الجمعة 12 أيار (مايو) 2017

جهاد الماء والملح

الجمعة 12 أيار (مايو) 2017 par عبدالرزاق قسوم

أشهد أن الفلسطيني من أعظم ما خلق الله في العرب والمسلمين. إنه الإنسان العجيب الذي ما فتئ يقدم لنا -من خلال المعاناة- أبلغ الدروس في الفداء والابتلاء، ويلهم الإنسانية بأنبل القيم في الجهاد والاستشهاد.

يبدع الفلسطيني، كل يوم في نحت المقولات والمفاهيم، ليجسدها في واقع المقاومة والجهاد، فمن أطفال الحجارة، إلى طائرات أبابيل، ومن الاستبسال بالطعن، إلى الجهاد بالأمعاء الخاوية، وبالماء والملح، وتلك هي فلسفة الموت من أجل الحياة.

تبارك الذي خلق الفلسطينيين شعباً يقاوم ولا يساوم. فهم، شيبا وشباباً، كهولاً وأطفالاً، ذكوراً وإناثاً، جبلوا على الصمود والتصدي، لمقاومة العدوان والتحدي.

إن ذلك ما نعيشه هذه الأيام، من خلال إخوتنا الفلسطينيين، بكل أنواع الشموخ، والإقدام، والإباء...

فهل أتاكم نبأ الطفل الذي يقدم على طعن أعدائه وهو يبتسم؟ والفتاة التي تنتقم من غاصب أرضها، ومغتصب عرضها، بالحزام الناسف، والجرح النازف؟ والأسير مكبّل اليدين، والرجلين، فيقدّم أمعاء خاوية من الأكل، ويجترح جهاد الماء والملح بديلاً عن قمع الأعداء، وغذاء الدخلاء؟

هكذا تقف الإنسانية متبلدة بلهاء أمام هذا النوع الفريد من العطاء، الذي يعدم الفلسطينيين في أقبية السجون، وتحت قبة السماء، فلا نعرف شعباً في الأرض أبلى مثل هذا البلاء، وفعل كما يفعل أبناء فلسطين النبلاء، فقد نضبت عيون الثكالى والأرامل من الدموع، من شدة البكاء، وبحت أصوات اليتامى من تعالي نداءات الإغاثة المتعالية إلى عنان السماء.

ويتحدثون عن أسطورة المحرقة على أيدي النازيين، وماذا تساوي هذه –إن وجدت- أمام الجرح الغائر النازف منذ عشرات السنين في أجساد الفلسطينيين؟ كيف يكون جواب منفذي وعد بلفور الذين لا يملكون، وأعطوا لمن لا يستحقون؟ وكيف يبرر الكبار في الأمم المتحدة، الذين اتحدوا على سلب حقوق الملايين المشردة؟ وماذا بقي لأبناء فلسطين، بعد أن شردت جموعهم، وصودرت ربوعهم، واغتصبت نجوعهم، سوى رباعياتهم ودموعهم؟

إن من حق الشعب الفلسطيني، بعد أن تحالف ضد حقه، العربي، والدّعي، والأجنبي، وتنكر لدولته الحليف واللفيف، من حقه أن يكفر بمدريد وأوسلو، وأن يجعل كل ما أمكن من أسلحة المقاومة، ينمو ويعلو، فلا يهادن، ولا يسادن، وليفاوض زعماؤه، أو عملاؤه، فلن يلزمهم في شيء ما يفعلون، ولن يفت من عزائمهم عما هم مقدمون عليه ومصممون. فقد انقضت ستون سنة على النكبة، ولا تزال القضية الفلسطينية، في ما قبل الصفحة الأولى، الحرب الإبادية المستمرة، وعدوانية الصهاينة المتغطرسة المشمخرة.

ولئن جهل أو تجاهل أعداء الإنسانية أبعاد الاحتلال، وتخلوا عن أصحاب المقاومة والنزال، وانحازوا إلى أهل الباطل والضلال، فقد فهم المكتوون بنار هذا كله، وهاهم يجودون، بكل ما هو رخيص وغال، بدءا بذات الحال، وانتهاء بصاحب المقال.

ويمينا بره لا حنث فيه، كل المستضعفين بدءا بالعرب العاملين والمستغربين، أن قضية فلسطين هي أول الخير وآخره، فما لم تحل هذه القضية المصيرية، على أساس من الحق والعدل، وما دامت تنهب أراضيها، ويشرد أهاليها، فإن الدور سيأتي على كل أشقائها ومجاوريها، فالشر لا بنود له، والظلم لا حدود له.

نقول هذا، وقد ابتلينا بأسوإ أنواع الشر، وأشد أنواع الظلم، فما خلصنا منه إلا بوحدة الصف، ونبل الهدف. ذلك هو الدرس الذي علمتنا إياه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي نحتفل هذه الأيام بانقضاء ما يزيد على الثمانين سنة على ميلادها، حين صاح فينا رائد النهضة ابن باديس في رائعته الدستورية الخالدة، متوجها بها إلى... الرجاء، أن أقلع جذور الخائنين، واهزز نفوس الجامدين، وأذق نفوس الظالمين، فمنهم كل العطب.

وحين صاح فينا إمام التحرير محمد البشير الإبراهيمي: “إن الاستعمار شيطان، وإن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عدوا”.

ذلك هو درس الأولين، وذلك يجب أن يكون درس الآخرين.

فهذه الجمعية، جمعية العلماء، وهي خير جمعية أخرجت للناس، نريدها في ذكرى الثمانين أن يستلهم منها أشقاؤنا في فلسطين، معالم جهادهم المقدس، الذي يخوضونه من فوق الأرض، ومن تحت الأرض، وأن يجعلوا من أمعائهم الخاوية، قنابل تنفجر في كيان الأعداء، ومن جهاد الماء والملح لهباً ولهيباً، يحرق الأعداء والعملاء، والجبناء، والدخلاء، ولا نامت أعين الجبناء. ففي الوقت الذي ينعم فيه غير الفلسطينيين بتناول أحلى المآكل والمشروبات، ويتلذذون بأطيب الأطباق الشرقية والغربية، يمتنع المجاهدون الأسرى، عن تناول فُتاة السجون الصهيونية، صابرين محتسبين، فداء للقضية.

إن الفلسطيني المارد، الذي يقدم لنا أبلغ دروس الاستبسال والمقاومة، ليس في حاجة إلى رجال يقاومون، ولا إلى شبان يستشهدون، ولكنه في حاجة إلى المال الذي يقوي زناده، والدعم الذي يعزز جهاده، والسلاح الذي يحرر بلاده.

فمزيداً من الصمود يا إخوتنا القابعين في السجون... وصبراً صبراً يا آل البرغوثي، يا من باعتصامكم، وخواء أمعائكم، تنيرون لنا الدرب، وتفتحون لنا طريق التحرر، والخلاص من آل صهيون!

إن بوادر النصر قد لاحت، وإن غطرسة دولة أعدائكم قد بادت، وانهارت، ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2178364

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع عبدالرزاق قسوم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2178364 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 22


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40