الجمعة 1 كانون الثاني (يناير) 2016

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة

الجمعة 1 كانون الثاني (يناير) 2016 par د. مصطفى يوسف اللداوي

- (70)

حصاد الانتفاضة من المنظور الإسرائيلي

يقول الإسرائيليون في معرض تقريرٍ أصدرته جهاتٌ أمنية، وتم نشره أمس الجمعة الخامس والعشرين من شهر ديسمبر من العام المنتهي 2015، أن الأحداث التي سادت المناطق الفلسطينية المختلفة على مدى المائة يومٍ الماضية، قد شهدت تراجعاً ملحوظاً، وأن العمليات الأمنية العنيفة لم تعد تقع يومياً كما كانت، وإن كان التقرير قد أشار إلى أن الأحداث التي هدأت نسبياً، لن تتوقف كلياً خلال الفترة القريبة القادمة، بل إنها ستتواصل على مدى الشهور التالية، ولكن بحدةٍ أقل، ووتيرةٍ أبطأ، وعملياتٍ متباعدة، ورغم أن أفق النهاية غير منظور، إلا أنها ستهدأ بعد ذلك وستنتهي، وسط تفاؤل كبير بتعاون السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية التي تعمل على ضمان عدم خروج الأحداث عن دائرة السيطرة التامة.

يضيف التقرير الأمني الذي يعتمد ويتبنى المعطيات الرسمية الإسرائيلية، ويغطي فترة المائة يوم الماضية من عمر الانتفاضة، أن 156 فلسطينياً قد قاموا بتنفيذ 140 عملية أمنيةٍ على خلفيةٍ قوميةٍ، منها 48 عملية تمت داخل الخط الأخضر المحتل، و92 عملية في مناطق مختلفة من الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وأن 22 عملية من تلك التي وقعت داخل الخط الأخضر قد نفذت بأيدي فلسطينيين يحملون الهوية الزرقاء، و26 عملية نفذت بأيدي فلسطينيين من مناطق مختلفة من الضفة الغربية، إلا أن أغلبهم قد جاؤوا من مدينة ومحافظة الخليل، التي نفذ أبناؤها الكثير من العمليات داخل محافظتهم، وفي أرجاء الضفة الغربية وعموم الأراضي الفلسطينية، رغم الإجراءات الأمنية المشددة والمطبقة على المدينة والسكان.

لا يشير التقرير إلى العدد الإجمالي للشهداء الفلسطينيين، ويقتصر على ذكر أرقام مختلفة لعددهم في بعض المناطق، كونه لا يعترف بالمسؤولية القانونية عن قتلهم، لكنه يذكر أن عدد القتلى الإسرائيليين بلغ على مدى المائة يوم الفائتة 22 قتيلاً وأكثر من مائتي مصابٍ، وأن عدداً من المصابين لا يزيد عن الثلث كانت إصابتهم خطرة، ومنهم من بقيت حالته مصنفة بأنها خطيرة حتى ساعة إعداد هذا التقرير.

ويشير التقرير إلى أن سلاح الانتفاضة الفلسطينية الثالثة ما زال محصوراً في عمليات الطعن وهي العمليات الغالبة إلى جانب الدهس والصدم، فضلاً عن إلقاء الحجارة والقنابل الحارقة محلية الصنع، وعملياتِ قنصٍ محدودة جداً، وقد تم اللجوء إليها في منطقةٍ واحدةٍ فقط، هي منطقة الخليل، ويبدو أن منفذها شخصٌ واحدٌ يتكرر ظهوره في أكثر من مكانٍ، بمعنى أن السلاح الناري لم يدخل الانتفاضة، ولم يلجأ إليه الفلسطينيون في مقاومتهم، بما لا يسمح باعتباره أحد الوسائل المستخدمة في الانتفاضة، رغم اكتشاف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية بعض الشبكات والخلايا العسكرية التابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، إلا أنه قد تم تفكيكهم واعتقال عناصرهم بسرعة، وفي هذا الشأن يشيد التقرير بدور الأجهزة الأمنية الفلسطينية في إحباط مثل هذه المحاولات وتفكيك شبكاتها، منعاً لوقوع المزيد من العمليات.

ويقلل التقرير من أهمية العامل القومي في عمليات الطعن والدهس، ويرى أن أغلبها جاء على خلفياتٍ انتقامية وثأرية لأخوة وأخوات وأصدقاء وجيران ومعارف قتلوا خلال الأحداث، وأن مشاركة المرأة وإن كان عددهن كبير نسبياً، إلا أنها جاءت تقليداً واتباعاً أكثر مما هي قناعة وتوجهاً قومياً، فضلاً عن التخبط الأعمى، والعمل الفردي غير المنظم، وغياب الرؤية والمعلومة والتنسيق، وعدم وجود قيادة ورأس للعمليات اليومية، في ظل غياب الدعم الخارجي والسند الإقليمي الذي كان موجوداً في الانتفاضات السابقة، الأمر الذي من شأنه أن يقصر من عمر الأحداث ويقرب أجل انتهائها، وإن بدت أنها قادرة على الاستمرار وحدها، والمواصلة بنفسها وقدراتها الذاتية.

ذاك كان مضمون ومحتوى التقرير الإسرائيلي، لكن القراءة العربية والفلسطينية تختلف عن القراءة الإسرائيلية للانتفاضة، وتتباين الأرقام وتختلف الإحصائيات حسب الجهة التي تجري البحث، والغاية والقصد منه، وإن كانت الكثير من البيانات الرقمية حقيقية، والصور والشواهد دقيقة، ولا يمكن إغفالها أو تزويرها وتحويرها، إذ أنها في أغلبها عامة ومكشوفة، ويتم الإعلان عنها دائماً عبر أكثر من طريقٍ ومصدر، فأعداد الشهداء واضحة ومحددة، وعدد عمليات الطعن معروفة وموثقة في أغلبها، وعمليات الدهس الفلسطينية يتم الإعلان عنها فور وقوعها، وغير ذلك من البيانات التي لا يستطيع الباحث تجاوزها كأعداد النساء والأطفال، إذا كانت مهمته مهنية علمية منصفة ودقيقة، وهذا ما لا يتوفر في التقرير الإسرائيلي.

لكن القراءة الإسرائيلية التي لا تستطيع تجاوز الحقيقة أحياناً لوضوحها وسطوعها، فتخضع لها وتلتزم بها، فإن لها في دراستها وإعلامها دائماً أهدافاً أخرى وغاياتٍ مختلفة، فهي تزيد في عدد الهجمات ومحاولات الطعن والدهس كلما رأت ذلك أنه لصالحها ويخدم أهدافها، وتضيف إليها كل ما اشتبهت فيه وظنت أنها عمليات مقصودة، وهي في الوقت الذي لا تريد أن تكون بياناتها مشجعة للمقاومة التي يرضيها أن يزداد عدد القتلى الإسرائيليين، وتتعاظم خسائرهم، فتشجع هذه النتائج غيرهم على التقليد والاتباع، وتنفيذ المزيد من الاعتداءات طمعاً في نتائج أفضل وخسائر أكبر، فإنهم يدرسون بعنايةٍ كل خبرٍ لئلا يكون مردوده سلباً عليهم وإيجابياً على الشعب الفلسطيني ومقاومته.

ولهذا فإن بياناتهم وإن كانت بعضها صحيحة وحقيقية، فإنها ترجو منها تطمين الشارع الإسرائيلي، وإشعاره بعدم خطورة ما يجري من أحداثٍ عليهم، وأنه لا ينبغي عليهم الخوف والقلق، ولا الفزع والجزع، وأنه يجب عليهم أن يثقوا في حكومتهم وجيش كيانهم وقدرة أجهزتهم الأمنية، وهي تتطلع إلى رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال وكبار المستثمرين لأن يثقوا في استقرار الأوضاع في الكيان الصهيوني، وأنه ليس هناك ثمة ما يقلقهم أو يدفعهم للهروب والفرار، والتخلي عن العمل والاستثمار، ومن ذلك التأثير الإيجابي على المكاتب السياحية ووكالات السفر وإدارة الفنادق والأماكن السياحية الدينية والتاريخية، التي تساهم بصورة كبيرة في حيوية الاقتصاد الإسرائيلي، ولهذا فهي تحرص على أن تكون أخبارها لهم مطمئنة، ولسوقهم مشجعة، وإلا فإنها تساهم من حيث لا تقصد في تحقيق بعض أهداف المقاومة الفلسطينية.

أما لجهة الجانب الفلسطيني فإن صياغة الخبر الإسرائيلي، وصناعة الأبحاث وكتابة التقارير تخضع لرقابةٍ أمنيةٍ واجتماعيةٍ ونفسية وسيسيولوجيةٍ مدروسةٍ، ليكون الخبر دائماً محبطاً للفلسطينيين، وسلبياً عليهم، بحيث يؤثر سلباً على روحهم المعنوية، وينعكس تراجعاً على اندفاعهم وأدائهم اليومي، ويثبت لهم عدم جدوى عملياتهم، وأنها لا تؤثر في الشارع الإسرائيلي ولا تضر به، وأن حجم خسائرهم أكبر من مكاسبهم بكثير، وأنهم يخسرون الكثير إن هم مضوا على ذات الطريق، فضلاً عن أنهم يحرصون من خلال بياناتهم على تضليل الشارع الفلسطيني، وتشويه صورة مقاومته، وتسطيح عملها وتبهيت جهودها، الأمر الذي يفرض على القارئ العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً أن يتأنى في القراءة، وأن ينطلق في فهمه لما يكتبون وينشرون من سوء الظن وانحراف القصد.

- (71)

كلابٌ هولنديةٌ وقنابل إنجليزية في مواجهة الانتفاضة

رغم القرار الأخير الذي اتخذته دول الاتحاد الأوروبي، والذي رحب به العرب والفلسطينيون، واعتبروه قراراً إيجابياً في الوقت والمضمون، وأنه يأتي متضامناً مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لأشكالٍ متعددة من الظلم والاعتداء من قبل العدو الإسرائيلي، خاصةً في ظل تزايد حالات الإعدام الميدانية خلال أيام الانتفاضة، وهو القرار الذي قضى بمقاطعة دول أوروبا للبضائع ومنتجات المستوطنات الإسرائيلية، وذلك بوضع إشارة مميزة عليه، وبالقدر الذي لاقى فيه هذه القرار ترحيباً عربياً وفلسطينياً كبيراً، فإنه تعرض للانتقاد والاستنكار الإسرائيلي، وطالبت الحكومة الإسرائيلية عبر نائبة وزير الخارجية قيادة الاتحاد الأوروبي بالتراجع عن هذا القرار والاعتذار عنه ووقف العمل به، ووصفته حينها بأنه عنصري ومعادي للسامية.

إلا أن دول أوروبا التي تبدو شكلاً أنها تؤيد حق الفلسطينيين في دولةٍ ووطنٍ، وتعارض سياسات الحكومة الإسرائيلية، وتستنكر ما تقوم به من أفعالٍ وأعمالٍ تصفها بأنها أعمال عدائية بحق الشعب الفلسطيني، فإنها تقوم بأعمالٍ أخرى مناقضة، وتتصرف بطريقةٍ مغايرة، تهدم ما بنته، وتخرب ما سوته، وتعيدنا إلى سنوات الخمسينيات والستينيات عندما كانت دول أوروبا الغربية تحتضن الكيان الصهيوني، وتمده بالسلاح والمال والتقنية الحديثة، ليكون الأقوى في المنطقة، والأطول ذراعاً والأكثر تسليحاً، ويكون قادراً على صد أي هجومٍ أو اعتداء عربي عليه، وكأنها بتصرفاتها الجديدة تعتذر لحكومة الكيان، وتبدي لها ندمها عما اتخذت من قراراتٍ قاسية في حقهم، وهي لذلك تحاول تعويضهم عما لحق بهم.

فقد تبين أن بريطانيا في ظل الانتفاضة الفلسطينية تمد الكيان الصهيوني بالقنابل الغازية المسيلة للدموع، وهي من الأسلحة المصنفة بأنها سامة، والتي يترتب على استخدامها أضرار كثيرة، وتعرف الحكومة البريطانية أن جيش الكيان الإسرائيلي يستخدم هذا النوع من القنابل في قتل الفلسطينيين خنقاً، ومع ذلك فإنها تمضي قدماً في توريد هذه الأنواع من الأسلحة إليها، ولا تلتفت إلى ما تسببه من أضرار وما تلحقه من خسائر في صفوف الشعب الفلسطيني، الذي يرفع صوته عالياً في وجه المجتمع الدولي، بضرورة كبح جماح الاحتلال ومنعه من استخدام هذه القنابل التي تقتل وتخنق أكثر مما تفرق وتفض.

كما ذكرت تقارير أخرى عن التعاون الكبير بين الجيش البريطاني وجيش الكيان فيما يتعلق بصيانة بعض المعدات العسكرية الإسرائيلية، وعن تزويدهم بذخائر إنجليزية، وخوذٍ وخراطيم غاز ووسائل قمع المتظاهرين وتفريق التجمعات والحشود، رغم وجود بعض القرارات التشريعية التي تمنع الحكومة من القيام بتوريد أي أسلحة أو معدات قد يستخدمها جيش العدو في مواجهة الفلسطينيين وصدهم.

كما كشفت صحفٌ هولندية أن حكومة بلادهم تزود الكيان الصهيوني بكلابٍ بوليسية هولنديةٍ شرسةٍ وقوية، ومدربة تدريباً عالياً على مواجهة التجمعات وتفريق المظاهرات وملاحقة المطلوبين والفتك بهم، وقد تبين أن الحكومة الهولندية توردها إلى الكيان الصهيوني، وهي تعرف أنه يستخدمها في مهاجمة الفلسطينيين وقتلهم، وقد رصدت وسائل إعلامية عديدة قيام بعض هذه الكلاب في ملاحقة فلسطينيين ومطاردة النساء وتمزيق ثيابهن ونهش أجسادهن، ومع ذلك تستمر هولندا في تسليم الكيان الإسرائيلي أجيالاً جديدة من كلابها المدربة والمؤهلة لمهاجمة الإنسان والفتك به وإحباط عمله بسرعةٍ كبيرة، وقدرةٍ هائلة.

علماً أن وزارة الدفاع الهولندية تصنف هذا النوع من الكلاب بأنها عنيفة، شأنها شأن قنابل الغاز ورذاذ الفلفل والأسلحة النارية، وتعرف أن لها قدرة كبيرة على مهاجمة البشر والحيوانات الأليفة، إلا أنها ترفض إدراج هذه الكلاب ضمن قوائم المواد الممنوع تصديرها إلى الكيان الصهيوني، وتعتبر نفسها غير مسؤولة عن تطوير الإسرائيليين لــ“كلاب الخدمة الهولندية” وتدريبها وتأهيلها لتصبح سلاحاً فتاكاً ووسيلة عنفٍ قاتلة، خاصةً أنها تورد هذا النوع من الكلاب لهم منذ أكثر من 23 عاماً، ولم تصلها خلال السنوات الماضية شكاوى فلسطينية أو عربية لتعيد النظر في سياستها التصديرية لهذه الكلاب.

وقد اعترفت ليسبيت زيجفيلد وهي محامية حقوق الإنسان العالمية بهذه الجريمة، وأكدت أن الحكومة الهولندية تورد هذا النوع من الكلاب إلى الكيان الإسرائيلي، وأبدت استهجانها واستنكارها لما تقوم به الحكومة الهولندية، وصنفت هذه الجريمة بأنها جريمة عنصرية تمس الحقوق الإنسانية، وطالبت الحكومة الهولندية بوقف تزويد الكيان بها، وإصدار تشريعٍ خاصٍ يمنع مستقبلاً أي شكلٍ من أشكال التعاون العسكري والأمني مع الكيان الصهيوني في كل ما يمس حياة ومصالح الشعب الفلسطيني، واعتبرت أن هذا السلوك الهولندي يكشف عن ازدواجيةٍ مرفوضةٍ وغير أخلاقية تقوم بها بعض الحكومات الأوروبية، التي تدعي أنها تستنكر الممارسات الإسرائيلية العدوانية بحق الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تطالب فيه الحكومة الإسرائيلية باحترام القانون والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.

أما الحكومة الألمانية فهي موافقة على قيام جيشها بإجراء مناورات وتدريباتٍ على سيناريوهات اقتحام بلداتٍ عربية واحتلالها، أو السيطرة على سكانها، ومنعهم من القيام بأي أعمال عنفية معادية، وهي لذلك تبني مع جيش الاحتلال نماذج لمدنٍ وبلداتٍ ومخيماتٍ فلسطينية، وتضع معه الخطط والتصورات لآليات وأشكال اقتحامها وإحباط أي أعمالٍ معادية فيها أو خارجة منها، علماً أن الحكومة الألمانية تستكمل توريد منحتها لدولة الكيان الصهيوني من غواصات الدولفين الاستراتيجية، حيث ستسلمها الغواصة السادسة، وهي ستزودها في الأيام القليلة القادمة بمنظومة صواريخ ومنصاتٍ خاصةٍ لحماية المنشآت النفطية البحرية في البحر المتوسط، وهي تعلم أن هذه الآبار النفطية محل نزاعٍ واختلافٍ حول شرعية ملكية الكيان لها.

غريبٌ هو حالنا نحن العرب والفلسطينيين إذ نصدق الشعارات الأوروبية الجوفاء، ونصغي إلى تصريحاتهم الكاذبة، ومواقفهم الزائفة، وننسى أنهم وفي القلب منهم بريطانيا كانوا السبب في نكبة فلسطين، إذ منحت اليهود على حساب الحق العربي الفلسطيني وعداً بإقامة كيانهم على أرضنا العربية، وأنهم الذين مكنوا الكيان وزودوه بالسلاح ليحتل الشطر الشرقي من مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان وغور الأردن، إنهم يصلون ماضيهم بحاضرهم ولا يغيرون من الواقع شئ، فالكيان الصهيوني بالنسبة لهم هو القلب والمهجة والروح، وهو الأهم والأعز والأقرب إلى نفوسهم وطبائعهم.

العلوج الإسرائيليون وشموخ المرأة الفلسطينية

لا ينسى صورة الإسرائيليين المدججين بالسلاح، جنوداً وضباطاً، ومستوطنين ومارةً، الذين تحلقوا حول الفتاة الفلسطينية الأسيرة ذات الستة عشر ربيعاً، إنسانٌ عاقلٌ، متزنٌ صادقٌ، يميزُ بفهمٍ ويقدر بعقلٍ، فقد كانوا مثالاً حياً لخسة الأخلاق ودونية الخِلال، وقد انتشرت صورهم وعرفت وجوههم، وتميزت شخصياتهم، وبعضهم يحقق معها ويسألها، وينهرها ويصرخ في وجهها، وغيرهم يضربها ويركلها، وآخرون يشتمونها ويسبونها، ويتطاولون على دينها ورسولها، وعلى شعبها وأهلها، بينما وقف كثيرٌ غيرهم يصورها ويصورهم، ويلتقط لها صوراً عديدة من زوايا مختلفة، ويركزون على السكين الصغيرة التي ألقوها قريباً منها إلى جانب رأسها، وهي أمامهم عاجزة عن الحركة إذ هي مقيدة، ولا تشكل خطراً إذ هي على الأرض ملقاة، وكلهم حولها وأيديهم على زناد مسدساتهم، يتدافعون ويتسابقون أيهم “يلقمها” رصاصةً في رأسها.

قد كانوا بحقٍ كالضباع التي تحيط بفريستها، وكالذئاب التي تحوم حول طريدتها، كلٌ يريد أن ينهش منها ويأكل بعضها، ولكنهم لجبنهم الفطري كانوا يخافون الاقتراب منها، ويحذرون لمسها، لا حرصاً أو إشفاقاً عليها، بل خوفاً من أن تنهض وتهب، وتقوم وتقف، فتهاجمهم وتطعنهم، أو تنفجر بهم وتقتلهم، وهي المقيدة الأيدي من الخلف، والمطروحة أرضاً على وجهها، فلا تكاد ترى وجوههم إذ تسمع أصواتهم، وهي وحدها لا أحد معها يساندها أو يدافع عنها، وهم جماعةٌ كثيرةٌ، وجنودٌ عديدون، ومستوطنون متوحشون، كلهم عليها قد اجتمع، وضدها قد تكالب وتآمر.

لم تكن حادثة الفتاة الفلسطينية التي انتشرت صورتها هي الأولى والأخيرة التي كشفت عن خسة الإسرائيليين ونذالتهم، وهم يستقوون على امرأة، ويهددون أنثى ويعتدون عليها، فهم قد اعتادوا على هذا اللون من الجرائم، ولم تعد تستفزهم القيم الإنسانية، والاتفاقيات الدولية، وشرعات حقوق الإنسان، التي تنص كلها على حفظ المرأة ورعايتها، وصيانة حقوقها ومنع الاعتداء عليها، ووجوب احترامها وتقديرها وهي الأنثى الضعيفة، المقدمة لدى دول العالم الحر وفي البلاد التي تدعي الديمقراطية، التي تحترمها وتقف معها، وتصدقها وتنصفها، وتدافع عنها وتصون حقوقها، وتنص على ذلك كله في دساتيرها، وتضمنه لوائحها وأنظمتها.

الإسرائيليون يدعون زوراً وبهتاناً أنهم واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وأنهم قطعة أوروبية حرة أو أمريكية حديثة موجودة في قلب العالم العربي“المتوحش الرجعي المتخلف وغير الحضاري”، الذي يتهمونه بأنه يسيئ إلى المرأة ولا يحترم حقوقها ولا يقدرها مثلهم، ولهذا فإنهم بما يمتازون به عن العرب قيماً نبيلة وأخلاقاً رفيعة، فإنهم ينتمون حضارةً إلى أوروبا وجغرافيا إلى منطقة الشرق الأوسط العربية، لكن الواقع يكذبهم، والحقائق تفضحهم، فهم قد ارتكبوا الكثير من هذه الجرائم المعيبة والمخزية مع المرأة العربية الفلسطينية، ولم تمنعهم من اقترافها قيمهم الكاذبة، ولا انتماءاتهم الحضارية المدعاة، ولا انتسابهم المزيف إلى الإنسانية.

فكم من امرأةٍ أطلقوا عليها كلابهم الضارية، المفترسة الوحشية المدربة على مهاجمة الإنسان، وتركوها تنهش لحمها، وتمزق ثيابها، وتعض جسدها، وتحاول إسقاطها أرضاً، والجنود الذين يأمرون كلابهم بمهاجمتها، يضحكون عليها ويهزأون بها ويتهكمون على حركاتها، ولا يحاول أحدهم منع كلابهم التي تعلمت الخسة منهم، وهم يرون أنها تؤذي المرأة وتخيفها وتبعث الرعب في نفسها.

ونقلت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لجنودٍ إسرائيليين وهم في بزتهم العسكرية يحملون بنادقهم، وفي وجود ضباطٍ أعلى رتبةً منهم، وهم يتحرشون بنساءٍ عربياتٍ، ويسمعونهن كلماتٍ بذيئةٍ ونابيةٍ، تخدش حيائهن، وتسيئ إليهن، وفي مشاهد غيرها يقوم جنودٌ بعمل حركاتٍ ذات إيحاءاتٍ جنسية أمام النساء الفلسطينيات، وأخرى تصور بعضهم وهم يرقصون أمامهن، ويحاولون ملامستهن والإساءة إليهن.

لكن المرأة الفلسطينية تصدهم بقوة، وترد عليهم بحزمٍ ورباطة جأشٍ، ولا يسمحن لهم بمواصلة التحرش ولا الاستمرار في الإساءة، ولا يترددن في دفعهم وركلهم وشتمهم ورفع الصوت في وجوههم، وهن يشعرن أنهن بهذا لا يدافعن عن كرامتهن وحسب، بل إنهن يدافعن عن كرامة المرأة الفلسطينية عموماً، ويحفظن شرفها ويصن عرضها، لعلمهن أن العدو الإسرائيلي يقصد بما يرتكب الإساءة إلى الشعب الفلسطيني وأمته العربية والإسلامية، التي تقدس العرض وتحفظ الشرف، وتذود عنه بالروح والمال والنفس.

أما مشاهد إرغام النساء الفلسطينيات الحوامل على الوقوف لساعاتٍ طويلةٍ أمام الحواجز العسكرية، ومنعهن من الوصول إلى المستشفيات للولادة، فهي مشاهدٌ مريرة وكثيرة، وهي تتكرر يومياً على كل الحواجز المنتشرة بالمئات في أنحاء الضفة الغربية، وعليها تموت نساءٌ حوامل، وتضع أخرياتٌ مواليدهن بمساعدة من معهن من النساء، أو من يتواجد من النساء الفلسطينيات على الحواجز، وعلى الرغم من أن الجنود يرون ذلك ويشاهدون كل شئ، إلا أنهم لا يسمحون للحوامل ولا للوالدات بالعبور إلى المستشفيات.

وليس مرةً واحدةً فقط، بل دائماً وفي كل يومٍ، يقتل جنود العدو ومستوطنوه في أيام الانتفاضة المجيدة، الكثير من النساء والفتيات القاصرات، بتهمة أنهن كن يشكلن خطراً عليهم، وأنهن كن يخططن لطعن جنودٍ على الحواجز، أو مستوطنين في الطرقات، ولكن الصور المنقولة، والمشاهد المنتشرة تفضح روايتهم، وتظهر دونيتهم وعيوبهم، وهم يطلقون النار على الفتيات الجرحى، ويجهزون عليهن وهن على الأرض لا يشكلن خطراً، رغم أنه كان بإمكانهم اعتقالهن، لكنهم لا يريدون غير فتلهن، وهذا ما تثبته كل الصور والشواهد والقرائن، خاصةً تلك التي تظهرهم وهم يلقون بالقرب منهن، أو يدسون في حقائبهن أو ثيابهن سكيناً.

إنهم الإسرائيليون الصهاينة، لا شئ فيهم يدل على النبل والشهامة والرجولة والفروسية، ولا على المبادئ والقيم والأخلاق والشيم، بل إنهم على النقيض من ذلك تماماً، وعلى العكس مما يدعون ويشيعون، فهم ليسوا حضاريين ولا إنسانيين، ولا يمتون إلى البشرية بصلةٍ، ولا ينتمون إلى الحضارة بسبب، ولا يرتبطون بالإنسانية بوشائج، ولا إلى المدنية والحداثة بروابط، ولعل من يراهم يخجل من نفسه، ويدين ذاته إن لم يستنكر فعلهم، ويرفض سلوكهم، ويدعو لمحاسبتهم والقصاص منهم، فهم قد غادروا مربعات الإنسانية منذ الأزل، وافترقوا عنها منذ أن اصطبغوا بهويتهم التلمودية، وعرفوا بقوميتهم الإسرائيلية، إنهم شؤمٌ وعار، وعيبٌ ونقيصة، وضِعَةٌ وفضيحة، وما اتصف بصفاتهم الدونية البدائيون من البشر، ولا تخلق بأخلاقهم البهيمية الحيوانات من الخلق.

- (73)

المرافق الإسرائيلية في القدس تنهار وتجارها يشكون

لا يخفى على أحدٍ أن مدينة القدس، بشطريها الشرقي والغربي، كانت أكثر المدن تأثراً وتضرراً من الانتفاضة الفلسطينية، وما زالت هي المرشحة لأن تكون الأولى والأكثر سخونةً والأشد غلياناً، فهي عنوان الصراع وأساس الانتفاضة وبسببها تفجرت واندلعت، وهبت واشتعلت، ومن أجلها يتنافس الشهداء وتهون في سبيلها التضحيات، فهي الانتفاضة الشابة الفتية التي أفقدت المستوطنين الإسرائيليين أمنهم، وأقلقتهم على حياتهم، وألحقت بهم خسائر حقيقية، وأجبرتهم على الرحيل منها وعدم البقاء فيها، رغم ادعاءاتهم أنها العاصمة الأبدية لكيانهم، والحلم التاريخي والوعد الإلهي لشعبهم.

فقد تخلى جزءٌ كبيرٌ منهم عن مشاريعهم الدائمة بالدخول إلى باحات المسجد الأقصى والصلاة فيه، وإقامة شعائرهم الدينية ومناسكهم التعبدية وطقوسهم اللاهوتية، وتوقفت المجموعات الدينية والمتطرفة التي كانت تتشكل دوماً لاقتحام الحرم والصلاة فيه، وكانت تعلن عن نيتها بالاقتحام قبل أيام، وتجهز لخطتها وتعد لها عدتها اللازمة من الحشد والتعبئة والإعلان، وتصطحب معها حاميةً إسرائيليةً من الجنود العسكريين ورجال الشرطة، الذين كانوا يؤمنون لهم الطريق، ويقفون في وجه المصلين الفلسطينيين، ويحولون دون قيام المرابطين بصدهم ومنعهم من الدخول إلى ساحات المسجد وبهوه الداخلي.

كما قامت مجموعاتٌ يهوديةٌ متدينة، توصف بأنها معارضة ومخالفة للتيار الديني اليهودي المتطرف، بعد عمليات الطعن والدهس المتوالية التي شهدتها المدينة، بتوجيه رسالةٍ إلى الشعب الفلسطيني، وكأنها تعلن فيها براءتها مما يرتكبه أبناء دينها من جرائم وموبقات في حق الشعب الفلسطيني، وتبين له فيها أنها ليست شريكةً لهم فيما يفعلون، ولا موافقةً عما يرتكبون، وتخبره فيها أنها لا تدخل المسجد الأقصى ولا تزوره، وأنها لا تعترف به جبل الهيكل ولا مكاناً مقدساً لليهود، وتعارض الاعتداء عليه، وترفض دعاوى هدمه وبناء الهيكل مكانه، وكأنها برسالتها هذه تطلب الأمان من النشطاء الفلسطينيين، وتتمنى عليهم عدم مس أيٍ من المنتسبين إليهم أو المؤيدين لفكرهم، وعدم تعريض مصالحهم للخطر ولا مرافقهم للضرر.

استهدف المقاومون الفلسطينيون مناطق هامة وشوارع مشهورة ومحطاتٍ معروفة في مدينة القدس، وتركوا آثارهم في أكثر من مكانٍ فيها، فقد استهدفوا بعملياتهم شارع يافا أكثر من مرة، وشارع الملك داوود وشارع روتشيلد والتلة الفرنسية ومحطة الحافلات المركزية، وشبكة قطار المدينة ومراكز التسوق الكبيرة، إلى جانب باب العامود وبوابات المسجد الأقصى، فضلاً عن الأحياء العربية، والحواجز العسكرية المنصوبة على مداخلها، والتي تم استهداف أغلبها، وفيها تم طعن العديد من الجنود والمستوطنين.

وكانت مجلة “غلويس” الاقتصادية الإسرائيلية قد كشفت عن أن العمليات التي ينفذها الشبان الفلسطينيون في القدس والضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948 منذ عدة أشهر، قد أضرت بالحياة العامة في البلاد، ولكنها بدقةٍ أكبر قد دفعت رجال أعمالٍ إسرائيليين إلى إغلاق محالهم التجارية في مدينة القدس، لأنها المدينة الأكثر اشتعالاً والأقل أمناً، مما سبب للمدينة المقدسة تدهوراً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً، وأضافت المجلة في تقريرٍ لها نشر يوم الأحد الموافق 27 ديسمبر 2015، “أن جولةً ميدانية في القدس تظهر حجم الضائقة التي تعاني منها بفعل عمليات الطعن والدهس ضد الإسرائيليين”، وترفض المجلة أي محاولة للنفي وعدم الاعتراف بهذا الواقع المرير الذي تشهده المدينة.

وكان نحمان شاي عضو لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي قد شكا من الأوضاع الاقتصادية المزرية التي تشهدها مدينة القدس، وتحدث عن معاناة سكانها ورجال الأعمال فيها فقال “إن القدس تمثل الصورة المصغرة لواقع الصراع العربي الإسرائيلي، وتمثل المكان الأكثر احتكاكاً بين الجانبين، وقد شهدت المدينة وضواحيها جزءاً كبيراً من العمليات الفلسطينية”.

وعزا موقع ويلا الإخباري الإسرائيلي “أن إغلاق المحال التجارية بالقدس، سببه تزايد الديون على أصحابها وانعدام الخيارات أمامهم، نظراً لتراجع العائدات بسبب تردي الأوضاع الأمنية فيها”، وبعلق بعض التجار الإسرائيليين الذين اضطروا إلى إغلاق محالهم التجارية، أنهم قد غرقوا في الديون التي تزداد وتتراكم عليهم، وأنه لا يوجد حركة بيع ولا شراء في المدينة، والحياة شبه جامدة، إذ لا سياح من الداخل أو الخارج، وهم عماد الحركة الاقتصادية اليومية في المدينة، ولا يستطيع السكان الخروج بحريةٍ للتسوق، إلا أن مستحقات البلدية ورسوم الدولة لا تعترف بصعوبة الأوضاع، ولا بتردي الأحوال، ونقص المداخيل على الجميع، بل تصر البلدية على تحصيل حقوقها من التجار، الأمر الذي لم يجعل أمامهم خياراً آخر يلجأون إليه غير إغلاق محالهم.

ويرى تجارٌ إسرائيليون آخرون في مدينة القدس، أن الأوضاع الأمنية المتردية في المدينة لا تبشر بخير، ولا يبدو عليها أمارات الانتهاء، بل إن نذر التفاقم والتوتر أعلى بكثير، ويصفون الحال الأمني الذي يعانون منه، أنه ككرة الثلج تكبر وتتدحرج، وهي تلقي بظلالها السلبية على كل مناحي الحياة العامة في المدينة، التي هجرها سكانها خوفاً، ومن بقي فيها فإنه لا يخرج من بيته، ولا يغادر أماكنه التي يعتقد أنه آمنٌ فيها، مخافة أن يلقَ منيته طعناً أو دهساً على أيدي الثائرين الفلسطينيين.

ونقل الموقع نفسه عن إيلي ليفي رئيس لجنة التجار الإسرائيليين في مدينة القدس قوله “إن الوضع الأمني في المدينة يمثل ضربةً جديدةً في الصدر، ومؤشراً إضافياً على حالة الضعف والتراخي التي تمر بها المدينة في ظل هذا الوضع الأمني، ونتيجة وقوعها تحت ضربات الهجمات الفلسطينية المستمرة”.

الإسرائيليون في مدينة القدس يعترفون سراً وعلانيةً، فيما بينهم وأمام العامة قبل الخاصة، أن الانتفاضة الفلسطينية أكثر من عصفت بمصالحهم في المدينة، وعطلت مرافقهم، وأضرت اقتصادهم، وتسببت في تراجع الدخل وتوقف القطاع السياحي الديني والتاريخي، وانعكس ذلك على قطاع خدمات الفنادق والمطاعم وأماكن التسلية واللهو والسهر، وهي التي كانت تفخر وتباهي بنجاح السياحة الدينية إليها، وأنها تدر عليهم سنوياً مئات ملايين الدولارات، تتوزع على قطاعاتٍ كثيرة ومرافق مختلفة من هيكل الاقتصاد المقدسي الإسرائيلي، الذي يعتاش منه ويعمل فيه قطاعٌ كبيرٌ من مستوطنيهم، ويقولون بأن القادم من الأيام سيكون أخطر وأشد ضرراً إن بقيت الأحداث على حالها، واستمرت الانتفاضة تغذ سيرها وتواصل خطواتها، وتتواصل عملياتها، ويتدافع أهلها، ويتنافس شبانها.

- (74)

للخليل ألف تحيةٍ وتحية

الخليل المدينة الفلسطينية المقاومة، الشامخة العتيدة، القديمة العتيقة، العوان في الحرب، والثفال في القتال، والسارية في الخطوب، والكنانة في الرجال، تعاند وتجابه، وتتصدى وتواجه، وتقاتل وتجالد، وتصبر وتحتمل، وتعض على الجرح وتحتسب، لا تبال بالخطوب، ولا تخشى النوائب، تنسج من الألم خيوط النصر، ومن الوجع تجدل حبال الحرية، ومن الجبال تقد الصخر ثباتاً، وتشق في الأرض لها جذوراً، وتنغرس في جوفها أصولاً، ولهذا فإنها لم تعد كأي مدينة وإن كانوا لها أخوات، ولم تعد تشبه غيرها وإن كانوا مثلها في الصفات، إنها نسيج وحدها، سقفها السماء، وكيزانها النجوم، إذ لا يدانيها أحد، ولا تقوى مدينةٌ على اللحاق بها، أو السباق في مضمارها، فميدانها فسيح، ومسارها طويل، ومنحنياته كثيرة، والعقبات فيه صعبةٌ وكبيرة، ولكنها تعرف كيف تخوض الصعب، وتتحدى العقبات، وتنتصر على التحديات، لأنها مدينة تريد أن تنتصر.

لا تستطيع عقولنا أن تتفتق عن شكرٍ يليق بها، ولا أن تبدع أقلامنا في مدح عملياتها، ولا تعرف ألسنتنا كيف تلهج حمداً على دورها، ولا نستطيع بحالٍ أن نقدر تضحياتها، ولا أن تجود مخيلاتنا بما يوازي ما تقدم، أو يساوي ما تعطي، إذ ما كان لمحدود أن يدرك مطلقاً، وعقولنا عن تضحياتها قاصرة، ونحن أمام سيل عطائها وجود سخائها حيرى، ولكن عزاءنا أن من يتغنى بالقمر ليس مثله، ولكنه به يتغنى، ومن يشيد بالكرم يتمنى أن يكون من أهله، ومن يذكر الشيم يسعى أن يتصف بها، أو أن يتحلى ببعضها، وكذا نحن بالخليل نتغنى، وبأمجادها نشيد، نغبطها ونشكرها، ونفخر بها ونزهو، ونتمنى أن تكون كل فلسطين مثلها، نكيد بها العدو ونؤلمه، ونبكيه ونحزنه، ونضيق عليه عيشه ونطرده.

والخلايلة غير مضطرين لمغادرة مدينتهم للبحث عن أهدافٍ إسرائيلية لمهاجمتها، إذ أن مدينتهم تغص بالمستوطنين الذين ملأوا جوانبها، وسكنوا في أطرافها، واحتلوا القلب منها، وبنوا المستوطنات فيها وفي محيطها، ما يجعل أهداف المقاومين منهم كثيرة، إذ هي منتشرة وموزعة، ومع ذلك فإن أبناءها يخرجون منها إلى القدس ومدنٍ أخرى للبحث عن أهداف جديدة، ومهاجمة العدو في مناطق أخرى، وقد نجحوا فعلاً في حمل شعلة الانتفاضة إلى أكثر من مكانٍ، وإن كانت الانتفاضة في كل الوطن مشتعلة ومتقدة، فإنهم يزيدونها لهيباً، ويسعرون نارها أكثر.

لا يجدي مع مدينة الخليل ومحافظتها التي أدمتها الاجتياحات، وأوجعتها التوغلات، السياسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، فهي اعتداءاتٌ وإن قست فإنها لا تضعفهم ولا تفت في عضدهم، ولا تدفعهم للتراجع أو الانكفاء، بل إنها تزيد من إرادتهم الصلبة، وقدرتهم على الصمود الرائع، ولعل خير من يعبر عن فشل سياسة الاحتلال أمام صمود الخلايلة هم الإسرائيليون أنفسهم، فهذا يهودا شاؤول وهو أحد الضباط العسكريين العاملين في مدينة الخليل يقول “الخليل تظهر فشل سياسة إسرائيل في الضفة الغربية، فاستمرار سيطرتها العسكرية على المدينة سيجلب موجات دامية ومتلاحقة من العنف”.

وتسائل متحسراً “كيف تحولت الخليل رغم الوجود العسكري المكثف، إلى المنطقة الأكثر توتراً في الضفة، هذا يؤكد أن سياسة تعزيز سيطرة الجيش على الفلسطينيين قد نجحت في تدمير حياتهم وتخريبها، لكنها لم تنجح في جلب الأمن للإسرائيليين”.

ولهذا السبب فإن بعض الإسرائيليين يوجهون انتقاداً إلى حكوماتهم المتعاقبة، ويحملونها مسؤولية إيجاد مبررات للمقاومة، وتسهيل عملياتها التي تستهدف المستوطنين والجنود وغيرهم، إذ أنهم قد سمحوا لليهود بالانتشار في المدينة، والتوسع فيها على حساب المواطنين الفلسطينيين، والتضييق عليهم ومصادرة أرضهم وانتهاك حقوقهم، وبذا فإن الحكومات الإسرائيلية هي التي تعطي الفلسطينيين المبرر الشرعي للمقاومة والقتال، والطعن والدهس والقنص وغير ذلك مما يجب أن يتوقعه المحتل ممن اغتصب حقوقه واحتل أرضه.

وفي هذا السياق يذكر المحرر الإسرائيلي آفي يسخاروف، وهو مهتم بالشؤون الفلسطينية، ويعرف الكثير عن تفاصيلها، في معرض انتقاده للحكومة الإسرائيلية التي يحملها المسؤولية عن كثرة العمليات التي تقع في الخليل، والتي لا تجدي الإجراءات الأمنية في محاربتها، ولا الوسائل العنفية في وقفها “مدينة الخليل مدينةٌ مختلطة من العرب واليهود، ومسلحوها ليسوا مضطرين للخروج منها واجتياز الحواجز العسكرية للوصول إلى المدن الإسرائيلية، والبحث عن أهداف مرشحة لضربها”، وكأنه بانتقاده المباشر للحكومة يدعوها إذا أرادت أن تنعم بالأمن والسلامة، والطمأنينة والهدوء، إلى الانسحاب من مدينة الخليل، وتفكيك مستوطناتها منها، ورحيل مستوطنيها عنها، والكف عن توغلات جيشها فيها وحملاته عليها، وإلا فإن على الحكومة أن تتوقع من الخليل صيفاً قائضاً أبداً، وشتاءً زمهريراً دوماً.

لو كتبنا كل يومٍ عن مدينة الخليل فلن نفيها حقها، ولن نكافئها على عطائها، ولن نكرر شكرنا على ما أعطت وقدمت، بل سنشكرها على الجديد، ونرفع لها التحية على المزيد، وسنحاول أن نجد عباراتٍ جديدةً، وتهاني أخرى تليق بها، فلا نكرر ما سبق، ولا نعيد ما سُمع، بل نجتهد بالبديع، ونسعى للجميل، فهي تستحق وتستأهل، إذ أنها لا تتغني بالقديم، ولا تكتفي بما أنجزت وحققت، بل تأتي بجديدٍ آخر، وتقوم بعملياتٍ أخرى أروع، تشدهنا وتفاجئنا، وتجبرنا على أن نقف أمامها مستغربين ولكن فرحين، لهذا فهي توجب علينا أن نجدد لها الشكر والتحية، وأن نعظم عطاءها وتضحياتها، وألا نكتفي لها بشكرٍ يتيمٍ وتقديرٍ سابقٍ، وثناءٍ ممجوجٍ ومديحٍ مكرورٍ، إنما يجب أن يلهج لساننا بشكرها دائماً، وأن يذكر فضلها أبداً، فإنها الخليل، رائدة الانتفاضة، وقائدة المسيرة وحادية الركب، وصانعة النصر، وأكثر من يشحذ الهمم ويضحي، وأعظم من يقاوم ويشفي الغليل ويرضي النفس ويكيد العدو.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 101 / 2165776

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.مصطفى اللداوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165776 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010