الاثنين 3 أيار (مايو) 2010

لا دائم إلاّ المؤقت

الاثنين 3 أيار (مايو) 2010 par د. عصام نعمان

إستبقت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون اجتماع وزراء الخارجية العرب اواخرَ الاسبوع الماضي بإعطائها الضوء الأخضر لإنطلاق محادثات التقريب بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية.

قبل كلينتون ، اعرب بنيامين نتنياهو في مؤتمر لناشطي حزب ليكود عن سروره لقرار محمود عباس استئناف المفاوضات ، وان ذلك سيتم خلال هذا الاسبوع . وكان عباس قد اعلن قبله ، بلغة عربية فصيحة خلال مقابلة اجرتها معه القناة الثانية للتلفزة الإسرائيلية ، إستعداده للعمل مع نتنياهو بغية إجراء مفاوضات من اجل التوصل الى اتفاق شامل .

المفاوضات المنوي إستئنافها ، يتوافق الجانبان على تسميتها “مفاوضات غير مباشرة”. غير ان بعض المسؤولين في الولايات المتحدة واسرائيل ، يطلقون عليها تسمية “محادثات تقريب” Proximity Talks ، اي تقريب وجهات النظر بين الجانبين .

تقتضي الإشارة الى ان محادثات التقريب تجري عادةً بين طرفين (او اكثر) مختلفين وليس بالضرورة متنازعين ، بمعنى انه يوجد اساسٌ للتفاهم بينهما يشوبه بعض التباين او الغموض ما يستوجب تقريب وجهات النظر لترسيخه . لعل اقرب مثال لهذه المنهجية ما جرى التعارف على تسميته في عالم الإسلام بـِ “التقريب بين المذاهب”. فالإسلام هو جوهر مختلف المذاهب الإسلامية ، والتقريب بينها إنما يهدف الى ازالة بعض وجوه التباين او الالتباس في علاقات بعضها ببعضها الآخر بغية الوصول الى كلمة سواء بينها .

من المؤسف إعطاء هذا المثال لتفسير محادثات التقريب بين طرفين ، عربي واسرائيلي ، لا اساس دينياً او قومياً او ثقافياً بينهما لتبرير اللجؤ الى محادثاتِ تقريبٍ . لكن الواقع يشي بحقيقة مؤلمة هي وجود اساس سياسي لتفاهمٍ ضمني بين بعض الاسرائيليين ، مسؤولين ومواطنين ، وبعض العرب والفلسطينيين الذين بينهم كثرة من المسؤولين وقلة من المواطنين حول استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والصهاينة المحتلين .

للوصول الى مخرجٍ من المأزق الذي جُمدت فيه ما يسمى “العملية السياسية” منذ اشهر ، مارست الولايات المتحدة ، ومن ورائها اسرائيل ، شتى انواع الضغوط على العرب الممانعين وحتى على العرب “المعتدلين” .

جرى تهديد الممانعين مباشرةً من قبل اسرائيل . فقد حذّر ايهود باراك سوريا بشن الحرب عليها اذا ما قامت بتزوبد حزب الله اسلحةً متطورة كاسرة للتوازن . بإزاء تحذير باراك ، هدد احد الجنرالات الاسرائيليين سوريا بتدبير وحشي فاقع : “إعادتها الى العصر الحجري” !

الى ذلك حمّل وزير الحرب الاسرائيلي لبنان مسؤولية قيام حزب الله بأي عملية ضد اسرائيل في الداخل او الخارج ، مهدداً بإستهداف البنى التحتية للحكومة اللبنانية ومرافقها العامة .

هيلاري كلينتون حذرت سوريا ولبنان من مغبة نقل صواريخ “سكود” الى حزب الله ، وألمحت الى ان “سؤ التقدير” قد يتسبب بنشوب حرب اقليمية . لكن ، وخلافاً لتقديرات تل ابيب وواشنطن ، لا لبنان ولا سوريا اصيبا بالذعر نتيجةَ التهديدات الاسرائيلية والاميركية . فالرئيس السوري بشار الاسد علّق عليها بأنه متعود على سماع تهديدات اقسى ، وقد تجاوزها جميعاً . مثله بدا الرئيس اللبناني هادئاً في تكراره استعداد لبنان ، حكومةً وجيشاً وشعباً ومقاومةً ، لمواجهة اي عدوان اسرائيلي.

لعل أوضح ردود الفعل على التهديدات الاسرائيلية واقساها جاء من طرف ايران . فقد صرح النائب الاول للرئيس الايراني محمد رضا رحيمي في مؤتمر صحافي في دمشق أن ايران “ستكون الى جانب البلد الصديق سوريا في كل الحالات لمواجهة الاعداء الذين يفكرون بإعوجاج . واذا كان الغاصبون لاراضي فلسطين يريدون ان يقوموا بعمل ما ، فستُقطع ارجلهم بمقدار ما يعتدون”.

الضغوط على العرب “المعتدلين” تولّته الولايات المتحدة بالوسائل الديبلوماسية . نتج عنها مسارعة وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط الى زيارة لبنان لتحذير حكومته وطمأنتها في آن : تحذيرها من مغبة “التضامن” مع حزب الله ، وطمأنتها بأن تهديدات اسرائيل هي مجرد ضغوط سياسية لحمْل العرب على دعم مفاوضة الفلسطينيين لإسرائيل ، وان السلطة الفلسطينية تتجه فعلا الى ذلك بعدما جرى توجيه الدعوة الى محمود عباس لزيارة واشنطن ومقابلة الرئيس اوباما . هناك سيحصل ابو مازن ، بحسب صحيفة “الغارديان البريطانية ، على ضمانات من شأنها إقناعه بجدوى استنئاف المفاوضات . اما سائر العرب”المعتدلين" ، فقد تجاوبوا مع المساعي الاميركية بترتيب اجتماع لوزراء الخارجية العرب اعضاء لجنة المبادرة العربية الذين جددوا دعمهم لإجراء مفاوضات غير مباشرة .

بات واضحاً ، اذاً ، ان عقبات شتى أزيلت من طريق “محادثات التقريب” ، وانها ستبدأ قريباً . لكن ، عمّا ستدور هذه المحادثات وما عساها تُنتج ؟

ليس من يطرح هذا السؤال أهلُ الممانعة والمقاومة بين العرب والفلسطينيين وحسب بل الاسرائيليون ايضا . هم يتساءلون : ما الذي يمكن تجديده في ما يتعلق بعمليةِ سلامٍ “جربنا خلالها الاشياء كلها” ولم نتوصل الى سلام ؟ وهل يوجد في جعبة ميتشل ، الوسيط المناوب ، وصفة كانت غائبة عن اذهان اسلافه الفاشلين كلهم ؟

لعل الكاتب السياسي ألوف بن هو أفضل من يعبّر عن العقل السياسي الصهيوني بكل تلاوينه في صحيفة “هآرتس” المستقلة ( 28/4/2010) . يقول بن إن اسرائيل ترغب فعلا في التحرر من وطأة السيطرة على الفلسطينيين التي تثير ضدها اعتراضات بإنتهاج سياسة التمييز العنصري . لكنها ، في الوقت نفسه ، ترغب في ان تبقى محتفظةً بمعظم المناطق الفلسطينية المحتلة وبالمستوطنات وبالسيطرة الامنية على الضفة الغربية ، وفي ان تكون لها سيادة حصرية على القدس. لذا ، فإن الحل الاسرائيلي كامن في رفع مكانة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس وسلام فياض الى مكانة دولة ذات حدود مؤقتة . بذلك تتحرر اسرائيل من مسؤوليتها عن الفلسطينيين ، على ان تتم مناقشة الخلافات المتعلقة ببقية المناطق المحتلة وبالقدس وباللاجئين في وقت لاحق بين دولتين كل منهما ذات سيادة ، اسرائيل وفلسطين ، لا بين احتلال وناس خاضعين له .

ويتبرع ألوف بن بعرض وجهة نظر الفلسطييين اعضاء سلطة عباس وفياض وانصارهم بقوله إنهم يرغبون في تحرير اقصى ما يمكن من وطنهم التاريخـي وطرد الجنود والمستوطنين الاسرائيليين والحفاظ على التأييد الدولي . لذا ، فإنهم يتمسكون بالحل الداعي الى إقامة دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود 1967 ، مع عملية تبادل اراضٍ محدودة ، وتقسيم القدس لتصبح عاصمتين للدولتين، وعودة عدد مقلّص من اللاجئين الى داخل اسرائيل .

يلاحظ بن ان عباس ما زال يرفض التسوية المؤقتة ، في حين ان نتنياهو غير جاهز للحل الدائم . بناء على ذلك ، فإن السؤال المطروح هو : هل يمكن جَسْر الفجوات بين الجانبين ؟

يجيب بن عن سؤاله بالقول إنه يبدو ، بعد مرور عام واحد على محاولات عقيمة لتجميد الإستيطان ، ان اقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة هي الحل الافضل من الناحية العملية ، سواء تمّ تنفيذه من خلال اتفاق بين الجانبين او بخطوة من جانب واحد تُقدم عليها اسرائيل ، لأن هذا الحل يتلاءم مع القيود السياسية المعلنة لدى كل من اسرائيل والسلطة الفلسطينية.

يتوقع بن أن تكتفي اسرائيل ، في حال تنفيذ هذا الحل ، بتفكيك بعض المستوطنات والبؤر الإستيطانية وتظلّ محتفظةً بالسيطرة الامنية على الضفة الغربية ، ولا تقترب من موضوع القدس ، في حين ان الفلسطينيين لن يكونوا مطالَبين بتقديم اي مقابل مثل الإعتراف بيهودية الدولة او التنازل عن حق العودة اللذين يطالب نتنياهو بهما كشرط لحل دائم . ومع ذلك فإن هذا الحل، يعترف بن ، سيُبقي الخلافات المتعلقة بأكثر الموضوعات حساسية على حالها ، الامر الذي يعني انفجارها عاجلاً ام آجلا.

ويشير بن الى ان نتنياهو يعتقد ان المخرج الوحيد من الجمود الحالي كامن في تسوية مؤقتة يكون جوهرها إقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة ، لكنه يخشى إعلان تأييده هذه الفكرة علناً . وهو يفضل ان ينفذها رغماً عنه ، اي تحت وطأة ضغوط اميركية او في مقابل قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربة لإيران ، تماماً مثلما فعل رئيس الحكومة السابق اريئيل شارون بالإنسحاب من غزة في اثر قيام الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن بإحتلال العراق.

هذا ما يجول في العقل السياسي الاسرائيلي ، بحسب الكاتب السياسي ألوف بن ، من افكار وسيناريوهات حيال المأزق الراهن للعملية السياسية وكيفية الخروج منه . وهي افكار وسيناريوهات تتوافق ، إن لم تكن تتطابق ، مع ما يجول في العقل العربي “المعتدل” ، اي عقل المسؤولين العرب والفلسطينيين الذين ما زالوا مؤمنين بجدوى استئناف المفاوضات مع اسرائيل وفق الترتيبات الاميركية . فسلام فياض دعا جهاراً نهاراً الى اعلان دولة فلسطينية مستقلة في العام 2011 على “حدود” العام 1967 ، اي على حدود مؤقتة هي خطوط الاحتلال الاسرائيلي الراهن الذي تجاوز ، بسيطرته الامنية وتوسعه الإستيطاني ، اتفاقات اوسلو للعام 1993 . واذا كان محمود عباس لم يعلن صراحةً ، بعد ، موافقته على طروحات فياض ، فإنه يُخشى ان يوافق عليها ، بشكلٍ او بآخر ، بعد عودته من مقابلة الرئيس الاميركي .

الى هذا التقارب اللافت بين طروحات نتنياهو ومن يجاريه من الاطراف الصهيونية داخل حكومته وخارجها ، وبين فياض ومن يجاريه سراً او علناً من الاطراف الفلسطينية ، يتضح ان ثمة تسوية مؤقتة بين الجانبين جرى ويجري توليفها برعاية ادارة اوباما . التسوية مؤقتة كما سائر التسويات التي جرى اعتمادها في الماضي حول قضية فلسطين . فالغرب الاطلسي يعتمد ، حيال اسرائيل ، وبضغط من الصهيونية العالمية ، قاعدةً ثابتة هي ان اسرائيل دولة استثنائية ، ومعاملتها يجب ان تكون استثنائية حتى لو اقتضى الامر ان تبقى ، كما هي اليوم ، خارج اطار القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة.

يتحصّل من ذلك كله، ان اي تسويات تجري مع اسرائيل يجب ان تحظى بموافقتها المسبقة وألاّ تشكّل عبئاً عليها . وهي تسويات مؤقتة ، بمعنى انها تعكس نسبة القوى في ظروف محددة ، لكنها تبقى قابلة للتعديل لاحقاً اذا ما اقتضت مصلحة اسرائيل ذلك ، وفي اي وقتٍ ترى انه في وسعها إجراء التعديل المطلوب وفق شروطها .

الولايات المتحدة وسائر دول الغرب الاطلسي مكّنت اسرائيل من تجاهل جميع القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين ولاسيما لجهة إقامة دولة مستقلة ، واعتماد القدس الشرقية عاصمةً لها ، وعودة اللاجئين ، ووقف بناء الجدار الفاصل ، وفك الحصار عن غزة وسواها من القرارات . في كل هذه القضايا وغيرها جرى اعتماد تسويات مؤقتة ، أُكرَه الفلسطينيون على إلتزامها وُسمح لاسرائيل بتجاوزها بل بنقضها متى وجدت ذلك ممكناً وملائماً .

لا دائمَ إلاّ المؤقت في مفهوم الغرب الاطلسي لمعالجة الصراع العربي – الاسرائيلي. والمؤقت يبقى مؤقتاً وانتقالياً حيال اسرائيل ايضا كي يكون خاضعاً لإستنسابها وقابلاً بالتالي للتعديل او النقض.

أهل الممانعة والمقاومة مدعوون ، إزاء ذلك كله ، الى اعتبار اسرائيل ظاهرةً استعمارية مؤقتة ، وان تحرير فلسطين يكون بإزالة النظام الصهيوني العنصري وبتكريس حق شعبها بالحرية والعدالة والكرامة ، وبإقامة دولته الديمقراطية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 73 / 2178753

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2178753 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40