الجمعة 5 شباط (فبراير) 2016

أنثروبولوجيا شهداء “VIP

الجمعة 5 شباط (فبراير) 2016 par د.احمد جميل عزم

يتطابق تقرير قصير نشرته صحيفة “القدس” الفلسطينية، لمراسلها النشط في جنين، علي سمودي، عن شهداء “عملية القدس”، هذا الأسبوع، مع ما قاله لي والد شهيد في مخيم “قلنديا”، ووثَقته في مقال مؤخراً. فكما جاء في التقرير، واظب الشهداء الثلاثة، من قرية قباطية في جنين، على “زيارة ضريح رفيقهم أحمد عوض كميل منذ استشهاده (في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي)، بشكل شبه يومي”. وفي مخيم قلنديا، قال لي والد الشهيد محمد عطا، إنّه يلاحظ أطفالا وفتيانا يرعون القبر ويزورونه، لا يعرفهم، ويعرّفون أنفسهم بأنهم أصدقاء الشهيد.
تجد إحدى الأغنيات التي ألفت وأعدت للشهيد محمد عطا، الذي يبدو أنه كان متخصصا بملاحقة عصابات المخدرات، بصورة للقبر. وبعد هذا تأتي صوره شاباً متدفقا بالحياة، يحب الأناقة والجمال، مثلما يحمل السلاح.
قصة محمد عطا، وشبان قباطية الثلاثة الذين ذهبوا هذا الأسبوع إلى القدس، وكل الشباب، تكسر أساطير وأكاذيب، بقدر ما تكسر القلب برحيلهم. تماماً مثل أمجد سكري، الشرطي الفلسطيني الذي نفذ عملية حاجز “بيت إيل” الذي يعرف بحاجز الـ“VIP” (شخص مهم جدا)، لأنّ الإسرائيليين يمنعون دخوله للفلسطينيين إلا من يحمل بطاقة تثبت رتبة أمنيّة أو وظيفية معينة في السلطة الفلسطينية.
هؤلاء الشبان لا ينتمون لأي تنظيم، وإذا انتموا فإنهم لم يحصلوا على أي شيء مادي، بل تدبروا أمرهم، وقرروا وحدهم، وخططوا كيف يصلون لمكان عمليتهم، وماذا سيفعلون، وكيف سيحصلون بتمويل وجهد ذاتيين على السلاح.
قبل نحو عامين، في جنازة الشهيد ساجي درويش، ابن جامعة بيرزيت، وابن قرية بيتين، الذي قتل، كما يعتَقد، في طريقه لإطعام خرافٍ تمتلكها العائلة، خطر لي شيء تعلمناه في مساق “علم الإنسان” (الأنثروبولوجيا) في الجامعة، قبل ربع قرن. إذ أخبرنا الأستاذ الآتي من غور الأردن، أنّه في سنوات المحل وعدم الإمطار، كانت مسيرةٌ تسير في قريتهم، يدق فيها السائرون بوابات البيوت. فإذا خرجت ربة البيت، طلبوا منها وفق “ترنيمة” معينة أن تسقيهم، فتأتي بكأس الماء، فيرشقونها لأعلى باتجاه السماء. وقال لنا، الأستاذ، أن هذا معتقد غائر في القدم: أنّ الشيء يأتي بمثله، فبذرة الثمرة تأتي بها، ونطفة الإنسان تأتي بالمولود، ولكل حياة بذرة تشبهها.
لا أعرف إذا كان ياسر عرفات ينطلق من هذه الفكرة، أو هي عبقرية الاستشعار والفطرة عنده. فقبل اجتياح الإسرائيليين لبيروت، في العام 1982، وفي خطاب له يخبر فيه الحاضرين بخطة إسرائيلية أميركية لغزو لبنان، صرخ قائلا موجها خطابه للأميركيين والإسرائيليين: “الدم يستسقي الدم.. والشهداء يدافعون الشهداء...”. وهو ذاته قال “للعصابة الإسرائيلية الحاكمة” بعد استشهاد خليل الوزير: “إذا كنتم تعتقدون أن دم أبو جهاد واغتيال أبو جهاد ممكن أن يوقف الثورة، أو أنّ اغتيال أبو عمار سيوقف الثورة، لا، أنتم واهمون، فهذه الدماء ستنفرش في الأرض، كما انفرشت في الأرض الفلسطينية، اشتعالاً وناراً”.
يعجز أي فصيل أن يحشد عدد الشبان الذين تحركوا مؤخرا، ويكسر تحركهم مقولة أنّ الدعم المادي متطلب أساسي للثورة والمقاومة. يتحركون من واقع إرث نضالي، وفي وعيهم أسماء شهداء وأسرى، بعضهم من عائلاتهم وأصدقائهم، فالبنية التحتية الثورية، أوجدتها فصائل، ربما تراجعت الآن، ولكن أثر فعلها الثوري باقٍ؛ بُنية تحتية أوجدتها الأغنيات وآلاف القصص، فضلا عن الواقع الموضوعي للاحتلال.
تأسف على استشهاد “أحلى شباب”، وتخشى على كل شاب تراه؛ فهو مشروع شهيد أو شهيدة. ولكنك تعرف أنّ هناك بذوراً وواقعا موضوعياً للثورة، وأن الجنرال الإسرائيلي موشيه يعالون، واهم عندما توقع أنّ هناك شيئا اسمه “كي الوعي” يوصل الفلسطينيين للاستسلام.
يخترق الشبان الحواجز من دون بطاقة “VIP”، ويصلون حيث يريدون. يثبتون أنّ الشخص المهم جدا، في معادلة الصراع التحرري، هو الإنسان الثوري الذي يكسر قواعد الواقعية السياسية، طالما فشلت هذه الواقعية في إعطائه حياته التي ترضيه. ويبقى وزر القيادة السياسية قائماً: كيف لا تؤطر هذه الروح النضالية في عملية ثورية منتجة ومثمرة، توفّر على الشبان الافتقاد للتجربة؟ وكيف تجعل النضال الوطني عملية تراكمية ومنسقة؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 49 / 2180586

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2180586 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40