الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016

اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي

الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 par منير شفيق

- اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي

يوم الخميس في الخامس من شباط/ فبراير 2016 عقد اتفاق “الشراكة عبر المحيط الهادي”، في أوكلاند عاصمة نيوزيلندا. وذلك بمشاركة 12 دولة آسيوية بزعامة أمريكا.

الهدف المعلن منه إنشاء أكبر منطقة للتبادل الحر في العالم تحت حجة إرساء قواعد التجارة الدولية. ولم يزل بحاجة إلى التصديق الرسمي عليه، خصوصا، موافقة الكونغرس.

أما الهدف الحقيقي فهو حصار الصين والتصدي لتعاظم قوّتها. وقد ألمحت أمريكا لهذا، بصورة كادت تكون معلنة كذلك. ومن ثم يجب أن يعتبر جزءا هاما في الاستراتيجية الأمريكية التي نقلت الأولوية إلى منطقة المحيط الهادئ ضدّ الصين. وذلك بعد أن كانت الأولوية متأرجحة بعد انتهاء الحرب الباردة بين التركيز على قضايا إقليمية: البلقان، وحصار العراق، وإنجاز تسوية في مصلحة الكيان الصهيوني في عهدَيّ الرئيس بيل كلينتون. وقد استمرت تلك الأولوية بتخبّطها في عهدَيّ جورج دبليو بوش وهو يعلن شنّ “الحرب العالمية على الإرهاب” مترجما ذلك باحتلال أفغانستان والعراق في 2001 و2003 على التتالي، وبالعمل لبناء شرق أوسط كبير- جديد. واستمر هذا الخلل طوال العهد الأول لأوباما.

الأمر الذي أدّى إلى اهتزاز استراتيجي فاضح في تحديد الأولوية؛ وذلك بترك روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تعمل لاستعادة دورها وقوّة دولتها، لا سيما في عهود بوتين، كما بترك الصين تمضي في تطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية بنموّ مذهل زاد عن 13 بالمئة اقتصاديا سنويا، وبنسب كبيرة غير معلنة في المجالات الأخرى، وهو ما أدّى إلى أن تدفع ثمنه غاليا بعد عقدين من الزمن. وقد ثبت ذلك بما لا يقبل الشك خلال الخمس سنوات الماضية. وتكفي نظرة سريعة إلى روسيا اليوم والأسطول الروسي يمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، والأسطول الجوي الروسي يسيطر على أجواء سورية، كما تكفي نظرة سريعة إلى صين اليوم وهي تملأ أسواق العالم ببضائعها، أو هي تعقد الاتفاقات الاقتصادية الاستراتيجية مع عشرات الدول أو هي تصطاد قمرا صناعيا كما لو كان تصوّب بالقوس والنشّاب.

حاولت إدارة أوباما لا سيما في عهدها الثاني أن تستدرك هذا الخلل الاستراتيجي الذي فشل حيث حدّد كلينتون وبوش الابن أولويته في مكافحة الإرهاب أو التوصل إلى التسوية، أو احتلال أفغانستان والعراق، أو العدوان الصهيوني على لبنان 2006 وقطاع غزة 2008/2009. ومن هنا جعلت الاستراتيجية الأمريكية، كما أعلن، تتجّه نحو المحيط الهادئ أو بالتحديد لمواجهة الصين.

على أن هذه الانتقالة في العهد الثاني لإدارة أوباما لم تُخرج الاستراتيجية الأمريكية من تخبّطها وارتباكها. لأن وضع الأولوية الجديدة لم يصحبه تماسك استراتيجي على مستوى إقليمي وعالمي، كما كان الحال ما قبل انتهاء الحرب الباردة. فعلى سبيل المثال لم تحدّد بالضبط ما هو الموقف من روسيا، مثلا، هل تستمر في مواجهتها أم تحاول مهادنتها، أم مساومتها، على حساب الصين. أو مثلا كيف ستنتقل الأولوية السابقة من “الشرق الأوسط” إلى الصين. وذلك بمعنى ما هي السياسات التي يجب أن تُنتَهَج في هذه المنطقة إذ استمرت متخبّطة كمن يقدّم “رجلا ويؤخر أخرى”. ويظهر هذا في كل مواقفها حتى في علاقاتها بحلفائها.

لا شك في أن اتفاق “الشراكة عبر المحيط الهادي” الذي وقعته 12 دولة وهي أستراليا وبروناي وكندا وتسيلي واليابان والمكسيك وماليزيا ونيوزيلندا والبيرو وسنغافورة والولايات المتحدة وفيتنام، يدخل ضمن الأولوية الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ويخدمها لا سيما في مجال التنافس الاقتصادي مع الصين، ويرمي، كما قال أوباما، تعليقا عليه، إلى أنه “يسمح للولايات المتحدة وليس للصين، بوضع خريطة طريق للقرن الحادي والعشرين” فضلا عن تعزيز قيادة أمريكا خارجيا، فضلا عن دعم الوظائف داخل الولايات المتحدة.

إن الأسواق التي يشملها الاتفاق تشكل نحو 40 بالمئة من الاقتصاد العالمي، وقد استثنى الصين التي تمثل في الوقت الحاضر ثاني اقتصاد في العالم. ولكنه من ناحية أخرى لم يُواجه الردّ الصيني المقابِل. ومن ثم فإن الذي يُراهِن عليه أوباما لا يتعدّى أن يكون مجرّد أمانيّ ما لم يُثبِت في ميدان المنافسة تفوّقه فعلا.

أما من جهة أخرى فإن الأولوية الاستراتيجية الأمريكية إذ انتقلت إلى المحيط الهادئ فهي ذات أبعاد استراتيجية عسكرية وسياسية قبل أن تكون ذات بُعد اقتصادي. بل أن نجاح البُعد الاقتصادي يتوقف على نجاح البُعدَيْن العسكري والسياسي، وهذا قانون معاكس لما يعتقده الكثيرون ممن يعطون الأولوية للاقتصاد على المكانة في ميزان القوى العسكري والسياسي. ولكن الأهم أن مراكز القرار في الولايات المتحدة الأمريكية لم تصل بعد إلى تحديد أولوية الاستراتيجية الأمريكية العالمية. لأن الأولوية الاستراتيجية العالمية بحاجة إلى إجماع داخلي حين يكون بالإمكان أن تمضي بقوّة وسلاسة وتماسك كما كان حالها دائما ما عدا وضعها المضطرب في العقدين السابقين أو قل في العهود الثلاثة لكل من كلينتون وبوش الابن وأوباما.

وهذا ما يجعل من المبكر اعتبار الأولوية الاستراتيجية التي وضعتها إدارة أوباما تعبّر عن إجماع داخلي أمريكي، لا سيما إذا نجح في الانتخابات الرئاسية القادمة رئيس جمهوري. أما الأخطر فالتأكد من أن هذه الأولوية جاءت مناسبة مع ما حدث من تغيّر في ميزان القوى العالمي في غير مصلحة أمريكا؛ فقد أضاعت أمريكا عقدين من الزمن وهي غارقة في أولويات استراتيجية أخرى فشلت فيها، فيما كسبت كل من الصين وروسيا وقتا طويلا، وهي غافلة عما تحدثه الصين من تطوّر هائل في وضعها في ميزان القوى العالمي والإقليمي الآسيوي أو عما أحدثه بوتين في استعادة موضع روسيا كدولة كبرى بعد أن كانت في عهد يالتسين ذاهبة إلى الانحلال. ثم أضف ما تحقق من تطوّرات في مكانة الهند والبرازيل وإيران وتركيا وجنوبي أفريقيا ودول أخرى في موازين القوى الإقليمية.

بكلمة لم يعد من السهل، أو المضمون، أن تنجح أمريكا في حصار الصين أو احتوائها، ولا سيما إن استمرت تحالفات الصين مع روسيا، أو إن استمرت التناقضات الأمريكية-الروسية على ما وصلت إليه الآن، ناهيك عما نشأ من وضع عالمي سمح للصين أن تعقد اتفاقات استراتيجية، أولا في المجال الاقتصادي، ولعشرات السنين مع عشرات من الدول ذات التأثير كما فعل الرئيس الصيني، على سبيل المثال لا الحصر، في جولته الأخيرة مع كل من السعودية ومصر وإيران.

وبالمناسبة، كانت الصين قد استبقت أمريكا خطوة عندما أطلقت إقامة “البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية”، وقد جاء منافسا للبنك الدولي، وإن أكدت الصين بأن الهدف منه غير ذلك. وأصرّت على ضرورة التعاون والتنسيق في ما بين المؤسسات المالية الكبرى في آسيا.

فالعالم كله يمر في مرحلة تغيّرات هائلة بعيدة الشبه عما كان عليه الوضع العالمي طوال قرنين من الزمن. ولكن هذه التغيّرات لم تتبلور اتجاهاتها في تشكّل المحاور والتكتلات، أو في إرساء نظام عالمي جديد راح يتسّم بتعدّد القطبية المتصارعة والمتعايشة في آن حتى الآن.

وبالمناسبة، وبلا انسجام مع ما تقدّم، لا بدّ من أن يحزن المرء وهو يجد اسم فيتنام من بين المتحالفين مع أمريكا ضدّ الصين. وهي التي فقدت حوالى ثلاثة ملايين من شعبها وعانت دمارا شبه كامل في حربها التحرّرية ضدّ أمريكا. وكانت الصين الداعم رقم 1 لها، إن لم تكن الداعم الرئيس الوحيد في بعض المراحل، فيا قسوة ما تؤول إليه الحال في بعض الأحوال. فمن ذا يمكنه تصوّر هذا المآل لفيتنام.

- بين الأصل والتفرّعات: والتفرّعات أصول

ثمة حملة شعواء يثيرها البعض في الغرب ضدّ الإسلام باعتباره الأساس والمرجعية التي توّلدت منها حركات يصفها بالإرهابية، أو أيّة حركة متطرفة حتى لو كانت عصابة إجرام عاديّ.

وهنالك من يذهبون هذا المذهب من بعض العلمانيين في بلادنا ليس بالنسبة إلى الحركات العنفية المتطرفة فحسب وإنما أيضاً يُرجِعون كل تخلف تعاني منه أمّة العرب أو المسلمين، بعامّة، إلى الإسلام نفسه.

وقد تجد هذا النهج مستخدماً في الصراعات الأدنى، إذ يُصار إلى اعتبار تنظيم بعينه، أو مفكّر، أو عالِم بعينه، مسؤولاً عن كل ما يمكن أن يكون تفرّع منه أو مرّ به، أو نُقِلَ عنه، أو انتسب إليه من حركات واتجاهات. وهذا ما نجده عند الذين يحمّلون حركة الإخوان المسلمين، مثلاً، مسؤولية كل فرد أو مجموعة سبق ومرّت بها ثم خرجت منها، أو حتى لو خرجت عليها، وهو ما ينطبق كذلك على إعادة عشرات الحركات إلى فكر سيد قطب، أو كتاب له مثل “معالم في الطريق”. وعليه قس.

وهو ما حدث شبيه له في التجربة الأوروبية بالنسبة إلى ماركس وهيغل والماركسية والحركات اليسارية والاشتراكية، بل تراه يتكرّر عند كثيرين ممن يدرسون الفكر الفلسفي أو الاجتماعي أو السياسي، وما يتفرّع من مدارس فكرية.

إن هذه العلاقة التي تقوم بين الأصل والفرع، أو بين مصدر وتداعياته، أو بين حالة وما تنتسب إليه بحق أو بلا حق، يمكن أن تُناقَش من زاويتين: الأولى الزاوية المعرفية الصرف لتحديد العلاقة وطبيعتها، والثانية أغراض الاستخدام الذي يذهب إلى الطعن بالابن أو الحفيد (مع فارق الشبه) من خلال الطعَن بالجد، أو العكس فيحمَّل الجد المسؤولية من خلال الطعَن بالابن والحفيد. طبعاً لندع الزاوية الثانية جانباً. لأننا هنا أمام حالة استخدام، ولسنا أمام حالة بحث معرفي أو بحث عن حقيقة. وقد قالت العرب قديماً: “الغرض مرض”. والمرض في هذه الحالة عُضال ولا يَحتمل المناقشة.

ولهذا إن هذه الظاهرة (تفرّع عن أصل أو الانتساب إليه) تكاد أن تكون عامّة لا يفلت منها دين، أو مذهب، أو فكر، أو نظرية، أو مدرسة ثقافية، أو سياسية، أو اجتماعية، وكذلك يكاد لا يفلت منها حزب أو حركة. فالقانون الجاري العام هو أن حدوث التفرّع من أصل، أو مصدر، أو قل صدور فكر ما عن فكر سبقه: تُخرج حالة مختلفة ويجب أن تُعامَل كذلك. ولو أخذنا حالات، الانشقاق والارتداد والانحراف، مثلاً وهي التعبيرات التي يُطلقها الأصل على فرع منه خرج عليه للمسنا المغايرة بوضوح. ولكن هذه الأوصاف تكشف كم الانفصال عميق وحاد. وهو عكس نهج الذين يربطون الفرع بالأصل أو الأصل بالفرع ربطاً يهدف إلى التوحيد بينهما وهنا يدخل الغرض في أغلب الحالات.

من يدقق في هذه الظاهرة يمكنه أن يلحظ أن كل تفرّع حين يصل إلى حدّ التبلور يتمايز تماماً. ويجب أن يُعامَل باعتباره منظومة قائمة بذاتها، وتُحاسَب على ما هي عليه، ولا يؤخذ الأصل الذي تفرّعت عنه بجريرتها، ولا أن يُعتَبَر الأصل هو المسؤول عنها فتُقرَأ من خلالها. وهو ما ينسجم مع محاسبة كل إنسان في الآخرة فرداً.

فالمنهج السليم هنا، مثلاً، ألاّ تُقرَأ الجماعات الإسلامية أو التيارات التي تفرّعت عن الإخوان باعتبارها امتداداً “شرعياً” أو “مشروعاً” لهم، فيحملون وزرها، أو تحمل وزرهم. فالمنهج الصحيح أن تُقرَأ كل حالة باعتبارها منظومة قائمة بذاتها، ولا يُصار إلى البحث عن العائلة والأنساب ويُبنى عليها كما يحدث في الحياة الاجتماعية عند المصاهرة أو الزواج. فالقانون الحاكم هنا غير القانون الحاكم هناك.

إن مجرد خروج فرد أو جماعة عن الإطار الذي تكوّن فيه تبدأ عملية التمايز والإفتراق، وإذا تبلور هذا “الجديد”: الإبن أو الحفيد، بعد حين يبين كيف أننا أصبحنا أمام حالتين مغايرتين أو في الأقل أمام حالتين يتوجّب قراءة كل منهما باعتبارنا أمام منظومتين.

ولعل مَثَل خروج داعش من القاعدة يقدّم نموذجاً صارخاً كيف أننا أمام حالتين مختلفتين كيفياً حتى لو أُدرجتا بسبب سياسات معيّنة في إطار الإرهاب كما يفعل الكثيرون في وضعهما في ذاك الإطار. وليس أدلّ مما وقع ويقع من حرب بينهما على أننا أمام حالتين ليستا مختلفتين فحسب وإنما أيضاً متحاربتين. فكيف لا يُراد أن يُرى أن كلاً منهما يقوم بذاته. ومن ثم فإن كل خلط من خلال محو الحدود بينهما لا يفيد المعرفة الصحيحة وحتى لا يخدم حُسن إدارة الصراع.

هذا حدث في الإسلام مثلاً أو في المسيحية بالنسبة إلى ما تشكّل من مذاهب وطوائف. وحدث مثله في داخل المذهب الواحد والطائفة الواحدة. كما له أمثلة في التجربة الماركسية والقومية والليبرالية، وفي أغلب الحركات والثورات والأحزاب والمدارس والفلسفات. بل وحتى في مجالات الشعر والأدب والفن فقد تجد شاعراً تأثّر بشاعرِ آخر ولكن برغم ذلك نكون أمام شاعريْن مختلفيْن. وعليه قس.

المشكلة في منهج الذين يستخدمون القانون الذي يتحكم بالسلالات والتناسل في دنيا البشر والحيوان أو النبات ليطبقوها حرفياً على عالم العقائد والأفكار والفلسفات والحركات والأحزاب والمذاهب والاتجاهات والجماعات، أو يسحبون القوانين الحاكمة مجالات العلوم الرياضية والطبيعية أو التكنولوجيا وتطوّرها على مجالات العقائد والفلسفات والمذاهب والأفكار. فعلى سبيل المثال إن الجماعات التي تخرج من بعضها ليست مثل الهواتف الذكية التي تتناسل جيلاً بعد جيل في حالة من التراكم والبناء طبقة على طبقة. ففي حالة المدارس والأفكار والجماعات فالقانون لا يقوم على التراكم والبناء طبقة على طبقة. وإنما على التعدّد والتنوّع والتصارُع والتضاد (وحتى إسالة الدماء).

طبعاً هنالك مناهج حاولت أن تجد علاقة تراكمية أو طبقية (بناء طبقة فوق طبقة) في عالم الأفكار والسياسة أو بين القيادات، والعهود، انطلاقاً من تشابُه عهديْن في الحكم أو في بعض الحالات الإيجابية وليس في حالات التضاد والاختلاف والسلب. ولكن حتى في الحالات التي ورث عهد عن عهد سبقه لم يدم التراكم أكثر من عهديْن وفي أحسن الحالات ثلاثة عهود في تاريخ الثورات والدول والأنظمة. ولكن مع ذلك عند التدقيق، وعلى المستوى المعرفي يجب قراءة كل عهد كمنظومة قائمة بذاتها لها خصوصيتها. ومن ثم يُصار إلى إثبات الرابطة التي أخذت شكلاً تراكمياً أو بنت طبقة على طبقة في عالم الدول والعهود والأزمنة.

على أن المنهج السليم كقانون عام هو أن لا يُصار إلاّ الربط الآلي أو التناسلي أو التناسخي بين الأصل وتفرّعاته أو يُصار إلى الدمج بينهما ليصبحا واحداً إذ لكلٍ منظومته. وإذا ما بدا تشابُه أو تقاطع في نقطة ما او جانب ما فلا يعني أنهما أصبحا واحداً. لأن ما هو شبيه يعمل ضمن منظومة متكاملة أخرى بما لا يجعل الشبيهين واحداً. فاستخدام العنف، مثلاً هنا وهناك ليس واحداً. وإن حمَل الاسم نفسه لأن فعل كل منهما يجب أن يُرى ضمن منظومته، ويُقرَأ على ذلك الأساس.

يُروى عن كارل ماركس أنه دُعِيَ لمحاضرة يلقيها شاب مفكر عن الماركسية. وبعد انتهاء المحاضرة التي لقيت استحساناً سئل ماركس عن رأيه فقال: أنا سعيد لأنني لست ماركسياً.

هذه الحادثة تؤكد أن انتقال فكر من مصدره ولو على سبيل الشرح يُخرج شيئاً آخر فكيف حين لا يكون شرحاً وإنما جماعة جديدة في زمان آخر وفي مكان آخر وفي ظروف أخرى؟ الأمر الذي يوجب أن يتعامل بدرجة عالية من الاستقلالية أو الامتداد عن الأصل. فلا يُحمَّل الأصل ما قد يُقترف من أخطاء أو خطايا فكيف إذا كانت جرائم لا تُغْتَفَر.

- تشييع سبعة شهداء عظام

كوكبة من سبعة شهداء شُيِّعوا في قضاء غزة بعد أن قُتِلوا نتيجة انهيار نفق عليهم فارتقوا إلى جنّة الخلد إن شاء الله. وقد خرجت الجماهير قطاع غزة بقضَّها وقضيضها، وبمشاركة كل الفصائل، لوداعهم وإيداعهم في مثواهم إلى جانب الآلاف من الشهداء والشهيدات قدّمتهم غزة في الكفاح ضدّ العدو الصهيوني.
فإلى جانب الخسارة التي مُنِيَت بها المقاومة وكتائب القسّام بفقدان ثابت الريفي قائد مجموعة في الوحدة القسّامية، ومعه غزوان الشوبكي وعز الدين قاسم، ووسيم حسونة، ومحمود بصل، ونضال عودة وجعفر حمادة، وجميعهم من الأبطال الذين خاضوا معارك المواجهات الصفرية البطولية في الحروب السابقة ولا سيما في حرب صائفة 2014، والتي أنزلت هزيمة عسكرية ميدانية بالجيش الصهيوني بل بنخبته المقاتلة الطليعية التي أعدّها إعداداً خاصاً لخوض حرب ميدانية. وذلك خلافاً لعامّة الجيش الذي تحوّل منذ 25 عاماً وأكثر إلى قوات شرطة في مواجهة الانتفاضتين السابقتين 1987 و2000، كما مواجهة المقاومة، بأشكالها اليومية، أو قل حماية الاحتلال والاستيطان.
على أن استشهاد هذه الكوكبة من الشباب المقاوم وهم يعدّون الأنفاق يحمل مجموعة من المعاني والأبعاد التي يجب ألاّ نمرّ بها مرور الكرام. وإنما تستحق التأمل وأخذ العبرة وتصحيح الكثير من الأفكار والسياسات حول حماس والجهاد والمقاومة في قطاع غزة.
إن أول ما يجب التوقف عنده أن عقد هدنة، أو وقفاً لإطلاق النار، لا يعني كما يشيّع البعض التخلي عن المقاومة، أو التراجع السياسي عن مواصلة المقاومة، وإنما هي حالة حرب، بل هي استمرار للحرب، لأن الإعداد الجاد للحرب، وفي مقدّمها التجربة العسكرية الفلسطينية في قطاع غزة، بالنسبة إلى حفر الأنفاق ضمن إعداد دفاعي-هجومي، كما تجلى بصورة خاصة في حرب 2014، هو الحرب بعينها، وهو مستوى من المقاومة المسلحة في أعلى مراتبها. بل لا يختلف عن الاشتباك نفسه. لأنه شرط الاشتباك في ظروف اللاتكافؤ في السلاح، ولا سيما في الطيران والتكنولوجيا والقنابل الذكية وكثافة النيران.
فكتائب عز الدين القسّام، وإلى جانبها كتائب سرايا القدس، وعدد من كتائب المقاومة الأخرى ما زالت في حالة حرب يومياً بل وفي كل ساعة ودقيقة، وهو ما يؤكدّه استشهاد هؤلاء الأبطال. ولذلك على كل من راح يتجاهل ما يعانيه قطاع غزة من حصار ظالم لا سيما من الجانب المصري، ولا يُعلي الصوت ضدّه، كما على كل من راح يشكك في نيّات حماس وسياساتها من دون أن يأخذ في عين الاعتبار ما يجري في قطاع غزة من إعداد للحرب، أن يُراجعا أنفسهما وما يُلحقانه من ظلمٍ وتجنٍّ على مقاومة ما زالت في مقدّمة المواجهة مع العدو الصهيوني.
صحيح أن بعض السياسات قد تؤخَذ على حماس. ولكن المعيار الأساسي للحكم والتقويم يجب أن يرتكز على ما يجري من مقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس. فها هنا تُقرَأ البوصلة ويحدّد المعيار. وبالمناسبة حدثت الإشكالية نفسها منذ أوائل السبعينيات الماضية في تقويم فتح حيث كانت بعض سياساتها غير متطابقة مع بُعدها المُقاوِم على الأرض. مما ذهب بالبعض إلى الارتكاز على تلك السياسات وعدم تغليب الجانب المتعلق بالممارسة الفعلية على تلك السياسات في الحكم والتقويم العام. على أن الممارسة هي سياسة أيضاً بل هي الحَكَم الأول في الحُكم على حركة سياسية. بل حتى في الحُكم على الفرد الواحد. طبعاً هذا لا يعني إغفال أهميّة البُعد السياسي حين يُناقِض الممارسة. ولكن ما ينبغي له أن يطغى على الصورة ويقدّم ذلك البعد الأهم والأقوى دلالة ألا وهو بُعْدُ الممارسة.
أما ثان يما يجب التوقف عنده فهو عدم إغفال هذا البُعْد المُقاوِم من الصورة عند تقويم صورة الوضع العربي. وقد أخذت الظواهر السلبية تطغى في التقويم العام إلى حد لم يعد يُرى معه، أو يُذكَر، ما في صورة الوضع العربي من جوانب مضادة لهذه الظواهر السلبية.
فإلى جانب ما تعبّر عنه المقاومة في قطاع غزة والانتفاضة في القدس والضفة الغربية والمقاومة في لبنان وعدد من الحراكات الشبابية فضلاً عما يعبّر عنه رأي عام عربي واسع ينتقد مظاهر الفتنة الطائفية والمذهبية وتيّارات التكفير، وما يُرتكَب من جرائم واستباحة للدماء. بل أن انتشار الحديث عن تدهور الوضع العربي وما أخذ يسود على سطحه من سلبية يحمل في طيّاته رفضاً لهذه السلبية ومقاومة لها وعدم الرضا عما يجري. وهو ما تجده حتى عند عدد كبير من المنساقين وراء مظاهر الفتنة إذ تراهم ينخرطون فيها من جهة وينتقدونها في الجانب الآخر من جهة ثانية وذلك باعتبارها تعصّباً مذموماً. الأمر الذي يحمل نقيضه عملياً.
ولهذا يجب أن تصحّح قراءة صورة الوضع العربي العام من زاويتين الأولى أن ما يظهر من سلبيات يجب ألاّ يطغى على الصورة ويظن أنه المستقبل وأن الأمور سائرة من سيء إلى أسوأ. فالمستقبل العربي لا يمكن أن يكون للتكفير، أو للجرائم العشوائية أو للتعصب وتفكيك أواصر وحدة الشعب والأمّة. وما يجري من صراعات وانقسامات في ما بين قوى الكتلة التاريخية، أو بين القوى والدول الرئيسة يسير في اتجاه مضاد للوجود ولمصالح كل المكوّنات. وأما الزاوية الثانية فإن السلبيات الناجمة عن تلك السلبيات مثل بحور الدماء والكوارث الاجتماعية سوف تفرض إعادة البحث عن الثوابت التي تحقق الوحدة من جديد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 67 / 2165286

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المراقب العام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165286 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010