الجمعة 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة

الجمعة 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 par د. مصطفى يوسف اللداوي

- (40)

وداعاً للكارلو ستاف وأهلاً بالكلاشينكوف

يبدو أن المخابرات الإسرائيلية فرحة بما اكتشفت، وسعيدة بما أعلنت، فقد ضبطت في حوزة فلسطيني من سكان الخليل بندقية كارلوستاف، وأذاعت الخبر ونشرت صورة البندقية، وكأنها قد وجدت ثكنةَ سلاحٍ أو مخزن ذخيرة، أو أنها ألقت القبض على فرقةٍ عسكريةٍ أو خليةٍ مسلحةٍ، وتريد من العالم كله أن يشاهد ماذا يملك الفلسطينيون وماذا يحمل المتظاهرون معهم، وأنهم يكذبون ولا يصدقون عندما يدعون أن مظاهراتهم سليمة، وأن انتفاضتهم غير مسلحة، وأن احتجاجاتهم ليست مدنية، بل إنها مظاهراتٌ مسلحة، وعملياتٌ عنفيةٌ منظمة، وعناصرها يحملون الأسلحة الرشاشة التي تشكل خطراً على حياة الإسرائيليين، وقد أوقعت في صفوفهم العديد من الضحايا.

هذا ما يروجه العدو الإسرائيلي اليوم، وهو ما تركز عليه وسائل إعلامهم وما يقوله الناطقون باسمهم، ليبرروا للعالم جرائمهم التي يرتكبونها في حق الفلسطينيين، وأنهم ليس كما يقال عنهم ويشاع، أنهم يبادرون إلى قتل الفلسطينيين دون سبب، أو أنهم يتعمدون قتلهم وتلفيق التهم لهم، ويدعون أنهم يحملون أسلحةً أو سكاكين وآلاتٍ حادة، بل إنهم يلجأون إلى استخدام الأسلحة النارية، ويسمحون لمستوطنيهم بإطلاق النار، في حال تعرضهم للخطر، أو عند إحساسهم بوجود عناصر مريبة فعلاً، وتتصرف بطريقةٍ مشبوهة.

الفلسطينيون ليسوا عاجزين عن استخدام الأسلحة النارية، ولا يترددون في إخراجها واستخدامها إن رأوا لذلك ضرورة وفيها مصلحة، ولا شك أنه يوجد عندهم بعض الأسلحة التي يقاومون بها، رغم الحملات الأمنية المحمومة التي تقوم بها المخابرات الإسرائيلية ضد المقاومين، لسحب سلاحهم، وإحباط عملياتهم، وتفكيك شبكاتهم، واعتقال أو قتل عناصرهم، فضلاً عن تعاون الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع مخابرات العدو بموجب تفاهمات دايتون، والتي نجحت في إحباط عشرات العمليات التي خططت لها المقاومة، وأفشلتها نتيجة عمليات الاعتقال المبكرة، التي تتم على قاعدة التنسيق وتبادل المعلومات.

الفلسطينيون قادرون على استخدام السلاح في انتفاضتهم الثالثة، لكنهم قرروا منذ الأيام الأولى لاندلاعها أنهم لن يعسكروها حكمةً لا خوفاً، ولن يستخدموا فيها الأسلحة النارية تكتيكاً لا جبناً، ولن يعطوا العدو المتربص بهم المبرر والذريعة لاستخدام أقصى ما لديه من قوة لقمع الانتفاضة ووضع حدٍ لها، ويعلمون أن عسكرتها لدى العدو حلمٌ ومخرجٌ من الأزمة التي وقع فيها بسياساته، فهو وإن لم يكن قادراً على إنهاء الانتفاضة والقضاء على فعالياتها، فإنه لا يخفي رغبته في عسكرتها ليتمكن من استخدام القوة المفرطة، وكل ما لديه من أسلحة لإيقاع أكبر عددٍ ممكن من القتلى في صفوف الفلسطينيين، نتيجة تفوقه في العتاد والجنود، اعتقاداً منه أن القوة المفرطة الموجعة والمؤلمة، من شأنها أن تحبط الفلسطينيين، وأن تزيد من درجة اليأس والقنوط لديهم، بسبب كثرة ضحاياهم وقلة عدد القتلى في الجانب الآخر.

لكن أصواتاً فلسطينيةً أخرى نجلها ونقدرها، ونقدمها ونحترمها، وفيها من الحكمة والرزانة ورجاحة العقل ما يجعلها تتقدم ونصغي إليها، ترى أنه لا غنى عن المقاومة المسلحة، واستخدام الأسلحة المختلفة التي توجع العدو وتؤلمه، وتضغط عليه وتؤثر فيه، وقد استخدمت الكثير منها وعندها الجديد والمبتكر أيضاً، والمصنع والمهرب وما هو من بين الأيادي ومن إنتاج الأرض.

وهي ترفض منطق الانتصار بالشهادة، والصمود بالاعتقال، والثبات بالجرح والألم، رغم أن هذه المعاني هي ما يتميز بها شعبنا ويكبر بها، لكنهم لا يقبلون بمنطق الرضا بالصفع دون الرد، ولا يؤمنون بأن العين لا تقاوم المخرز، بل يرون أن الانتصار يلزمه إثخانٌ في صفوف العدو، وسفكٌ لدمائه بذات الدرجة التي يسفك فيها دماء شعبنا، وكما يخيفنا فإن عليه أن يخاف، وكما يفقدنا الأمن ويحرمنا من السلامة، فإنه يجب أن يذوق من نفس الكأس الذي يجرعنا منه، فلا يأمن على حياته، ولا يسلم شعبه ومستوطنوه من الثأر والانتقام، عيناً بعينٍ، وسناً بسنٍ.

ربما يمثل هذا الرأي قطاعاً كبيراً من أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وهو يروق لأمتنا العربية والإسلامية أيضاً، بل يؤيدونه ويفضلونه أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، إذ لا يرون في المقاومة السلمية خيراً، ولا يأملون منها شيئاً، فتراهم يؤيدون السكين والمدية، والفأس والمعول والحديدة، ويحرضون على الدهس والصدم والقتل، ولكنهم يصرون على كافة أشكال المقاومة الأخرى، فهم يريدون أن يشفوا غليلهم، وأن يبردوا قلوبهم، وأن يروا في العدو يوماً أسوداً، فيه يشكون ويبكون، ويشربون من نفس الكأس المر الذي اعتاد أن يذيقه لشعبنا، وإلا فإن دماء الشهداء تذهب هدراً، ويموت الأهل من عجزهم كمداً، ويصمت الرجال قهراً، وتتحسر النساء على أولادهن، ويلبسن السواد مدى عمرهن، ويقبلن بالحداد علامةً لأيامهن.

إنها مسيرة مقاومة ومرحلة تحرر، طويلةٌ ومؤلمة، وقاسية وموجعة، وفيها ضحايا وخسائر، ومحنٌ وابتلاءات، فلا ينبغي أن يستسلم الشعب فيها لما يخطط له، ويقبل بأن يساق إلى المذبح دون مقاومة، فينقاد مسكيناً ويستسلم خانعاً ويقتل ذليلاً، بل ينبغي أن يرفض ويقاوم، ويصد ويواجه، وإلا كيف سيكون في صفوفه أبطالٌ ورجالٌ وشجعان، فهؤلاء لا يتشكلون إلا في الميدان، ولا تبرز أسماؤهم إلا على الأرض، ولا يحفظ الشعب ذكرهم إلا بمقدار ما أوجعوا العدو وآلموه، وآذوه وقتلوه.

ربما يفرح العدو بصيده الذي ظنه ثميناً، وقد يوظفه لصالحه زمناً، وقد يستغله لدى الغرب وغيرهم تشويهاً واتهاماً، وقد يجعله مبرراً للقتل وسبباً للجريمة، لكنه يخطئ إن ظن أن الفلسطينيين سيحزنون بما اكتشف، وسيغمون بما عرف، وسيسقط في أيديهم بما سلب، بل سيعلم ولو بعد حين أن بندقية هذا الشعب ستبقى مشرعة، وأن سلاحه سيبقى عامراً، وأنه لن يتخلى عن البندقية وغيرها، بل سيعدد في سلاحه، وسينوع في أدوات نضاله وأشكال مقاومته حتى يحقق النصر الذي إليه يتطلع، ويعيد الأرض التي بها يتمسك، ويستعيد الأقصى الذي فيه يتعبد، والقدس التي بها يتميز.

- (41)

الطردة يفرض حضر التجوال على الفالوجة

شابٌ فلسطيني واحدٌ صادقُ اللهجة، واثقُ الخطوة، حادُ النظرة، قويُ الإرادة، صامدٌ على أرضه، متمسكٌ بثوابته، حريصٌ على مقدساته، غيورٌ على شعبه، ومصممٌ على منهجه، أعزلٌ إلا من سكينٍ، ومجردٌ إلا من صدق إرادته وعمق إيمانه بحقه، ينجح وحيداً في إرباك العدو الإسرائيلي وإشغال أجهزته الأمنية وقواه العسكرية، وطواقم البلدية والخدمة المدينة، وعناصر الإسعاف والدفاع المدني، ويجبر السلطات الإسرائيلية على الطلب من مواطنيهم عدم الخروج من المنازل أو التجول في الشوارع والطرقات، وعدم فتح أبواب بيوتهم لأي طارقٍ إلا بعد التأكد من شخصيته وهويته، ثم أصدرت الجهات المختصة أوامرها بتعطيل المدارس والجامعات، ومنع التلاميذ والطلاب من الخروج إلى مدارسهم وجامعاتهم، مخافة أن يتمكن المقاوم الفلسطيني الشاب الحر الطليق من الاستفراد بأحدهم وطعنه.

حالة استنفارٍ كبيرةٍ وتوترٍ شديدٍ سادت مدينة كريات جات الإسرائيلية، التي تحولت خلال فترةٍ قصيرةٍ إلى ثكنةٍ عسكرية، تغص بالجنود والضباط وعناصر الشرطة وسيارات الإسعاف والدفاع المدني، الذين جاؤوا على أهبة الاستعداد وبكامل الجاهزية لمواجهة أي طارئ، وكأنهم يواجهون جيشاً معادياً، أو مجموعةً عسكريةً كبيرة، لا مجرد شابٍ ثائرٍ، وفلسطينيٍ غاضبٍ، خرج لينتقم لشعبه، ويثأر لأهله، لكنه الجبن الإسرائيلي والخوف الذي جبلوا عليه ونشأوا فيه، ذلك أنهم يعرفون أنهم ظالمين ومعتدين، وقتلة ومجرمين، ويعلمون أن حالهم هذا القائم على الظلم والاغتصاب لن يدوم ولن يستمر مهما طال الزمن وتأخر الحسم، ومهما بلغت قوتهم وعلا شأنهم وتعاظم سلاحهم وازداد تفوقاً وفتكاً.

إنه محمد شاكر الطردة، الفلسطيني ابن بلدة تفوح قضاء الخليل، الذي استطاع وحده أن يدخل العدو الإسرائيلي في دوامة قلقٍ واضطراب، وحيرةٍ وخوف، بعد أن نجح بمفرده في طعن عددٍ من المستوطنين، ثم لاذ بالفرار ونجح في التواري عن الأنظار والاختباء بعيداً عن العيون، الأمر الذي أخاف الإسرائيليين أكثر، وجعلهم يتربصون خيفةً وقلقاً، ويلتفتون يمنةً ويسرةً، مخافة أن يطلع عليهم بسكينه، ويكمل ما بدأه فيهم طعناً ومحاولةً للقتل، وهم يعلمون أنه سيكون أكثر جرأة وأكثر اندفاعاً، وأشد رغبةً في الطعن ومحاولة إصابة أكبر عددٍ ممكنٍ منهم، لعلمه أنه سيقتل، وأنهم لن يتركوه وشأنه، ولم يكتفوا باعتقاله، بل سيجهزون عليه كحال كل الشهداء الذين سبقوه ونفذوا عملياتٍ تشبه ما قام به.

لهذا كان الإسرائيليون يشعرون أنهم في مواجهةِ أسدٍ هصورٍ، ونسرٍ جارحٍ، وصقرٍ يرقبهم من مكمنه، وأنه سينال يقيناً من كل من يقابله ويجده في طريقه، ولن تخيفه قوة، ولن تمنعه إرادة، إذ كيف سيصدون رجلاً يقبل على الشهادة بنفسه، وينوي المواجهة وهو يعلم أنه سيقتل، الأمر الذي يجعله يفكر جاداً ألا يقتل بدمٍ باردٍ، وألا يسلم نفسه لعدوه رخيصاً بلا ثمن، وسهلاً بلا غرمٍ أو مقاومة، قبل أن يثخن فيهم غاية ما يستطيع.

خلت الشوارع فعلاً، وران على المدينة صمتٌ شديدٌ، وسكن أرجاءها الخوف، وبدأ السكان في الاتصال ببعضهم، يطمئنون على أنفسهم ومن غاب من أبنائهم، ويطلبون ممن هو خارج المدينة ألا يعود إليها، بينما كان محمد في المدينة، لم يغادرها بعد، ولم يتمكن من الابتعاد كثيراً عن مكان الحادثة، بل كان يتربص ويترقب، وفي نيته مواصلة ما بدأ، واستكمال ما خرج من أجله، ولكن حالة الاستنفار كانت كبيرةً جداً، وعدد الجنود وعناصر الأمن والشرطة الذين يجوبون المناطق، ويبحثون ويفتشون عن منفذ عملية الطعن كان كبيراً، وكانوا في حالة جهوزيةٍ عالية، يحملون بنادقهم ومسدساتهم، وأيديهم على الزناد، الكل يتطلع ويتفحص المكان، وأخيراً تمكنوا من الوصول إليه بينما كان في حديقة أحد المنازل، واقفاً يحمل سكينه متأهباً، ينوي المهاجمة ولا يتطلع إلى الفرار.

شعر العدو الإسرائيلي أنه قد حقق نصراً، وأفشل مخططاً، وأنه تمكن من إحباط عمليةٍ عسكريةٍ نوعيةٍ كان سيقوم بها الفريق محمد شاكر الطردة، وطنوا أنهم باعتقالهم له سينامون ليلهم الطويل، وستذهب عنهم كوابيسهم وأحلام ليلهم المزعجة، ورعبهم الدائم في ساعات النهار، وأن أحداً لن يأتي من بعده، ولن يتم ما بدأ غيره، ولن يستكمل المسيرة سواه، وما علموا أن الراية لا تسقط، والسكين كما البندقية لا تقع من يد فلسطينيٍ أبدا، بل يسلم الراية مقاومٌ إلى مقاومٍ، ويحمل السكين شابٌ إثر شابٍ أو فتاة، وتمضي المسيرة، وتتواصل المقاومة، ويعلن الفلسطينيون أن أرضهم أعز عندهم من المهج والأرواح، وأن قدسهم أمانةٌ عندهم في كتاب الله، لا يفرطون فيها ولا يتنازلون عنها، ولا يتأخرون في حمايتها والدفاع عنها.

كريات جات التي استهدفها الطردة بسكينة، مدينةٌ فلسطينية عريقةٌ في المقاومة، وتاريخها ساطعٌ في الصمود والثبات، إنها بلدة عراق المنشية، أو مدينة الفالوجة الشهيرة، التي بات اسمها علمٌ، يطلق على مدنٍ كثيرةٍ، وشوارع ومدارس وميادين عربية عديدة، ذلك أنها المدينة الفلسطينية التي كانت أكثر من صمدت في حرب عام 1948، ولم تسقط في يد الإسرائيليين، الذين لم يتمكنوا من دخولها عنوةً بقوة السلاح وإرهاب العصابات المسلحة، بل بقي فيها المقاتلون العرب والفلسطينيون، صامدون يقاومون، يقاتلون بشراسةٍ ويرفضون الخضوع والاستسلام، حتى غدت هذه المدينة اسماً لكل مقاومةٍ، ورديفةً لكل صمودٍ وثباتٍ في وجه الاحتلال، الذي اكتوى بها قديماً، وتألم فيها وبكى اليوم جديداً.

شكراً لك محمد الطردة، واعلم أن سجنك لن يطول، وقيدك لن يدوم، وحريتك وغيرك لا محالة ستكون، وأنك في أغلالك وخلف الأسلاك والقضبان في السجون والمعتقلات ستبقى تخيفهم، فقد أعدت وصل ما انقطع، وأحييت فينا ذاكرةً عزيزةً وأياماً مجيدة، وأثبت للعدو الإسرائيلي أن هذه المدينة كانت لنا وستبقى لنا، وسنعود إليها طال الزمن أم قصر، وستخلو شوارعها منهم، وستعود بيوتها لنا كما كانت، نسكنها ونعمرها، ونصبغها بصبغتنا العربية والإسلامية، وسنعمر مساجدها، ونحي دور العبادة فيها، وسيصدح في سمائها من جديد نداء الله أكبر من فوق مآذنها، وبصوت أهلها وسكانها الفلسطينيين، العرب المسلمين الأماجد.

- (42)

يوم الاثنين الدامي

يوم الاثنين الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين ثاني يومٌ دامي بحقٍ، وأليمٌ بلا شك، وأسودٌ بلا ريبٍ، رغم أن فيه مع الحزنِ فرحةً، ومعه بعض السعادة، وفيه مع الألم شيئٌ من الأمل، ولكنه يبقى يوماً من أيام الانتفاضة المجيدةِ مشهوداً، وتاريخاً محفوظاً، ففيه ما يميزه ويجعله عن باقي الأيام مختلفاً، وعن سواه مغايراً، فهو يوم الشهداء الأطفال بامتياز، ويوم المقاومين الصغار بحق، فالذين سقطوا وجرحوا واعتقلوا، والذين نفذوا وطعنوا، كانوا جميعاً من الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم السادسة عشر.

وقد توزعت الأحداث في هذا اليوم فشملت القدس حيث الإجراءات الأمنية الإسرائيلية قد بلغت فيها ذروتها، ولكن هالة الأمن التي كانت سلطات الاحتلال تدعيها في مدينة القدس ومحيطها قد تمزقت وتبددت بفعل فتاتين فلسطينيين صغيرتين، إذ وصلتا إلى قلب القدس، وإلى أكثر أماكنها أمناً وحساسية، وامتد يوم الفلسطينيين الدامي إلى مدينة رام الله وشمالاً إلى نابلس، وإن كان الكثير من النشطاء والمنفذين يأتون من محافظة ومدينة الخليل إلى كل المدن والبلدات الفلسطينية.

إذ في هذا اليوم قتل في شارع 443 جنوب غرب رام الله مستوطنٌ يهودي وأصيبت أخرى بجروح، عندما قام شابٌ من مدينة رام الله بطعنهما، فقتل الأول وأصاب الثانية وهي مجندة في جيش الاحتلال بجراحٍ خطيرة، وترك المستوطنين يتخبطون في دم قتيلهم وحيرة مستقبلهم، ولكن فرحة نجاحه في طعنهما لم تكتمل، إذ تكالب عليه المستوطنون، وأطلقوا عليه النار من كل مكانٍ فقتلوه، وأبقوه على الأرض ملقىً، ولم يسمحوا للإسعاف الفلسطيني بالاقتراب منه، علماً أن الشاب قد نجح بعد طعنهما بالفرار بعيداً عن مكان الحادثة.

وفي الخليل التي لا تتوقف عن الغليان، ولا تهدأ فيها الانتفاضة، ولا يتوقف أبناؤها عن تصدير الثورة، ونقل الجذوة وحمل المشعل إلى مختلف مدن الضفة الغربية، فقد تمكن أفراد من جيش العدو من توقيف مواطنةٍ فلسطينيةٍ قرب الحرم الإبراهيمي جنوبي المدينة، ولكنه أخفى المرأة ولم يعلن عن حالتها شئ، ولم يبين ما هو وضعها ولماذا اعتقلها، وقد أبقى حالتها غامضة، ولم يعلن عن المكان الذي نقلها إليه، الأمر الذي قد يدفعه لقتلها والادعاء بأنها كانت تحمل سكيناً وتهم بطعنٍ جنودٍ أو مستوطنين إسرائيليين.

أما في مدينة القدس، وبالقرب من محطة القطار عند سوق محنيه يهودا، فقد كانت الخسارة كبيرة والمصيبة موجعة، عندما قام المستوطنون بإطلاق النار على فتاتين فلسطينيتين قاصرتين، إحداهما في الرابعة عشر من عمرها، بينما لم تتم الثانية عامها السادس عشر، وهما من عائلةٍ واحدةٍ، حيث قتل الإسرائيليون الطفلة الثانية عن قربٍ، وجاء غيرهم وأطلق عليها النار من جديدٍ بعد مقتلها، بينما أصيبت الصغرى بجراحٍ ونقلت من مكان الحادث تحت الحراسة المشددة إلى مستشفى إسرائيلي.

لكن الفتاتين الصغيرتين الغاضبتين الحانقتين الثائرتين الغيورتين، كانتا تحملان مقصاً، وقد جاءتا به من بيتهما، بزيهما المدرسي الذي يتميز به التلاميذ، ونجحتا في طعن أربعة صهاينة، وإن كانت جراح ثلاثة منهم بسيطة، فإن جراح الرابع وصفت بأنها خطيرة، وقد نقلت وسائل الإعلام المختلفة صوراً لصهيونيٍ شابٍ، يدوس بقدمه يد الفتاة الشهيدة، ويحاول الضغط عليها كمن يريد سحقها.

أما في حوارة جنوب مدينة نابلس، فقد انبرى للشهادة طفلٌ فلسطيني آخر، لم ينهِ بعد عامه السادس عشر، وأصيب معه شابٌ في الثامنة عشر من عمره، وكانت سلطات الاحتلال قد أوقفتهما على حاجز حوارة العسكري، إلا أن الجنود الإسرائيليين على الحاجز اشتبها فيهما، وأطلقا النار باتجاههما ما أدى إلى استشهاد الطفل ذي الستة عشر عاماً، وإصابة الآخر بجراح، نقل على إثرها إلى المستشفى.

يحزن الفلسطينيون ومعهم الكثير من أبناء الأمة العربية والإسلامية على الفلسطينيين الذين يسقطون في هذه الانتفاضة على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وجلهم من الأطفال والشباب اليافع، ويزدادون حزناً وألماً عندما لا يتمكن المنفذون من قتل أو إلحاق الأذى الشديد بالجنود والمستوطنين الإسرائيليين، وتكون النتيجة استشهاد المنفذين ونجاة الإسرائيليين، إذ بلغ عدد شهداء الانتفاضة منذ مطلع أكتوبر الماضي حتى اليوم الاثنين أكثر من تسعين شهيداً، بينما لم يصل عدد القتلى الإسرائيليين إلى عشرين قتيلاً.

علق كاتبٌ إسرائيلي على أحداث يوم الاثنين واصفاً إياه باليوم الأسود الإسرائيلي، وأنه ليس أسوداً على الفلسطينيين، الذين يناضلون من أجل قضيتهم، وينتفضون لاستعادة أرضهم وحقوقهم، ومن الطبيعي لشعبٍ يقاوم أن يسقط منها قتلى وتلحق به خسائر، والفلسطينيون يقتلون على مدى عمر حكومات الليكود وكاديما من قبل دون أسبابٍ موجبة لذلك، ولا مبررات ومسوغاتٍ أمنية تجيز قتلهم ولا تفضل عليه اعتقالهم.

وهو أسودٌ بالنسبة للإسرائيليين، إذ كشف هذا اليوم عن سوء خلقهم، وتردي قيمهم، وافتقارهم إلى القيم الإنسانية، وبين أنهم لا يحترمون أصول وقواعد القتال والاشتباك، ولا منطلقات التعامل مع الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، فهم يقتلون الميت، ويجهزون على الجريح، ويعدمون البريء، ويعتدون على الفلسطينيين ثم يطالبونهم بالقبول بهم، والتفاوض معهم، والاستجابة إلى شروطهم، وتفهم حاجاتهم ومصالحهم.

ربما صدق هذا الإسرائيلي من حيث لم يكن يقصد الصدق، ولكنه قال الحقيقة التي قد تغيب عن بال الكثيرين، فالفلسطينيون لا يفرقون بين أيامهم، ولا يصفون يوماً بأنه أسودٌ وآخر بأنه أبيض، بل يعتبرون كل أيامهم متشابهة ما بقي الاحتلال، وهي واحدة ما استمرت الانتفاضة في فعالياتها وعملياتها، وهم لا يوقفون مقاومتهم ولا يمتنعون عن تقديم الشهداء، ولا يستعظمون تضحياتهم أمام هدفهم الكبير.

كما أن الأيام كلها تعري الإسرائيليين وتكشف عن دونية أخلاقهم، وتردي قيمهم، وتفضح ممارسات جيشهم الذي يدعي المناقبية العالية، والتمسك بالقيم الإنسانية الرفيعة، وتكشف أيضاً عن سلوكيات شعبهم، وأخلاق مستوطنيهم، والدرك السحيق الذي وصلوا إليه، وتكذب دعواهم بأنهم يحبون السلام ويسعون إليه، وهم في حقيقتهم قتلة ومجرمون، ومعتدون وظالمون، وغاصبون ومحتلون، مما يجعل مستقبلهم مجهولاً، وتاريخهم على مدى الأيام دامياً، لا يجلب لهم إلا الحروب، ولا يورث لهم إلا المهالك.

- (43)

اقتلوا الإسرائيليين حيث ثقفتموهم

نعم إنها دعوة صريحةُ وواضحة، ومباشرةٌ ومقصودة، ولا غموض فيها والتواء، ولا سرية فيها ولا إخفاء لها، ولا خوف منها ولا إنكار لها، ولا تردد فيها ولا ندم عليها، ولا انتقاء منهم ولا اصطفاء بينهم، فهم جميعاً سواء لا فرق بينهم ولا خيار فيهم، إنها دعوةٌ مباحةٌ ومشروعةٌ لقتل الإسرائيليين أينما ثقفوا وحيثما وجدوا، وملاحقتهم أينما ذهبوا، ومطاردتهم أينما حلوا، والتضييق عليهم حيث نستطيع ونتمكن، فقد والله أوجعونا وآذونا، وألمونا وأحزنونا، وبالغوا في الإساءة إلينا، فلا تأخذنا بهم رحمة، ولا تقعدنا عنهم رأفة، ولا نقصر عن عملٍ نستطيعه، أو مقاومةٍ نقدر عليها، أو إيذاءٍ نقوى عليه، فإنهم والله يستحقون القتل، ولا يسـتأهلون الحياة، ولا يحق لهم البقاء بيننا والعيش معنا، فهم ليسوا كالبشر وإن بدو مثلهم، ولا ينتمون إلى الإنسانية وإن ادعو أنهم من سلالة الإنسان، وأنهم يتصفون بالإنسانية، ويتحلون بأخلاقها وقيمها.

إنها استجابةٌ لنداءِ أطفالنا، وصرخات فتياتنا، ودعوات أمهاتنا، وأماني رجالنا، وحسرات الراحلين ومنتهى آمال السابقين، إنها أمنية الأحياء ووصية الأموات والشهداء، إنها العهد والبيعة، والوصية والوعد، والعهد والميثاق، فلا نخيب رجاءهم، ولا نحسر نفوسهم، ولا نبكي عيونهم وندمي قلوبهم، ولا نتركهم لمصيرهم ونتخلى عنهم لقدرهم، ولا ندعهم وحيدين في مواجهة هذا العدو اللعين والخصم الماكر الرجيم، فإنه ينوي البطش بهم والقضاء عليهم، ويتطلع إلى طردهم وإخراجهم، وحبسهم وحصارهم، وتعذيبهم والتضييق عليهم.

أفلا ترون أنه يتعمد قتل كل عابرٍ ومار، وكل ماشٍ وراكب، وصغيرٍ وكبير، وامرأةٍ ورجل، وكل برئٍ ومتهم، وعاديٍ ومشتبه به، ويطلق النار على من يمشي مسبلاً يديه ومن يضعهما في جيبه، ومن يطوح بيديه ومن يحمل بهما حقيبةً أو أي شئٍ آخر، أو يدهسهم لمجرد الرغبة في الدهس، والحاجة إلى سفك الدم والقتل، وإن هم قتلوهم وغالباً ما يفعلون، فإنهم يتعاورون في إطلاق الأعيرة النارية القاتلة، فيطلقون النار على المقاومين والمواطنين عن قربٍ ومن كل مكانٍ، وهم يعلمون أن الكثير من الضحايا هم أطفالٌ لم تتجاوز أعمارهم السادسة عشر، ومنهم دون ذلك بكثير، وأغلبهم لا يشكل عليهم خطراً، ولا يحمل في يديه ما يجرح أو يؤذي، ومع ذلك فإن على الأرصفة وفي الشوارع عشرات الشهداء، الذين يعدمون في أماكنهم، ويتركون لساعاتٍ دون أن يقوَ أحدٌ على الاقتراب منهم ونقلهم، أو تقديم المساعدة لهم.

وإن كنا نؤمن بما قاله عبد الله بن الزبير وقد صلب بعد مقتله على باب الكعبة المشرفة، وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها، فبدورنا لا يؤلمنا ما يصيب شهداءنا وما يلحق بهم، فهم مكرمون بالشهادة، ومقدرون بالمقاومة، ومكانتهم عالية بما قدموا وما عزموا على القيام به، ودرجتهم عند الله وبين الناس رفيعة، ولكن تسوؤنا أفعال العدو البشعة المهينة، التي تدل على نفوسٍ عفنةٍ مريضةٍ، وأحقادٍ قديمةٍ موروثة، فهذا يلقي على الشهيد شرائح من لحم الخنزير، وذاك يدوس بقدمه جسد الشهيدة، ويقف على كفها وهي على الأرض مسجاةٌ تنزف دماً، تئن أو تفارق الحياة، وآخرون يجرون الشهيد جراً ويسحلونه على الأرض، ويضعون بالقرب منه سكيناً أو قطعة حديدٍ حادةٍ أو مدببةٍ، ليبرروا فعلهم الخسيس وعملهم الدنيء الباطل.

مخطئٌ من كان قادراً على الانتقام من الإسرائيليين وتأخر، أو كان قادراً على الثأر منهم وقصر، فمن استطاع قتلهم فليفعل، ومن استطاع جرحهم وإصابتهم فليفعل، ومن لم يقوَ إلا على إيذائهم فلا يحزن، بل يعجل ولا يتأخر، ومن كان في يده حجراً فليقذفهم به، أو فليلقمه في أفواههم، ومن كان بيده سكينٌ أو خنجرٌ فليطعنهم به وليغرسه في صدورهم ولا يتردد، فهؤلاء مجرمون وقتلة، ومغتصبون ومردة، قتالهم واجب، وحربهم فرض، ومقاومتهم ميدان تنافسٍ ومضمار سباقٍ، وساحةٌ للنزال وإثبات للذات وضمان للمستقبل، وهنيئاً لمن كان له فضل السبق أو بعض السهم، أو القليل من العطاء أو الكثير من الجهاد والمقاومة، فهذا مقامٌ ينبغي فيه تقديم كل شئٍ لنصل إلى ما نريد، ونحقق ما تصبو إليه نفوسنا، فطوبى لمن بذل النفس أو الدم، ولمن أعطى الروح قبل الجسد، ولمن ضحى بالمال والولد، ولكل من ضحى بنفسه ثأراً وانتقاماً،

ومجرمٌ من ينبري للدفاع عنهم وحمايتهم، أو يبرر فعلهم ويتفهم دوافعهم، أو يوافق على جرائمهم ويصدق روايتهم، أو يساعدهم ويساندهم، أو يناصرهم ويواليهم، ويعمل عملهم ويكمل دورهم، ويحاصر مثلهم ويعاقب نيابةً عنهم، أو يقوم مقامهم في الحراسة والرقابة، وفي التضييق والملاحقة، أو يمتنع عن تقديم العون والمساعدة، والنصرة والمساندة، للفلسطينيين الذين هم في حاجةٍ إلى العلاج والرعاية والاستشفاء والدواء والغذاء, ولوازم الصمود وعوامل البقاء.

وخائنٌ للدين والوطن من يوشي بالمقاومين أو يحبط أعمالهم ويبطل عملياتهم، ويتعاون مع العدو عليهم، ويقبل بالتنسيق ضدهم، لاعتقالهم أو قتلهم، أو لإحباط عملياتهم وإفشال مقاومتهم وإخماد انتفاضهم والسيطرة عليهم، وتمكين العدو ومخابراته منهم، أفلا يرى الموشون المتعاونون، والمنسقون المغفلون، ما يفعله العدو بشعبنا، وما يرتكبه في حق أبنائنا وأطفالنا، فهو يقتل بلا هوادة، ويبطش بلا رحمة، ويمضي بلا توقف، ويؤذي شهداءنا متعمداً، ويسيئ إليهم قصداً.

نحن غاضبون وحزنى، ومكلومين وقد نبكي، ولكننا سنمضي على هذا الدرب، وسنكمل المشوار الذي بدأنا، والانتفاضة التي بها انطلقنا، وسنعمل في رقاب العدو سيوفنا ما استطعنا، وسنثخن فيهم ما تمكنا، وسنقتلهم أينما ثقفوا، وسنخرجهم بالقوة من حيث أخرجونا، وسنستعيد أرضنا ووطننا، وسنعمر بلادنا وسنسكن بيوتنا، ونعود إلى ديارنا وقرانا، فهذا وعد الله لنا، وعهده معه، ولن يخذلنا الله عهده، وسيوفينا وعده، فإن وعده الصدق وقوله الحق، وحكمه العدل.

- (44)

الهوس الأمني والبلاغات الكاذبة

الحقيقةُ التي لا يستطيعُ أن ينكرها أحد، أنه رغم القوة والتفوق، والجيش والسلاح والطيران، والدعم والإسناد والرعاية، والسيطرة والنفوذ والسلطة، والحماية والدفاع والقدرة على الهجوم، ووسائل الرقابة والتفتيش والتجسس، والتطور المهول في عالم الاتصالات والتواصل والمتابعة، فإن المجتمع الإسرائيلي خائفٌ في حقيقته، ومهزوزٌ من داخله، وغير متأكدٍ من مستقبله، وغير واثقٍ من أمنه، وهو قلقٌ على وجوده، ومضطربٌ في سلوكه، وتائهٌ في مساراته، ولا يدري أي الطرق تنجيه، وأي السبل تنقذه مما هو فيه، وهو يتهم قيادته، ويشك في حكومته، ولم يعد يجد الأمن في ظل جيشه، وبات يعيش كوابيساً في النهار وهواجس في الليل، ويصحو على خبرٍ ويبيت على آخر، ولا يعرف ماذا سيكون في غده.

أضفت الانتفاضة الفلسطينية على الحياة الإسرائيلية شكلاً آخر، قد يكون وقعه شديداً، وأثره قاسياً، وإضافته غير مقبولة، إذ لا يكاد يمر يومٌ واحدٌ على الإسرائيليين في كل المدن والبلدات والمستوطنات دون إنذارٍ بقرب وقوع حادث، أو خبرٍ عن هجومٍ أو اعتداء، أو سماع طلقاتٍ ناريةٍ في أكثر من مكانٍ، أو مشاهدة عربيٍ يحمل سكيناً، أو آخر يتجول بسيارته بحثاً عن هدفٍ، تتلوها نداءاتٌ عبر وسائل الإعلام، ورسائلٌ قصيرةٌ توزع عبر الهواتف النقالة، وأخرى تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي، كلها تحذر وتخوف، وتنذر وتبلغ، وتدعو المواطنين إلى التزام بيوتهم، وعدم التجوال في الشوارع، ولا التوقف على الطرقات، ولا الموافقة على نقل أو توصيل أحدٍ على الطريق، أو ركوبِ سياراتٍ مجهولة السائق.

لعل الجميع يصغي إلى الأخبار، ويصدق الأنباء ولو كانت كاذبة، وقد كثرت هذه الحوادث وازدادت في ظل الانتفاضة الأخيرة، حيث بدأت تصل إلى سلطات الاحتلال آلاف المكالمات اليومية، من عامة المستوطنين والزوار، الذين ينقلون مشاهداتهم في الحافلات وسيارات النقل، وشكوكهم في المرافق العامة والمحطات والتعاونيات الكبيرة، وريبتهم في سائقي السيارات، والواقفين في المحطات أو على الشوارع العامة، وظنونهم وخوفهم من كثيرٍ من المارة، ممن يشبهون الفلسطينيين شكلاً، أو يتماثلون معهم في لون البشرة وشكل الهيئة، علماً أن أغلب بلاغاتهم كاذبة، وجل ظنونهم واهية، ومن النادر أن تكون حقيقية، لكنهم يتوجسون ويخافون، ويتهيأ لهم ما يرون، ويحلفون على ما يشهدون عليه، رغم أنهم يتخيلون ويتصورون.

تلعب الإشاعة دورٌ كبيرٌ في شيوع الرواية وانتشار البلاغ أياً كان صادقاً أو كاذباً بين الإسرائيليين، الذين يصدقون كل نبأ، ويستجيبون لكل إشاعة، وكأنهم كما قال الله فيهم، يحسبون كل صيحةٍ عليهم، هم العدو فاحذرهم، لكن طبيعتهم الخائفة، وظروفهم المريبة التي يعرفونها، تجعلهم يخافون من جرة الحبل ويظنونها أفعى، ويصدقون كل خبرٍ ولو كان ناقله كاذباً، فلولا أنهم يعرفون أنهم ظالمون ومجرمون، وأنهم يعتدون ويسيئون، لما كان هذا حالهم، ولما سكن الخوف قلوبهم، ولا هيمن الجزع على نفوسهم.

كما يصغي المواطنون إلى الأخبار والأنباء التي تنقلها وسائل الإعلام ومؤسسات الاحتلال الأمنية والعسكرية، فإن سلطات الاحتلال تصغي أيضاً إلى كل بلاغٍ، وتصدق كل شاهدٍ، وتسمع لكل راوٍ، ولا تهمل أي بلاغٍ، ولا تستخف بأي معلومة، ولا تتردد في التعامل الجاد والمسؤول مع ما يصلها من بلاغاتٍ وتحذيراتٍ، فتستجيب الشرطة إلى البلاغات، وتتعامل معها بجديةٍ كبيرة، وتعاقب موظفي الطوارئ الذين يعملون في مقاسم الطوارئ، الذين يهملون الاتصالات الهاتفية، ويصنفون بعضها بأنها لهو وعبث، وأنها صبيانية وغير جادة، وأنها لا تعكس خطراً حقيقياً، وإنما هي نتيجة الضغط النفسي والتوتر العصبي.

ولعل تصرف السلطات الإسرائيلية الحاد والجازم، مع موظفة المقسم التي ردت على مكالمة الشبان الإسرائيليين الثلاثة الذين خطفوا في مدينة الخليل منتصف العام 2014، التي لم تتعاطَ معهم بجديةٍ، ولم تول مكالمتهم الاهتمام المطلوب، بل استهترت بها ولم تبلغ مرؤوسيها بها، قبل أن يتبين لها وللشرطة أنهم تعرضوا فعلاً للخطف والقتل على أيدي شابين فلسطينيين، وأن أحدهم قد استخدم هاتفه واتصل بالطوارئ، قبل أن يتمكن الخاطفون من السيطرة عليهم وقتلهم، وقد شكلت هذه الحادثة إضافة جديدة إلى طريقة تعامل سلطات الاحتلال الإسرائيلية، العسكرية والأمنية، مع أي بلاغاتٍ تصلها، ومعاقبة كل من يهمل بلاغاً أو يستهتر به، أو يتأخر في إبلاغ المعنيين بالأمر، الذين يحاسبون أيضاً في حال إهمالهم وتقصيرهم.

لكن الأمر المعيب والمشين، أن يأتي الإنذار والتحذير إلى الجانب الإسرائيلي من جهات فلسطينيةٍ، ترصد الشعب وتتابع الشباب والنشطاء، وتعرف الحضور والغياب، والميول والاتجاهات، والنزعات والرغبات، والانتماء والتنظيم، فتبلغ العدو الإسرائيلي عبر مكاتب التنسيق الأمني المشتركة، وتحذره من إمكانية قيام مجموعاتٍ فلسطينية بعمليات خطفٍ أو قنصٍ أو غير ذلك، فيأخذ العدو حذره، ويتأهب لمواجهة التحذير والتصدي له إن كان حقيقة، أو الاستفادة منه في توجيه ضرباتٍ أمنية وإجراء اعتقالاتٍ إداريةٍ، في الوقت الذي يعمم الخبر على مواطنيه حسب منطقة الاستهداف المتوقعة.

البلاغات الأمنية الكاذبة والصادقة مكلفةٌ جداً على الشعب الفلسطيني، فالعدو الذي اعتاد أن يصدق كل بلاغ، وألا يكذب أي تحذير، وألا يستخف بأي احتمالٍ أياً كانت درجة مصداقيته، فإنه يقوم إثر البلاغات التي تصله بحملاتٍ أمنيةٍ واسعةٍ، فيداهم ويجتاح، ويقتحم ويعتقل، ويستدعي ويحذر، ويحاصر ويفرض حظر التجوال، وأحياناً يبادر بالقصف والقتل والاغتيال، ويبرر لنفسه ما يقوم به من اعتداءاتٍ ومظالم، بحجة أنه يصد خطراً، ويحبط عملاً، ويمنع المقاومين من استكمال مخططاتهم، وتنفيذ عملياتهم، ولكن الحقيقة أنه مهووسٌ وخائف، وقلقٌ وجبان، ولو كان درعه الحديدُ، وبيته القلعة الحصين، فإن بيته يبقى دائماً بيت العنكبوت، لا يقي ولا يحمي،و لا يصد ولا يصمد، ولا يبقى ولا يثبت.

- (45)

جوجل ويوتيوب محركات كراهية وأدوات عدوان

دخلت شركة جوجل العملاقة ومعها شركة يوتيوب الضخمة الحرب إلى جانب العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ووظفتا معاً قدراتهما الجبارة وأدواتهما الخلاقة وانتشارهما الواسع ونفوذهما الكبير لصالح العدو الصهيوني، وهم جزءٌ أصيلٌ منه، الذي طلب منهما محاربة الفلسطينيين والتضييق عليهم، ومنعهم والعرب ومن يؤيدهم من استخدام محركاتهم العملاقة في نشر الكراهية والعنف، والتحريض والدعوة إلى محاربة الإسرائيليين، وتشويه صورتهم وفضح أسرارهم، وطالبتهما بمنع نشر وتداول الصور والمشاركات التي ينشرونها ضد شعب وحكومة إسرائيل، ودعتهما إلى عدم تقديم أي خدماتٍ أو تسهيلاتٍ إلى الجهات المشبوهة والمتهمة بالتحريض على العنف والإرهاب.

نائبة وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي تسيفني حوتوفيلي، المعروفةُ بتطرفها وتشددها، ومواقفها العنصرية الحاقدة ضد الفلسطينيين، التي تحمل الحكومة الإسرائيلية التي هي جزء منها، المسؤولية عن ضياع حقوق الشعب اليهودي، وتتهمها بأنها تتنازل عن الإرث اليهودي المقدس، وتحرم الشعب من حقه في أن يقيم حيث يشاء في أرض يهودا والسامرة، قامت مؤخراً بتوقيع اتفاقية مع شركتي جوجل ويوتيوب تلزمهما بتطبيق إجراءات جديدة وقاسية لمواجهة مظاهر التحريض الإليكتروني الفلسطيني، وحملتهما في حال عدم التزامهما بالاتفاق المسؤولية عن تأجيج الأحداث وتوتير الأوضاع في البلاد، والإضرار بالمصالح الإسرائيلية، وقد رأت أن الصورة والخبر التي تنقلهما شركات الإنترنت تساهم في المعركة بصورة سلبية، وتخدم الجانب الفلسطيني على حساب المواقف الإسرائيلية.

اتهمت الحكومة الإسرائيلية في معرض دفاعها عن قرارها، وتأكيدها على طلبها، جهاتٍ فلسطينية وعربية بأنها ترعى الإرهاب، وتزوده بأفكار ومفاهيم عنصرية، وأن خطر هذه الجهات أشد وأكبر من خطر الممولين أو المنفذين والمخططين، لأن هذه الجهات أصولية العقيدة، ومتطرفة الفكر، ومنغلقة على نفسها والمجتمع، وترى في الآخرين جميعاً أعداءً لهم ولشعبهم وأمتهم، ولهذا فإنهم يجيزون لأنفسهم وغيرهم أعمال القتل والاعتداء التي تمارس على الشعب اليهودي، ويستغلون ما تتيحه شركات التواصل الاجتماعي المختلفة، وشركات الإنترنت العملاقة، من أدواتٍ وآلياتٍ في نشر مفاهيمهم، وتعميم أفكارهم، وتوسيع شبكاتهم، وتجنيد عناصرهم، فضلاً عن استغلالهم لها في اختراق المؤسسات الإسرائيلية، والسطو على أسرارها وسرقة بياناتها ومعلوماتها، والدخول على الحسابات الفردية للمواطنين.

استجابت على الفور إدارة الشركتين إلى الطلب الإسرائيلي، وبدأتا تنفيذ سياسة حازمة ضد المشاركات العربية والفلسطينية المصنفة بأنها معادية للكيان الصهيوني، وحرضت على إلغاء استضافتهم وتزويدهم بالخدمة، وبدأت المخابرات الإسرائيلية تزود إدارة الشركتين بما توفر لديها من عناوين ومساهماتٍ، وحساباتٍ ومجموعاتٍ، ومواقع ومراكز، يرون وجوب شطبها، ولزوم إخراجها من الشبكة العنكبوتية وصفحات التواصل الاجتماعي، لأنها تضر بأمن كيانهم، وتحرض على العنف ضدهم، وتعرض مصالحهم للخطر، وقدمت الجهات الإسرائيلية المعنية إلى الشركة نماذج صارخة من المساهمات الفلسطينية، ودعمتها بالصوت والصورة المنشورة، وكشفت عن الحسابات النشطة والجهات الراعية والممولة.

كما طالبت الحكومة الإسرائيلية هذه الشركات بضرورة إزالة الصور ومقاطع الفيديو والتسجيلات الصوتية المختلفة، التي تبرز العنف الإسرائيلي، وتكشف عن جرائمهم، وتبين اعتداءاتهم الفاضحة، وتظهر حقيقة إعدامهم وقتلهم المتعمد للفلسطينيين، خاصةً صور المستوطنين الذين يعتدون على منفذي عمليات الطعن أو المشتبه بهم، فيقتلونهم بمسدساتهم أو يعتدون عليهم بعد قتلهم ويسيئون إليهم بوسائل مختلفة، ويتظاهرون بإساءاتهم علناً، ولا يخفون اعتداءاتهم، وترى الحكومة الإسرائيلية أن بعض هذه الصور تسيئ إلى سمعة كيانهم لدى المجتمع الدولي، وتشوه صورتهم النمطية الديمقراطية الإنسانية التي يدعون اتصافهم بها.

في الوقت الذي تستجيب فيه شركات الإنترنت العملاقة إلى المطالب الإسرائيلية، وتغلق حسابات، وتشطب صفحات، وتلغي اشتراكاتٍ، وتسحب مساهماتٍ، وتحجب معلومات، وتعطل محركاتٍ، فإنها تسهل عمل مجموعات السايبر الإسرائيلية، وهي مجموعات طلابية كبيرة جداً، تديرها المخابرات الإسرائيلية، وتستخدم فيها القطاعات الطلابية على اتساعها وانتشارها، وتستفيد من أصحاب الطاقات والخبرات والمواهب، وتوظفهم جميعاً، ذكوراً وإناثاً في متابعة صفحات التواصل الاجتماعي، وخلق صداقاتٍ جديدة مدروسةٍ وهادفةٍ مع نشطاء عربٍ وفلسطينيين، وتدفعهم لتشويه الصورة وتغيير القصة، وإعادة نسج خيوط الحكاية، بما ينسجم مع الرواية الإسرائيلية ويخدم أهدافها، وبما يتعارض وينسف الرواية الفلسطينية ويضر بها، أو يشطب مكاسبها ويلغي منافعها.

الحكومة الإسرائيلية التي تنادي بوقف خدمة الإنترنت كلياً عن الفلسطينيين، وقد أعلنت أنها تأذت من نشاط العرب والفلسطينيين والمؤيدين للقضية الفلسطينية على الشبكة العنكبوتية، فهم يشاركون ويساهمون، وينقلون وينشرون، ويتقنون كل اللغات، وينشطون في كل البلاد والساحات، وعندهم جيوشٌ تطوعية تعمل بلا كللٍ ولا مللٍ، ربما أنها تعمل بلا تنسيقٍ أو تنظيم، ولكن كثافة المساهمات وكثرة الاشتراكات تقلقهم، والصور التي ينشرونها والأخبار التي يبثونها تضر بهم وتضعف روايتهم.

هذه ليست المرة الأولى التي تتقدم فيها الحكومة الإسرائيلية بطلبٍ إلى شركات التواصل الاجتماعي المختلفة، وإلى شركة جوجل تحديداً، للتضييق على الفلسطينيين وتحجيم نشاطهم وفعاليتهم على الشبكة العنكبوتية، بل تقدمت إليهم بطلباتٍ كثيرةٍ مشابهة، وقد استجابت لهم الشركات كثيراً، ونفذت رغباتهم بتفاوتٍ فيما بينهم، وأصغت إلى نصائحهم وتوجيهاتهم، ولكنها اليوم تواجه خطر استمرار الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي يعني استمرارها الإضرار بمصالحهم، والانشغال بها عن قضاياهم الأخرى، وتدهور اقتصادهم، وتوقف مرافق حياتهم المختلفة، فضلاً عن إحساسهم بأنهم سيكونون في نهاية المطاف في حال استمرار الانتفاضة، مضطرين إلى دفع أثمان باهظة إلى الشعب الفلسطيني، لذا فإنهم يطلبون العون من هذه الشركات، التي تستطيع أن تؤذي وأن تضر، وأن تحجب الصورة وتغير الحقيقة، وتخفي الأدلة والقرينة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 68 / 2178616

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.مصطفى اللداوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178616 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40