السبت 30 تموز (يوليو) 2016

الإرهاب.. غاية ووسيلة

السبت 30 تموز (يوليو) 2016 par د. عصام نعمان

يُجمع العالم، أو يكاد، على إدانة الإرهاب. لكنه لا يجمع على محاربته. السبب؟ لأن ثمة اختلافاً بين الحكومات على تحديد هوية الإرهابيين ومدى ضلوعهم في أفعال جرمية. ثم هناك اختلاف على طرق التعامل معهم.
ذلك كله يضعف قضية مواجهة الإرهاب، ويتيح للإرهابيين فرصاً للإفادة من التناقضات من أجل تعزيز وجودهم وإجرامهم. غير أن الأخطر من ظاهرة الإرهاب ظاهرة التماهي معه. ثمة أشخاص في كل أنحاء العالم ليسوا أعضاء عاملين في تنظيمات إرهابية، لكنهم متعاطفون مع بعضها بعضاً، نفسياً، أو عقائدياً، أو سياسياً، إلى حدّ التماهي معها.
وللتماهي مع تنظيمات الإرهاب مراتب، أدناها التعاطف سراً أو علناً مع أحدها، وأقصاها القيام بعمل إجرامي يحاكي أعمالها الإرهابية، من دون التنسيق مع التنظيم الإرهابي موضوع التعاطف، أو التماهي، ولا حتى إعلامه بما يُراد عمله.
بعد اقتراف الجرم المدوّي، يعلن الإرهابي «الهاوي»، من تلقاء نفسه أو نتيجة ضغوط المحققين معه، انتماءه إلى التنظيم الإرهابي الذي يتعاطف، أو يتماهى معه.
بعض الإرهابيين «الهواة» يُقتل في العملية الإرهابية التي يقوم بها من دون أن يترك آثاراً تدل عليه، لكن سرعان ما يعلن أحد التنظيمات الإرهابية -«داعش» غالباً - تبنّيه لها.
وتُطلق وسائل الإعلام على الإرهابيين «الهواة» من غير الأعضاء في التنظيمات الإرهابية «المحترفة» مصطلح «الذئاب المنفردة». هؤلاء باتوا يشكّلون ظاهرةً لا تقل خطورة عن ظاهرة الإرهاب المحترف والمعلَن، ذلك أنهم ذاتيّو الاندفاع، لا يكلّفون التنظيم الإرهابي الذي يتماهون معه أي نفقات نقل، وانتقال، وإعالة وتدريب، متواجدون في كل أنحاء العالم، وقادرون تالياً على التخفّي والعمل دونما عونٍ خارجي.
إلى ذلك، يصعب على أجهزة الأمن والاستقصاء اكتشاف «الذئاب المنفردة»، والقضاء عليها قبل قيامها بأفعالها الجرمية، في حين يسهل عليها تحديد هوية وأمكنة تواجد التنظيمات الإرهابية المعلنة والناشطة، خصوصاً تلك التي تمكّنت، كـ «داعش» مثلاً، من السيطرة على مناطق ومدن في العراق وسوريا، وأنشأت فيها «دولة» لها، ما يماثل الأجهزة والمؤسسات في الدولة المعاصرة.
تنظيم «داعش» أدرك قبل سنوات أن المتضررين من أفعاله الجرمية - وبينهم دول كبرى- عازمون على تدمير «دولته» في العراق وسوريا، فقرر، بحسب معلومات خاصة حصلت عليها صحيفة «ذي غارديان» البريطانية، التركيز على السكان والأفراد بدلاً، من التركيز على الأرض، ربما لعلمه بأنه لن يستطيع الاحتفاظ مدةً طويلة بقاعدته الأرضية. أكثر من ذلك، تبيّن من المعلومات الخاصة التي كشفتها الصحيفة البريطانية قبل أشهر أن «داعش» قرر زيادة أعداد الإرهابيين المحترفين المرسلين إلى دول أوروبا، وانه نتيجة هذا القرار العملاني جرى تنفيذ عمليات إرهابية مدوّية في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، فضلاً عن أعمال إرهابية متفرقة قامت بها «ذئاب منفردة» في دول أوروبية عدّة.
ما الغاية المرتجاة من زيادة العمليات الإرهابية في دول أوروبية، متّهم بعضها بدعم «داعش» وغيره في عملياته المشرقية؟
بات واضحاً أن العمليات «الداعشية»، بموجب سلوكية «إدارة التوحش»، هي غاية ووسيلة في آن. الغاية هي تدمير هدف بشري أو مادي يعتبره «داعش» معادياً، لحمل صاحبه على وقف حربه عليه، أو لحمله على مهادنته ودعمه بالمال والسلاح، اتّقاءً لشره. والوسيلة هي استعمال العمليات الإرهابية للتأثير والأغراء والتغرير، ولاجتذاب عناصر بشرية تُؤخذ وتُسحر بعمليات عنف مدوّية تحاكي المشهديات السينمائية الخيالية المرعبة.
لا غلوّ في القول إن كل مختلٍّ عقلياً أو نفسياً هو مشروع إرهابي صالح للانخراط في «داعش»، أو للتحوّل ذئباً منفرداً متعاطفاً، والإعلان تالياً عن انتمائه إلى التنظيم المقتدر الذي عجزت دول كبرى عن هزمه أو تطويعه. لعل الجريمة المرتكبة قبل أيام في كنيسة قرب مدينة روان، شمالي فرنسا، تكشف الصعوبات التي تكتنف الإحاطة بـ«الذئاب المنفردة»، وإحباط نشاطها.
إنها حرب طويلة. فهي، خلافاً للحرب النظامية بين الدول، تخوضها قواتها الأمنية ضد أفراد، غالباً ما يكونون مجهولين، متواجدين في كل البلدان، وكل الأمكنة والأزمنة، وقادرين بأدوات فتك بسيطة ارتكاب أفظع الجرائم.
هذه الظاهرة - المعضلة تطرح سؤالاً ملحاحاً: ما العمل؟
إن سلوكية بعض التنظيمات الإرهابية، ولاسيما «داعش»، تشير إلى أنها ضد العالم كله، وتحارب النظام العالمي الراهن الآخذ في الترهل والانحلال.
إن الأسلوب العسكري النظامي قد فشل فشلاً ذريعاً في مواجهة الإرهاب، ولا سيما الإرهاب «الداعشي»، وإن استمرار اعتماده من قبل الدول المعنية بمحاربته سيجعل الحرب ضده طويلة ومُكلفة.
في ضوء هذه المعطيات يمكن استنتاج ثلاثة مناهج لاعتمادها في مواجهة الإرهاب: أولها، ضرورة قطع الدول والحكومات المتعاونة مع التنظيمات الإرهابية كل صلة، أو دعم لها فوراً، وبلا إبطاء، وإعلانها عدواً للجنس البشري والعالم بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، ومنظمة الأونيسكو، والفاتكيان، والأزهر الشريف.
ثانيها، ضرورة اجتراح أساليب وخطط غير تقليدية في مواجهة الإرهاب، تكون مقرونة بمجهودات ثقافية لتربية الشباب تربيةً مدنية ديمقراطية مغايرة.
ثالثها، ضرورة أن تجترح هيئات المجتمع المدني لنفسها دوراً ثقافياً واجتماعياً في مقاومة الإرهاب، محلياً وإقليمياً ودولياً، وإقامة مؤسسة أهلية عالمية بميزانية وازنة، وأجهزة فاعلة لمواجهته كونياً بمنهج طويل النَفَس، مفعماً بقيم ومفاهيم ومواثيق إنسانية متجددة وصالحة لبناء نظام عالمي جديد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 49 / 2178782

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عصام نعمان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2178782 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40