بلقزيز

استسهلت الولايات المتحدة الأمريكية كثيراً أمر الأوضاع في أفغانستان، فألفت نفسها تنغمس فيها من دون حساب العواقب إلى الحد الذي انقلب فيه الانغماس إلى غرق في المستنقع. لم يكن ذلك واضحاً لديها بعد غزو أفغانستان قبل نيف وثمانية أعوام، ذلك أن «الانتصار السهل» على طالبان، وما أعقبه من إمساك بمقاليد «الدولة» في البلد، ومن ترتيب لإقامة نظام موال لها فيه، والنجاح الذي أحرزته على صعيد تأمين قاعدة اجتماعية و«تمثيلية» لذلك النظام (اللوياجورغا)، وعلى صعيد استدراج دول عديدة للمشاركة في القوات الدولية، أوحى لها بالسيطرة على الأوضاع. وزاد من معدل هذا الاعتقاد لديها أن عدد من كان يسقط لها من قتلى في صفوف جنودها وجنود حلفائها في العام الواحد (كان) أقل من عدد من كانوا يسقطون لها في العراق في الشهر الواحد، خاصة بين العامين 2004 و2007.

ظل مصدر النزيف العسكري والبشري والاقتصادي لديها طيلة الولاية الثانية لجورج بوش هو العراق، فأفرغت فيه كل الجهد والوسع لوقف المقاومة والتقليل من خسائر بدأت تتفاعل في داخلها السياسي على نحو حوّل إدارة بوش في عيون الأمريكيين إلى كارثة قومية كبرى لم يسبق أن أصيبت بها البلاد. وقد كان يسع إدارتها، في ذلك الحين، أن تقول للأمريكيين إنها كسبت الحرب جزئياً في أفغانستان، ولم تقض نهائياً على تنظيم «القاعدة» ولا أمسكت رؤوسه القيادية الكبرى، لكنها أسقطت نظام «طالبان» وأنتجت نظاماً سياسياً تابعاً من عملائها والموالين لها، وأحكمت قبضتها العسكرية على كابُل والأقاليم الكبرى في الوسط والغرب، وأجبرت مقاتلي «طالبان» على الانكفاء إلى الجنوب الشرقي، وحدّت من الخسائر في قواها البشرية، ناهيك بأن ضرباتها لـ «القاعدة» في أفغانستان حدّت من خطرها على الأمن القومي الأمريكي ومن قدرتها على إلحاق الأذى به. وإذا كانت وظيفة مثل هذا القول أن يبرر للأمريكيين حرباً خيضت تحت عنوان تصفية «الإرهاب» وتدمير قواه وشبكاته ومصادره، فمن وظائفها في ذلك الحين أيضاً التعويض عن الفشل الذريع الذي منيت به حربها على العراق وفيه.

وكان الفشل هذا دمَّر حظوظ الجمهوريين في الاحتفاظ بالسلطة في أمريكا، ووفر للحزب الديمقراطي فرصة مثالية لاستدرار تأييد الرأي العام من طريق استثمار سياسي وانتخابي ناجح لورطة إدارة بوش في العراق. ولم يكن ثمة أفضل من أن تتركز حملة باراك أوباما الانتخابية على مطلب جماعي ضاغط لدى الأمريكيين هو الخروج من العراق، الذي ألحقت حربه بهم نزيفاً لا يطاق، لكي يجتاز المنافسة بنجاح على أنقاض إخفاقات سلفه. لكن إدارة أوباما لم تلبث أن سقطت في الفخ عينه الذي سقطت فيه سابقتها، إذ سرعان ما ستندفع إلى نزيف جديد، لم تكن تتخيل حجمه في أفغانستان، تحت عنوان الاستمرار في استراتيجية «الحرب على الإرهاب» وإحراز نجاح حاسم فيها.

من النافل القول إن إدارة أوباما ما كان يمكنها أن تتجاهل المخاطر المحدقة بالأمن القومي الأمريكي، خاصة بعد أن أوصلتها إدارة بوش إلى هذا الخيار وأورثتها تبعات صدامها الطاحن مع «القاعدة». لكنها ما أرادت حماية هذا الأمن في داخلها وعلى حدودها الجغرافية، وإنما جنحت لما جنحت له سابقتها من افتراض بأن الأمن يتحقق من طريق نقل الحرب مع «الإرهاب» إلى الخارج، إلى ساحته التي ينطلق منها. ولم يكن ثمة تلازم بين الأمريكيين بالضرورة، إذ لو كان على كل دولة أن تعرّف أمنها القومي على هذا النحو، لتحولت الكرة الأرضية برمتها إلى ساحة قتال. ثم إن استئناف «استراتيجية بوش» للحرب على «الإرهاب» لم يكن يعني سوى المزيد من النزيف البشري والاقتصادي للولايات المتحدة وخاصة بعد أن هزتها أكبر أزمة مالية منذ أزمة العام 1929.

وما إن بدأ ضغط المقاومة العراقية على الاحتلال الأمريكي يخف وكان ذلك في جانب كبير منه نتيجة الأدوار الخدماتية التي قدمتها «الصحوات» للاحتلال حتى زاد معدله في أفغانستان، وخاصة منذ صعود أوباما إلى السلطة في واشنطن. وإذا كان التزايد المثير لعمليات «طالبان» ضد قوات الاحتلال، وارتفاع الخسائر البشرية في صفوف الجنود الأمريكيين وحلفائهم، من العلامات الدالة على مأزق استراتيجية أوباما في أفغانستان، فإن مما يفصح عنها أكثر ذلك الجنوح الدولي المتعاظم لسحب القوات العسكرية من أفغانستان سريعاً، الذي أبدته دول عدة مشاركة ضمن القوات الدولية. يترافق ذلك مع محاولات يائسة من أمريكا لشق صفوف حركة «طالبان» تحت عنوان الاستعداد للتعامل مع «معتدلي» الحركة، ومن أجل قطع الطريق على دعوات حلفاء آخرين لها مثل بريطانيا إلى التفكير في خيار الحوار والتفاوض مع الحركة كحل وحيد للمأزق الحاد الذي يمر به الوجود العسكري الأجنبي والسياسات التي تدير الأزمة الأفغانية.

من المؤكد أن السياسة الأمريكية لم تستفد بعد من دروس الحرب في أفغانستان إبان الاحتلال السوفييتي لها، فاستراتيجية زيادة عدد القوات للسيطرة على الأوضاع وهي التي يتبناها أوباما وقادة جيشه هي عينها التي أخذ بها السوفييت في النصف الثاني من الثمانينات بعد أن زادت عمليات «المجاهدين الأفغان» ضد قواتهم والقوات النظامية . ولقد مر على الوجود العسكري السوفييتي حين من الزمن سيطر فيه على الأوضاع الأمنية وكرّس فيه سلطة النظام الموالي له تماماً مثلما حصل للأمريكيين قبل هذه الورطة. ولقد رفض السوفييت التفاوض مع «المجاهدين» قبل أن يرفض الأمريكيون التفاوض مع «طالبان»، وتجاهلوا قوة الباشتون معتمدين على الأوزبك والطاجيك كما يتجاهل الأمريكيون القوة الإثنية نفسها : وهي البيئة الحاضنة لحركة «طالبان». ومع ذلك، اضطر السوفييت بعد عشر سنوات من الاحتلال إلى الانسحاب وسقط النظام الموالي لهم. فهل يسع أمريكا أن تصمد عامين آخرين لتكمل سنواتها العشر في أفغانستان؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165838

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165838 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010