الجمعة 15 كانون الثاني (يناير) 2016

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة

الجمعة 15 كانون الثاني (يناير) 2016 par د. مصطفى يوسف اللداوي

- (78)

العقبي وملحم يضربان في العمق ببندقيةٍ ومهند

شكلت عملية مهند العقبي في مدينة بئر السبع، وعملية نشأت ملحم في مدينة تل أبيب، وكلاهما من أهلنا الفلسطينيين المتمسكين بأرضهم، والمحافظين على وجودهم، والثابتين في وطنهم، والمؤمنين بحقهم في أن أرض فلسطين أرضٌ واحدةٌ لا تتجزأ، وأنها وطنٌ حرٌ عزيزٌ لأهله الفلسطينيين، ولأصحابه العرب من المسلمين والمسيحيين، الذين ما زالوا يعيشون فيه، أو يتطلعون إلى العودة إليه، فلا المقيم فيه يقبل بواقع الاحتلال، ويستسلم لإرادة العدو، ولا الغائب البعيد ييأس ويمل، ويقبل عن وطنه آخر بديلاً، بل يصران معاً على التحرير والعودة، مهما تكلفا من ثمن أو دفعا من أجل الوطن ضريبة.

شكلت هذه العمليات الموقعة باسم فلسطينيي الداخل، والممهورة بدمائهم الطاهرة، صدمةً مهولةً ومفاجئةً للعدو الإسرائيلي، أربكته وهزته بعنفٍ، وأحدثت في صفوفه اضطراباً لم يكن يتوقعه أو يتخيله، وهو آخر ما كان يأمله ويتمناه في ظل انتفاضةٍ فلسطينيةٍ عنيفةٍ شملت الوطن وعمت كافة أرجائه، وألحقت في صفوفه خسائر كبيرة، طالت الأرواح والممتلكات والمصالح، وأضرت بسمعته وعلاقاته، وتجارته واقتصاده، وهيبته وقوته، واستقراره الداخلي وعلاقاته البينية، وما زالت تكبر وتتسع، وتقوى وتشتد، وتتعمق وتتجذر، وهو حائرٌ وغير قادرٍ على الإحاطة بها أو السيطرة عليها، أو وضع حدٍ لها بالقوة أو بالتفاهم، وبالتفرد أو بالتنسيق، فإذا بالهجوم ينطلق من داخله، ويصيب قلبه وعاصمة قراره، وأطرافه البعيدة والقريبة.

وقد علق على عملية بئر السبع التي نفذها الشهيد مهند العقبي أحد كبار الضباط الإسرائيليين، فقال “آخر ما توقعناه أن تأتينا الضربة في بئر السبع، وتفاصيل العملية مفاجئة لنا”، وقال آخر “في عز الهدوء وفي مكانٍ غير متوقعٍ ضرب الفلسطينيون”، وقال غيره “نشرنا آلاف الجنود في الضفة والقدس، وإذ بالضربة تأتينا في جنوب البلاد”.

أما رئيس بلدية بئر السبع روبيك دانيلوفيتش فقد كان مصدوماً مما حدث، وغير قادرٍ على تصديق ما تراه عيناه، لكنه أمام هول العملية واضطراب المستوطنين في المدينة قال “عملية بئر السبع صعبة للغاية، والشرطة لا يمكنها منح كل مواطنٍ حارساً خاصاً، لأننا في ذروة معركة قاسية”.

عملية بئر السبع كانت مهولة وصادمة، ومخيفة ومرعبة، فقد فضحت المستوطنين، وكشفت عن عيوب الجيش والنخبة، واخترقت الأمن والحماية والاستعداد والجهوزية، وأثبتت أنهم يكذبون إذ يدعون الحصانة والمنعة، إذ علق محلل عسكري إسرائيلي على العملية قائلاً “عملية بئر السبع فيلم هندي، لكن خيبة الأمل الحقيقية تكمن في هروب الجنود المسلحين من منفذ العملية، وبحثهم عن أماكن للاختباء منه، بدل أن يطلقوا النار عليه، إنه سلوكٌ مخزي، كان آخر ما توقعناه أن تأتينا الضربة في العاصمة الاقتصادية لإسرائيل”.

وكانت وسائل إعلامٍ إسرائيلية ودولية قد نقلت صورة الإحباط واليأس البادية على وجوه المواطنين الإسرائيليين، بعد رؤيتهم لصور الجنود وهم يفرون ويختبؤون، ولا يقوى أيٌ منهم على إيقاف المهاجم أو إطلاق النار عليه، ما جعلهم يبدون ضعفاء وجبناء أمام مواطنيهم، خاصةً أن العملية استمرت لدقائق طويلة، وقد كان بإمكان الجنود التصرف بسرعة، ووضع حدٍ لعملية إطلاق النار، ولكن حالة الذعر هي التي كانت سائدة ومسيطرة على الجنود الإسرائيليين، الذين آثروا الفرار والاختباء.

ومن فرط خزيهم قامت سلطات الاحتلال باعتقال بعض العاملين العرب من غير المتواجدين في مكان الحادث، بعد أن تبين لهم أنهم يتبادلون بفرحٍ صور الجنود الفارين المذعورين، وهم يحاولون الاختباء والاحتماء من نيران منفذ العملية، في الوقت الذي طلبت فيه من إدارة شركات الانترنت حجب هذه الصور ومنع تداولها بين مستخدمي شبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

أما نشأت ملحم فقد اقتحم بنفسه، وقاتل بمفرده، وامتشق سلاحه أمام جمعهم، وأطلق النار على حشودهم، وسلط بندقيته على رؤوس جنودهم وأجساد مستوطنيهم، فقتل وجرح، وما استوقفه أحد، ولا قوي على مواجهته آخر، وما إن أنهى مهمته حتى طوى حقيبته، وأعاد إليها سلاحه وحملها على ظهره كعصا وارتحل، فحكم على سكان مدينة تل أبيب كلها بالخوف والفزع، والرعب والجزع، وأسكنهم بيوتهم فلم يخرجوا منها، وأغلق مدارسهم فلم يذهب أطفالهم إليها، وأوقف أعمالهم فما استطاع أن يزاولها أحدٌ، كلٌ خائفٌ على نفسه، وقلقٌ على مصيره، بينما يذهب نشأت ملحم إلى مكمنه آمناً منهم، وغير خائفٍ من تعقبهم، وهم الذين يملكون القدرات المهولة، والتقنيات الكبيرة، ووسائل الاتصال والتتبع الحديثة.

الكيان الصهيوني لا يحتمل عملياتٍ من هذا النوع، ومجتمعه من الداخل غير مهيأ لها، وغير مستعدٍ لمواجهتها والتصدي لها، وقد صرح أكثر من مسؤولٍ إسرائيلي أن كيانه لا يستطيع أن يحتمل عمليةً أخرى كعملية نشأت ملحم، وهو التصريح نفسه الذي أطلق عشية عملية مهند العقبي في مدينة بئر السبع، بما يشير إلى حجم الألم والضرر التي ألحقته هذه العمليات بهم، إذ أقلقت الشعب وهزت الحكومة وأظهرت هشاشة الأمن، وكشفت عن فزاعة الجيش.

أما منفذا العمليتين فلم يستسلما، بل استبسلا في هجومهما، وقاتلا بصدقٍ ويقين حتى استشهدا، ولم يسقط أيٌ منهما بسهولةٍ، ولم يسلم أيٌ منها نفسه للعدو كي يأسره أو يقتله، بل بقيا واقفين على أقدامها، وأيديهما تقبض على السكين أو البندقية، وبهما قاتلا حتى حانت منيتهما شهداء كرماء أعزاء، إذ قاتل مهندُ حتى انتهت ذخيرته، وقبل أن ينال منه المستوطنون استولى على بندقية جنديٍ وقاتل بها حتى انتهت ذخيرته للمرة الثانية، أما نشأت ملحم فقد ضرب في عمليته للعدو درساً بليغاً، وأذاقهم الذل ألواناً، فبعد أن هاجمهم في قلب مدينة تل أبيب، وقتل فيها اثنين وجرح آخرين، غادر مسرح العملية آمناً إلى مكانٍ آخر، وعندما وصلوا إليه وعرفوا مكانه، لم يسلم نفسه ولم يلق بندقيته، بل قاتلهم ونال منهم قبل أن يلق الله شهيداً.

هذه العمليات البطولية أعطت الشعب الفلسطيني أملاً كبيراً، وأثلجت صدور أبنائه فرحاً، وأعادت إليهم الأمل من جديد، أن جذوة هذا الشعب ما زالت متقدة، وأن الجمر تحت الرماد ملتهب، وأنه لم يخمد ولن ينطفئ، وأن المهند الذي كان يحمله مهند سيحمله غيره، والبندقية التي أفرغ نشأت ذخيرتها في صدور العدو، سيعمرها مقاومٌ آخر، وسيحملها من بعده فلسطيني أقوى وأصلب، وأكثر عناداً وأشد مراساً.

- (79)

الانتفاضة تفضح شخصية نتنياهو

مما لا شك فيه أن الانتفاضة الفلسطينية قد هزت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، واستطاعت رغماً عنه كشف بعض جوانب شخصيته، وفضح نفسه من الداخل، وتمكنت من معرفة طريقة تفكيره وآليه تصرفه في مواجهات الأزمات الطويلة الأمد والشديدة الأثر، ذلك أنه لا يواجه حرباً عمرها أيامٌ وتنتهي، ولا معركة تستمر لساعاتٍ وتنقضي، بل إنه يواجه انتفاضةً قد تستمر لسنواتٍ، وأحداثاً قد تتواصل حتى تحقق أهدافها، وتسقط حكومته وتغيب بعض أشخاصها، وتحيل آخرين منهم إلى التحقيق والمحاكمة بتهمٍ كثيرةٍ لها دورٌ في تردي الأوضاع ووصول الحالة في المناطق إلى ما وصلت إليه الآن.

نتنياهو رجلٌ لا يستطيع العيش في ظل أزماتٍ لا يملك زمامها، ولا يخطط لها، ولا يعرف مآلاتها، ولا يدرك خواتيمها، فهو يستطيع العيش فقط في ظل مخططاته، وتحت جناح مشاريعه التي يقوم بها، ويعرف أنها تصب في صالحه، وتخدم برامجه، ولا تتعارض مع سياسته، ومع ذلك فقد أدخل نفسه في متاهةٍ لا يعرف منتهاها، ولا يستطيع أن يميز مسار النجاة فيها.

تحمل المخابرات الإسرائيلية نتنياهو المسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع في القدس والضفة الغربية، وأنه عجل في انفجارها، ولا تتردد في فضح سياساته، وبيان عيوب قراراته، ذلك أنه كان يهمل تقارير أجهزة المخابرات المختصة، التي كانت في أغلبها تحذره من اندلاعٍ وشيكٍ لانتفاضةٍ فلسطينيةٍ ثالثة، وأنها ستكون انتفاضة مغايرة لما سبقها، وأن على الحكومة التي يرأسها أن تعمل على عدم اندلاعها، أو على الأقل أن تعرقلها أو تعيقها.

لكن نتنياهو أهمل التحذيرات، وخالف توجيهات المخابرات التي أوصته بالتهدئة مع السلطة الفلسطينية، وعدم الضغط عليها أو إحراجها أكثر، خوفاً من فقدان التنسيق الأمني الذي توليه المخابرات الإسرائيلية اهتماماً كبيراً، وتعول عليه كثيراً في مواجهة العمليات وإحباطها قبل تنفيذها، وقد كتبت زهافا غلؤون، رئيسة حركة “ميريتس” الصهيونية مؤخراً “نتنياهو يريد أن يقول من خلال سياساته في الضفة الغربية أن التحقير فقط ينتظر المعتدلين من الفلسطينيين، لذا فهو لا يتردد في أن يبصق على عباس في كل فرصة ممكنة”.

يرى الأمنيون الإسرائيليون أن نتنياهو أطاع نفسه واتبع هواه، ولبى سياسات حلفائه في الائتلاف الحكومي، ليكسب المزيد من تأييد المستوطنين والأحزاب الدينية المتشددة، وكان من أخطرها موافقته على سياسة تغيير الوضع الحالي لمدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، والسماح للمتطرفين باقتحام الحرم، وكتب شاؤول أرئيلي وهو ضابط متقاعد “نتنياهو جعل من عباس أضحوكة في نظر أبناء شعبه، فبدلاً من أن يكافئه على ضبط الأوضاع الأمنية في الضفة في ذروة الحرب على غزة وفي ظل تواصل الاستيطان، فأنه يعاقبه بمصادرة أراضي الضفة واقتحام مسجد الصخرة”.

لهذا فإن المخابرات الإسرائيلية تصفه بأنه مهزوز ومتردد، وأن يده مرتعشة مع أطراف ائتلافه والأحزاب اليمينية المتشددة، فهو يخافها ويخشى غضبها، ويحرص عليها ويلبي رغباتها، لا إيماناً منه بصوابية سياساتها، ولكن حرصاً منه على عدم فقدان منصبه وضياع كرسيه، وقد حذرته مخابراته كثيراً من خطورة وسلبية موافقته على استخدام المستوطنين للأسلحة النارية في مواجهة الانتفاضة، فهو بقراره قد سمح لهم بتنفيذ القانون الذي يرون بطريقتهم ووفق هواهم، وبذلك يكون قد أدخل البلاد في فوضى عارمة، ووسع من دائرة العنف، وزاد من وقودها الذي سيضاعف من أوراها، وسيزيد من لهيبها، بما يجعل سيطرته عليها بعد ذلك مستحيلة.

نتنياهو في تقييم المخابرات الإسرائيلية شخصٌ لا يقوى على ضبط نفسه، ولا على حسن إدارة حكومته، وتسيير عملها وتنظيم أدائها والتنسيق بين أعضائها، في ظل فوضى قد تسقطه، وقد تنهي حلمه الذي يكبر يوماً بعد آخر في أن يكون ملك بني إسرائيل الجديد، وطالوتهم المنتظر، المخلص والمنقذ، والغالب المنتصر، لأن الفوضى التي تسبب فيها لن ترهب الفلسطينيين، ولن تمنعهم من مواصلة انتفاضتهم، بل ستخلق فيهم روح التحدي والثأر والانتقام، ولن يكون من السهل عليه إقناع المجتمع الدولي وتبرير سلوك مواطنيه تجاه الفلسطينيين، وهو سلوكٌ آخذٌ في التطرف والاتساع.

وقد ذكر الصحافي الصهيوني رفيف دروكر أن هجمة السكاكين الفلسطينية “أبرزت أسوأ صفتين في نتنياهو: الجبن والكذب”، فهو يعلم أنه قد وقع في شراك سياساته، وفي فخ أعماله، وأن مساعديه الأمنيين والعسكريين قد غرروا به ولم يصدقوا نصحه، ولهذا فهو يحاول الإفلات من مأزقه والخروج من أزمته بممارسة فن الكذب الذي عرف عنه، فهو في محيطه وبين أقرانه القدامى كان معروفاً بالكذب، ومشهوراً بالنعومة المخادعة التي يتطلع من خلالها إلى تحقيق أغراضه والوصول إلى أهدافه.

وتأكيداً على ذلك تروي داليا شيندلن الكاتبة في صحيفة الأوبزيرفر، حكاية مفادها أن مستشاراً سياسياً لنتنياهو كان يتناول الغداء معه، فطلب نتنياهو شطيرة “برغر”، وهو محظور عليه بأمر الطبيب،
وبعد أن أكل نتنياهو جزءا كبيراً من الشطيرة، دخلت زوجته وبدأت بتقريعه، ورغم أنها في صحنه أمامه، ويبدو أنه أكل منها، غير أن نتنياهو دافع عن نفسه باللجوء إلى الكذب زاعماً أنه لم يأكل “برغر” أبداً.

وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيفني ليفني قد وجهت انتقاداتٍ قاسية إلى سياسة بنيامين نتنياهو وشخصه، وحملته المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في البلاد، واتهمته بالغرور والتسلط، ودعته إلى مراجعة سياسته في التعامل مع الفلسطينيين لضمان وقف انتفاضة السكاكين، ونصحته بالتخلي عن مصالحه الشخصية وأحلامه الأنانية، والتراجع عن أسلوب القوة لمواجهة الأزمة، والعمل بدلاً من اعتماد القوة على وقف الاستيطان وإعلان الالتزام بحل الدولتين، وقالت “إن سياسة الحكومة تتسبب في عزلتنا في العالم وتخلق انعدام أملٍ ويأساً”.

أما الإدارة الأمريكية وعلى رأسها الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري فهم يعرفون أن نتنياهو يكذب ويدعي، ويحاول دوماً تبرير أفعاله بالمزيد من الكذب، وتعزيز روايته باختلاق الجديد من القصص والحكايات، وتلفيق الروايات والأحداث، وكلاهما قد عانى منه في ظل الأزمات العديدة التي افتعلها لهما في مجلسي الكونجرس والشيوخ، اللذين استخدمهما في تمرير المزيد من الكذب الذي يدين أوباما ويضعف قراراته، فضلاً عن هروبه من أزماته بالتهكم على الإدارة الأمريكية والاستخفاف بها.

أمام الهجمة التي يتعرض لها نتنياهو، قام مستشاروه بنصيحته بضرورة الاجتماع مع قادة المعارضة، وإطلاعهم على تطورات الأوضاع، واشاركهم في الأزمة التي تمر فيها البلاد، والتأكيد عليهم أنها أزمة وجودية تستهدف الوجود اليهودي في البلاد، الأمر الذي يفرض على الجميع نسيان مشاكلهم، والتوقف عن توجيه النقد للأداء الحكومي، والتفرغ للتعاضد معاً والتعاون للخروج من الأزمة بسلامٍ أو بأقل الخسائر، لكن أوساطاً إسرائيلية تفسر هذا السلوك الذي يحاول نتنياهو اتباعه الآن، بأنه دالٌ على ضعفه، واعترافٌ كاملٌ بفشله، وإن بدا في سلوكه حكيماً، وفي قراره وطنياً.

يبدو أن الانتفاضة الفلسطينية لن تكتفي بفضح نتنياهو وحكومته، التي قد تسقطها وتسقطه، بل ستفضح أطرافاً كثيرةً، ودولاً عدة، وستعري أنظمة، وستكشف حقيقة تآمر دولٍ وحكومات على القضية الفلسطينية، ممن يدعون نصرتنا والوقوف معنا، وستعري حقيقة البعض وإن انتمى إلى فلسطين عروبةً أو إسلاماً، أو كان إليها ينتسب سكناً وإقامة، وهويةً وجنسية.

- (80)

حواجز القتل وبوابات الموت

يكرهها الفلسطينيون من قديمٍ جداً ولا يحبونها، ويتشائمون منها وينزعجون من وجودها، ولا يحبون المرور أو الاقتراب منها، ويصفونها بأنها حواجز القتل وبوابات الموت، فهي تذكرهم بالقتل، وتجلب لهم الموت، فعلى بواباتها قتل الكثير من الفلسطينيين، وأمامها توفي مرضى وهم في سيارات الإسعاف ينتظرون، وتوفيت نساءٌ حوامل منعن من العبور للولادة، وأجبرن على الوضع في الأماكن العامة أمام الحواجز التي تنتصب أمامهم كالسدود، وترتفع كالجبال، فلا يقوى أحدٌ على تجاوزها أو عبورها إلا بقرارٍ أو دون ذلك القتل برصاص جنود الاحتلال المتواجدين على الحاجز.

يكره الفلسطينيون هذه الحواجز التي كانت قبل اندلاع الانتفاضة بالمئات، وبعدها زادت مئاتها مئاتٌ أخرى، وانتشرت حتى عمت كل أرجاء الضفة الغربية، فلم تعد بلدةٌ لا ينتصب على مدخلها حاجزٌ عسكري، ولا شارعٌ إلا ويتوسطه حاجزٌ أمني، ولم يعد الدخول إلى المدن سهلاً، إذ زرع الاحتلال على مداخلها بواباتٌ أمنية ثابتة، استقر فيها جنوده، وبنوا لهم فيها غرفاً للمبيت، وصالاتٍ للراحة والتسلية، وحماماتٍ ودورات مياه، وفيها مطابخ أو يصلها الطعام جاهزاً في أوقاته، وشيدت بالقرب منها أبراج المراقبة، وزودت بكاميراتٍ وكشافاتٍ قوية، يسلطها جنود الاحتلال على كل زاوية وركن، لمراقبة المواطنين ومتابعة حركتهم، وفيها زنازين قذرة وعرف حجزٍ ضيقة.

الحواجز إما أنها ثابتة ومستقرة وهي بالمئات، وقد باتت مزودة بكل ما يلزم الاحتلال، وما يشير إلى استقرارهم ودوامهم فيها، وتكون في الغالب مشيدة بالإسمنت ومنسقة ومنظمة، أو تكون مباني جاهزة “مسبقة الصنع”، يسهل فكها وتركيبها ونقلها وتغيير مكانها، وأخرى مؤقتة تنصب حسب الحاجة، وتفكك بعد الانتهاء منها، لكنها قد تستمر لأيامٍ أو لأشهر قبل تفكيكها، وأخرى تسمى بالحواجز الطيارة، التي يقيمها العدو فجأةً ولساعاتٍ محدودةٍ ثم يغادرها إلى مراكزه بعد انتهاء المهمة التي من أجلها نصب حواجزه، وهي غالباً ما تكون قبل وأثناء مداهمة القرى والبلدات، أو بعد العمليات الأمنية التي يقوم بها المقاومون الفلسطينيون.

يصف الفلسطينيون هذه الحواجز بأنها حواجز الموت وبوابات القتل، إذ أمامها استشهد أغلب منفذي عمليات الطعن والدهس، وفيها قتل الكثير غيرهم ممن اشتبه بهم جنود العدو، وظنوا أنهم ينوون طعنهم أو يخططون لدهسهم، فبادروهم إلى إطلاق النار عليهم، وهم أعدادٌ كبيرةٌ، وكثيرٌ منهم برئٌ من الاتهامات الإسرائيلية، ولكن العدو يريد أن يبرئ نفسه ويبرر قتل جنوده للمواطنين الفلسطينيين، فيذكر في تقاريره أن جنوده أطلقوا النار على الشبان الفلسطينيين دفاعاً عن أنفسهم، ولمنعهم من طعن جنودٍ أو مستوطنين إسرائيليين، وحتى يؤكدوا دعواهم فإنهم يضعون سكيناً بالقرب من الشهداء الذين قتلوهم.

يشكو الفلسطينيون من الحواجز العسكرية الفلسطينية الكثيرة، ويعتقدون أنها تقسم أرضهم، وتجزئ مدنهم، وتعيق الحياة في بلداتهم، فهي تقطع أوصال الوطن كله، وتجعل تواصل المواطنين فيه أمراً مستحيلاً أو غاية في الصعوبة، كما أنها تعيق عملهم وتعطل أشغالهم، فلا يستطيع العامل أن يذهب إلى عمله، ولا الموظف إلى وظيفته، ولا الطالب إلى جامعته، ولا الطبيب إلى مركز عمله، ولا المريض إلى المستشفى، الأمر الذي يجعل حياة المواطنين فيها صعبةً جداً، هذا فضلاً عن أعمال القتل والاعتقال اليومية التي تتم على كل الحواجز، إذ لا يأمن مواطنٌ على حياته أو حريته إذ قرر المرور على حاجزٍ إلا إذا اجتازه وعبره بأمانٍ وابتعد عنه.

أما إذا ترجل المواطنون أمام الحاجز من سياراتهم بقصد المشي لكسب الوقت أفضل من الانتظار لساعاتٍ في السيارات التي لا تمشي، فإن الجنود يستنفرون ويرفعون بنادقهم ويهددون بإطلاق النار إن لم يتراجع المواطنون، في الوقت الذي يتأهب الحراس في أبراجهم لإطلاق النار على كل من يحاول الاقتراب من زملائهم، علماً أنهم يرون أن أغلب المشاة هم من الأطفال والنساء والشيوخ المسنين، الذين لا يستطيعون الانتظار طويلاً.

لا يكترث الإسرائيليون ببكاء الأطفال، ولا شكوى المرضى، ولا ضعف المسنين والعجزة، ولا حالة النساء البئيسة، ولا حالات الطوارئ الملحة، ولا يجيزون سيارات الإسعاف ولا طواقم الدفاع المدني، ويصرون على إتمام إجراءات التفتيش والتدقيق والإهانة والإذلال والإساءة، في كل الظروف والأجواء، فلا يمنعهم مطرٌ منهمرٌ، ولا صقيعٌ باردٌ، ولا شمسٌ قائضة، أو حرٌ لاهبٌ، أما إذا وقع حادثٌ أمني على الحاجز، فإن المئات من المواطنين وأحياناً آلاف منهم، يتفرقون في جزعٍ وخوفٍ، نتيجة إطلاق النار العشوائي والكثيف.

تستغل سلطات الاحتلال الإسرائيلي الحواجز الأمنية، وتستفيد منها إلى أبعد مدى، غير القتل والاعتقال والتضييق على المواطنين وتعقيد حياتهم، فإنها تقوم في حواجزها بحجز بعض المواطنين وتوقيفهم لساعاتٍ، وخلالها تقوم بتعذيبهم وضربهم، وتقييدهم وشبحهم، وقد تحقق معهم وتستجوبهم، كما أنها تبتزهم وتضغط عليهم، وتستغل حاجتهم الماسة والملحة لمحاولة ربطهم والتأثير عليهم ليتعاملوا معهم، ويصبحوا مخبرين لهم، علماً أنه يكون على الحاجز غير الجنود النظاميين، عناصرٌ من المخابرات، وبعض المستعربين الإسرائيليين، الذين يحاولون الاستفادة من “منافع” الحواجز إلى أبعد مدى ممكن.

لا تلتزم سلطات الاحتلال بفتح الحواجز والبوابات الأمنية بانتظام، بل تتعمد أن يكون نظامها مربك، ومواعيدها غير منتظمة، وكلها تخضع لمزاجية الجنود وقرارهم، فهم قد يغلقون بعضها لساعاتٍ أو لأيامٍ ثم يفتحونها فجأة، ولكنهم يتعمدون البطئ في التفتيش، والتدقيق في تمرير المواطنين وتسيير السيارات، حتى إذا احتشد المواطنون وأصبحوا بالمئات، وطالت طوابير السيارات حتى أصبح لا يرى آخرها، فإنهم يقومون بإغلاق الحاجز، ويمنعون الجميع من المرور، ولا يقوى أحدٌ على سؤالهم أو الاستفسار منهم، لمعرفة أسباب الإغلاق ومدته، ويهددون من يحاول الاقتراب من الحاجز بإطلاق النار عليه.

لا تحترم سلطات الاحتلال الإسرائيلي أحداً من الفلسطينيين على الحواجز والبوابات، ولا تعير اهتماماً ولا تقديراً لحملة بطاقات الشخصيات الهامة، أو الذين يحملون بطاقات تسهيل مهمة، بل يقوم الجنود على الحواجز أحياناً بالتضييق عليهم متعمداً، والإساءة إليهم بقصدٍ، ويحرصون على أن يرى المواطنون إهانتهم، ويلحظوا طريقة التعامل معهم، ولا تتردد في إطلاق النار على العناصر الأمنية الفلسطينية إذا اشتبهت بهم، في الوقت الذي لا تسمح لأيٍ منهم بالاقتراب من الحواجز وهو يحمل سلاحه، ولو كان منتسباً إلى الأجهزة الأمنية، وهي التي قتلت ملازماً في الاستخبارات العسكرية على أحد حواجز مدينة القدس.

أكثر من ستمائة حاجزٍ في القدس والضفة الغربية، تمزق أوصال الوطن، وتخترق أحشاءه، تعذب المواطنين وتذلهم، وتقسو عليهم وتعذبهم، وتتعمد إهانتهم والتضييق عليهم، وعليها يقتلون ومن أمامها يعتقلون، ورغم ذلك فإن الفلسطينيين يقتحمونها ويهاجمونها، ولا يترددون في قنص جنودها أو طعنهم، ولو كان الثمن حياتهم، والنتيجة شهادةٌ أو اعتقال.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 55 / 2165522

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.مصطفى اللداوي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165522 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010