الجمعة 4 آب (أغسطس) 2017

سقوط بوابات سليمان

الجمعة 4 آب (أغسطس) 2017 par أحمد الدبش

اصبح من الواضح -اليوم- بفَضل المكتشفات الأثرية، أن المملكة “الداودية ــ السليمانية”، سراب خرفي، وأنه لم يتم -أبداً- العثور على أي دليل آثارى، سواء كان كتابة أو نقشاً، أو حتى نقش يقبل التفسير، أو في نصوص تقبل ـحتى- التأويل، يمكن أن يشير إلى أثر للمملكة “الداودية ــ السليمانية”، وهيكل سليمان، في بلادنا فلسطين.

إلا أن عالمة الآثار د.كاثلين كينون، تذهب بعيداً، في دفاعها عن سليمان، ونشاطاته المعمارية، متأثرة بالتوراة؛ تقول في كتابها “الكِتاب المقدَّس والمكتَشَفَات الآثاريَّة الحديثة”: “توجد مجموعة من المدن، تتصل بعهد سليمان، ويمكن تسميتها مدنه الملكية: (حاصور/ Hazor)، و(مجدو / Magiddo)، و(جازر/ Gazer)؛ وهذه المدن مرتبطة بعمله في أورشليم؛ فقد ذكر في سفرِ الملوك الأول (9: 15): وَهذَا هُوَ سَبَبُ التَّسْخِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِبِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِهِ وَالْقَلْعَةِ وَسُورِ أُورُشَلِيمَ وَحَاصُورَ وَمَجِدُّو وَجَازَرَ”.

عندما نقبت بعثة المعهد الشّرقي لجامعة شيكاغو موقع “تل المُتسلِّم” في العشرينيات والثلاثينات (من القرن الماضي)، نُسبت بعض أكثر آثار ذلك الموقع إلى العصر الحديدي، القرن العاشر ق.م، وبالتالي إلى فترة سليمان. فموقع “تل المُتسلِّم”، حدده الآثاريّون على أنه “مجدو”، منذ بدايات البحث الآثاري في فلسطين، وفقد اسمه الأصلي بعد عام 1948، ليُصبِح “مجدو”.

ربط العلماء آثار الطبقة الرابعة من موقِع “تل المُتسلِّم” [مجدو]، بمشاريع البناء الضخمة، المنسوبة إلى سليمان، في الكتاب المُقدس؛ فقد جاء أسلوب البناء، الذي قورِن بسفر الملوك الأول (7: 12): “وَلِلدَّارِ الْكَبِيرَةِ فِي مُسْتَدِيرِهَا ثَلاَثَةُ صُفُوفٍ مَنْحُوتَةٍ، وَصَفٌّ مِنْ جَوَائِزِ الأَرْزِ. كَذلِكَ دَارُ بَيْتِ الرَّبِّ الدَّاخِلِيَّةُ وَرِوَاقُ الْبَيْتِ”؛ وهناك مجموعة الأبنيَّة بأعمدة، في “تل المُتسلِّم» [مجدو]، أيضاً، وهي ما ربطت بسفرِ الملوك الأول (9: 15)، بما جاء فيها:”وَهذَا هُوَ سَبَبُ التَّسْخِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِبِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِهِ وَالْقَلْعَةِ وَسُورِ أُورُشَلِيمَ وَحَاصُورَ وَمَجِدُّو وَجَازَرَ".

وفي السفرِ نفسه (9: 19): “وَجَمِيعَ مُدُنِ الْمَخَازِنِ الَّتِي كَانَتْ لِسُلَيْمَانَ، وَمُدُنَ الْمَرْكَبَاتِ وَمُدُنَ الْفُرْسَانِ”؛ وفيما بعد، دعم هذا الرأي إيجال يادين (Yigal Yadin)، الجنرال السابق في الجيش الصهيوني، وأحد الشخصيات الرئيسية في الآثار الصهيونية، المبرمجة لتربط نفسها، وبشكل مُصطَنَع، بتاريخِ شعوب انقرضت، عندما قارن بوابات “تل المُتسلِّم” [مجدو]، و“تل القدح” [حاصور]، و“تل الجزري” [جازر]، فخلال إشرافه على أول حملة تنقيبية شاملة، في الخمسينات من القرن الماضي، في موقِع “تل القدح” [حاصور]، اكتشف يادين بوابة رئيسية، في سورِ المدينة المزدوج، ذات نمط خاص. فهي عبارة عن ممر عريض، تحف به ست غرف، ثلاث عن اليمين، وثلاث عن اليسار.

وقد أرجع المنقب السور، إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وعزا بناءها للملك سليمان. وبما أن بوابتين متشابهتين، كانتا قد اكتشفتا بشكل جزئي، في كل من “تل المُتسلِّم” [مجدو]، و“تل الجزري” [جازر]؛ فقد انتقل يادين، مباشرة، إلى “تل المُتسلِّم” [مجدو]، وأعاد التنقيب في موقعها، فكشف عن بقيَّة أجزاء البوّابة، التي تبين له تطابقها، من حيث التصميم مع بوّابة “تل القدح” [حاصور]. وبما أن الظروف لم تسمح له بإعادة التنقيب في “تل الجزري» [جازر]؛ فقد ذهب إلى المكتبة! وعمد إلى وضع رسم تخطيطي، للجزء غير المُكتَشَف من بوابتِها، وجاء التصميم هنا، أيضاً، مشابها مع تصميم البوابتيْن الأخرتيْن. وقد أَرجع يادين، تاريخ بوابتي”تل المُتسلِّم“[مجدو]، و”تل الجزري" [جازر]، إلى القرنِ العاشر، أيضاً، واعتبرهما من بناءِ سليمان.

ويبدو الجانب الأيديولوجي، الذي ينطوي عليه ربط الكتاب المُقدس، بالآثار المكتشفة، للمدن الفلسطينية، كـ “تل المُتسلِّم” [مجدو]، و“تل القدح” [حاصور]، و“تل الجزري” [جازر]، في العبارة التالية للجنرال الصهيوني يادين: "إن الجهود الآثارية، الرامية إلى الكشف عن بقايا مباني سليمان، وهو أعظم بناء من بين ملوك إسرائيل، هي جزء من النشاط المثير، للتنقيبات في الأرض المقدسة، على مدى السبعين سنة الماضية».

في هذا الصدد يقول المنقب أمنون بن تور -الذي يُشرِف، منذ أواخر التسعينيّات، على حملة تنقيبية شاملة، في موقع “تل القدح” [حاصور]؛ في دراسة مطولة، نُشِرت على حلقتين، في مجلة علم الآثار التوراتي، خلال عام 1999 ــ ما يلي: "لسنوات طويلة، كان تأريخ يادين للبّوابات الثلاث، موضِع جدل، وأخْذٍ، ورَد. ولكن تأريخ يادين يواجه اليوم نقداً قوياً، لعدد متنوِّع من الأسباب؛ وخصوصاً من قبل المنقبين، العاملين في موقع (مجدو) [تل المُتسلِّم]، الذين يقفون على رأسِ معارضي أساليب يادين في التأريخ. ومعظم هؤلاء يرجعون تاريخ البّوابات، إلى القرن التاسع قبل الميلاد. تتَّخِذ هذه المعارضة الآن أهمية خاصة؛ لأنها تأتي في سياقِ الجدل، الدائر في الحلقاتِ الأكاديميَّة (في إسرائيل، وخارجها)، حول تاريخيَّة عصر المملكة الموحَّدة. ذلك أن فريقاً من الباحثين اليوم، لا يكتفي بوصفِ إنجازات داود، وسليمان، على أنها نوع من المُبالغات النصيَّة، في كِتابِ التوراة، بل يذهب إلى القولِ، بأن أولئك المُلوك، كانوا شخصيّات خياليَّة..).

وبعد أن ينتهي المنقب من تلخيص نتائج حفرياته، في موقع “تل القدح” [حاصور]، يقول بخصوص البوّابة الشهيرة، ما يلي: “ولكن هل نستطيع أن نعزو البوّابة، والسور المزدوج، إلى الملك سليمان؟ لسوء الحظ، فإنًّ البيّنة الآثاريَّة، لا تسمح لنا بتقرير تاريخ، على هذه الدرجة من الدِقَّة”. يقول توماس طُمسن، الذي شاركَ في عمليّات التنقيب، بموقِع “تل الجزري” [جازر]، في أواخر الستينيّات، عندما كان في طَورِ التدريب الميداني، في كتابه “الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)، ما يلي:”تم ربط وَصْف سِفر الملوك الأول (9: 15) الموجز، لبناءِ سليمان أسوار، تحصِّن بلدات أورشليم، وحاصور، ومجدو، وجازر، ببوابة، وحِصن، تم التنقيب عنهما، في موقِع حاصور القديم، في الجليل الشرقي. وتم التنقيب عن بوّابة شبيه معاصرة، في مجدو.

هذه البوّابة لم يتم بناؤها، وِفق تصميم معماري مُشابِه جداً، فحسب، بل إن كُتلتها الحجريَّة الهائلة، قد قَطَعَت بالتِقنِيَّة نفسها تماماً. في حين لم يتم العثور، على أي شيء من هذه الفترة، في أورشليم، فإن موقع جازر، نَقَّبَ فيهِ البريطانيّون، في وقتٍ مُبكِّر، من القرن العشرين، وتم العثور فيه على نصف بوابة مُشابهة جداً، ذات قياسات مُماثلة.

ومع ذلك، فإنها لم تلق أي اهتمام؛ لأنها رُبِطَت خطأ، ببناء يعود إلى العهد الهيليني. في عام 1966م، قرر المنقِّبون في “جازر” (تل الجزري)، التنقيب عن النصف الثاني المفقود، من بوابة “جازر” [تل الجزري]. كان مؤلِّف هذا الكِتاب، عضواً صغيراً في الفريق الآثاري، الذي عَثَرَ على هذا البناء، في جازر، في حفريَّة النبع (1967م).

مع أنَّ الجُهد الكبير كان مُتمركِزاً، في العثورِ على هذه البوّابة، وتحديد هويّتها بتلك (الآثار)، الموجودة في “مجدو” [تل المُتسلِّم]، و“حاصور” [تل القدح]؛ فقد كان واضحاً للتوِ، قبل أن تُخرَق الأرض، أنها كانت (بوّابة سليمانيَّة)، وأنها مُعاصِرة لـ (البوَابات السليمانيَّة) الأخرى، في “مجدو» [تل المُتسلِّم]، و”حاصور" [تل القدح]. إن شكل البوّابة، ومقاساتها، قد أكَّدت ذلك.

تم تعديل المدن، و(الكرونولوجيَات) (الستراتيغرافيَّة) (التطبيقيَّة)، المرتبطة بها، للمواقع الثلاثة الكبرى، بشكل سريع، ومشؤوم، على قاعدة ما كُنّا نَعتبِرهُ، آنذاك، فصولاً من الكِتاب (مُثبَتَة تاريخياً). هذا الإثبات المُفتَرَض لتاريخيَّةِ فعاليّات بناء سليمان، لم تؤثِّر، فقط، على فهمِنا، وتأريخِنا لتلك المواقع؛ بل إنها، أيضاً، قادت كثيراً من المؤرّخين والآثاريّين، إلى تأكيد العَظَمَة الثقافيَّة، والماديَّة، والسياسيَّة، للـ (المَلَكِيَّة المتَّحِدَة).

بدأت هذه (الفبرَكة) بالتصدع، عندما كشفت فرق التنقيب “الإسرائيلية”، عن بوابات مشابهة أخرى، في موقِع أشدود، اللا “إسرائيلي”، وفي موقِع “لخيش”، في المنخَفَض الساحلي الجنوبي. لقد أَرجَعَ المنقِّبونَ، تاريخ هذه البوّابات، إلى زمنٍ لاحِق، بمقدارِ قرنٍ كامِل، ونسبوها إلى فترة آثاريَّة، مختلفة تماماً عن بوّابات “حاصور” [تل القدح]، و“مجدو” [تل المُتسلِّم]، و“جازر” [تل الجزري]. وفي سنوات قِصار قليلة، أصبحت (البوّابات السليمانيَّة المزعومة). فمع تراكُم المزيد، والمزيد من المعلومات، بدأ المؤرِّخونَ تخفيض مَملكة، وإمبراطورية شاوول، وداود، وسليمان، إلى مرتبة (مَشيَخَة قِبَلِيَّة).

في حين أن قضية تحديد تاريخ هذه البوابات، وقضية العِمارة (التذكاريَّة)، المنسوبة إلى فلسطين القرن العاشِر، أو بعد ذلك بشكل مُرجَّح أكثر، إلى القرن التاسع، تستمر في كونِها مَوضِع سِجال، من قِبَل الآثاريّين الميدانيّين. فقد أصبح من الواضح، أننا نَفتقِر إلى أي (كرونولوجيا) صالِحة للاستعمال فعلاً، لأجل هذه الفترة.

أما عالم الآثار إسرائيل فينكيلشتاين ـ ورغم أننا لا نتفق مع كل المنطلقات النظرية للأثري “الإسرائيلي”، أو مع بعض استنتاجاته التي وصل إليها بخصوص بعض جوانب التاريخ الفلسطيني القديم، إلا أن ذلك لا يمنعنا من إدراك أهمية بحثه ـ-استند التَّعرف على تحديد هُويَّة الآثار الباقية من عهد داود وسليمان -وفي الواقع من عهد المُلوك الذين تلوا في القرن التّالي- على صنفَين من الأدلَّة. لقد تم ربط انتهاء الفخاريات الفلسطينية المتميزة (المؤرخة بسنة 1000 ق.م) بفتوحات داود، بشكل وثيق. كما تم رَبْط بناء البوَّابات والقُصور التّذكارية في “مجدو” [تل المُتسلِّم]، “حاصور” [تل القدح]، “جازر” [تل الجزري] بعهد سليمان.

ولكنْ؛ في السنوات القليلة الأخيرة، بدأ كلا الدّليلين بالتّهاوي والسُّقُوط. فالتحليل المُجدَّد لأنماط الفنَّ المعماري والأشكال الفخَّاريَّة في الطبقات السُّليمانيَّة المشهورة في مجدو، وجازر وحاصور بأنها تُؤرخ -في الحقيقة- إلى بدايات القرن التاسع ق.م؛ أيْ بعد عُقُود من موت سليمان!

وأخيراً؛ نتوصل إلى أنه، لم تكن هناك مملكة “داودية - سليمانية” كبيرة، توصف أحياناً بالإمبراطورية، ولم تكن هناك عاصمة تسمى بـ “أورشليم”، ولم تكن هناك بوابات سليمانية، ولم تكن هناك أبنية تذكارية ضخمة!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 56 / 2166047

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع نوافذ  متابعة نشاط الموقع أحمد الدبش   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2166047 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 25


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010